“كل هذا يتنفس”.. عيادة للطيور في قلب دلهي العملاقة المريضة
يغسل نديم -وهو أحد أخوين يديران عيادة الطيور في مدينة دلهي الهندية- طير الحدأة السوداء في سطل مليء بالماء والصابون، يمر الشاب الهندي بحنان على رقبة الطير، ثم ينتقل إلى الأجنحة، بينما يبدو الطير مستسلما ومستمتعا بهذه الرعاية الرحيمة المفاجئة التي أنقذته من موت محقق كان ينتظره في المدينة الهندية العملاقة.
الفيلم الوثائقي “كل هذا يتنفس” (All That Breathes) للمخرج الهندي “شوناك سين”، يتابع يوميات عيادة الطيور التي يديرها نديم مع أخيه سعد، في قبو البناية التي تعيش فيها عائلتهم بأحد الأحياء الفقيرة في مدينة دلهي، وهي عيادة بسيطة المعدات يديرها الأخوان وبعض المتطوعين، بدوافع بدت غامضة في بداية الفيلم، لكنها ستتكشف عبر زمنه.
يبدأ الفيلم بمشهد كابوسي ستتكرر أمثاله في مواقع أخرى من الفيلم، لفئران تتحرك في الفجر بكل مكان في موقع بدا سوقا شعبيا للخضار، وليس بعيدا عنها كانت حيوانات أخرى كالكلاب والقطط والطيور تحاول أن تحصل على غذائها قبل أن يفيق البشر من نومهم، ثم يزاحموهم على المكان والهواء.
هكذا يؤسس المخرج الهندي الشاب لعالم فيلمه الذي سيجمع فيه بين مشاهد عوالم شاعرية سيعثر عليها في الحياة اليومية العادية في مدينة هائلة الحجم مثل دلهي، وبين فعل الاقتراب والمراقبة للحياة اليومية لعيادة الطيور، والتحديات التي تواجهها، وكذلك المصائر القلقة لهذه العائلة بسبب خلفيتها العرقية والاجتماعية، إذ أنها تنتمي للأقلية المسلمة في البلد، وستجد نفسها متهمة بشتى التهم، وتعاني من العنف الذي يمرّ عليه الفيلم قليلا.
هاجس الحرب النووية.. عنف طائفي يؤرق مسلمي دلهي
يتشارك العاملون في العيادة الخوف من حرب نووية قادمة، ليس من المعروف كيف بدأ الحوار الذي سجل بعضه الفيلم، لكن الأخوين كانا يتحدثان بخوف يتخلله بعض المزاح مع المتطوعين بالعيادة في واحد من مشاهد الفيلم الافتتاحية عن قنابل الهند وباكستان النووية، ومن سيدمر الآخر أولا.
وفي مشهد آخر، كانت العائلة المسلمة تتابع على شاشة التلفاز بخوف ظاهر مشروع قرار تقدم به أحد الأحزاب الهندية، ويدعو الحكومة لعدم قبول لاجئين مسلمين من باكستان أو بنغلادش أو من الدول المجاورة للهند، واقتصار القبول على ديانات أخرى، وبالخصوص الهندوسية.
يسأل سعد الموجودين معه في بيتهم بسخرية مغلفة بالجدية عن ما إذا كانت باكستان ستقبل لجوء عائلتهم المسلمة لها، بينما بدأ أبو العائلة مهموما، وكأنه يعرف أن هذه الاخبار المتناثرة عن احتقان عرقي وديني يمكن أن تتطور إلى عنف مدمر، وكذلك ستتطرق العائلة في مناسبة أخرى لاسم محمد الموجود في لقبها، وعن ما إذا كان هذا الاسم سيزيد الصعاب على العائلة في المستقبل.
تتجه الأحداث في مدينة دلهي للسوداوية عندما ينفجر عنف طائفي وعرقي أثناء تصوير هذا الفيلم الوثائقي، ويسجل الفيلم مشاهد لتغطيات الإعلام في المدينة الهندية لعنف وصل إلى الشارع، وأدى لأذى كبير وتدمير لأحياء كاملة.
لم يشأ الفيلم أن يغوص كثيرا في تفاصيل تلك الأحداث أو الذين يقفون خلفها، لكنه يُظهر في مشهد مؤثر الأخ الكبير لعائلة، وهو يجلس على عتبة بيته لحمايته من أي عنف قد يصل اليه، وبعد أن أرسل النساء والأطفال في العائلة إلى مكان بعيد آمن.
الحدأة السوداء.. أوقات عصيبة تقيد طيور دلهي الساحرة
يصل نديم إلى عيادته محملاً بعلب من الورق المقوى الذي عملت فيه فتحات، وسنعرف أن هذه العلب مخصصة لنقل الطيور المريضة أو الجريحة التي تصل إلى العيادة، وأن الفتحات لدخول الهواء للطيور العليلة.
تختص العيادة الصغيرة بنوع من نادر من الطيور يدعى الحدأة السوداء، وهو من فصائل ما يعرف بالطيور السوداء، وتمتاز هذه الطيور بجمالها الأخاذ، وما يقال عن علاقتها بدورة الطبيعة في الأمكنة التي تعيش فيها، إذ أن مرضها الجماعي دليل على مشاكل في النظام البيئي العام.
يوازن المخرج بين المشاهد التي تظهر الطيور وهي تمر بأوقات عصيبة أوصلتها إلى العيادة الطبية، وبين مشاهد لها وهي تطير بفخر فوق المدينة، وكيف كانت تمد أجنحتها الواسعة الجميلة في الهواء، وتبدو وكأنها تسلم نفسها للريح التي تحملها عاليا.
مكب النفايات.. طيور تصلح ما أفسده الإنسان خارج المدينة
في واحد من المشاهد الكوميدية المتعددة في الفيلم، يخطف طير كان يحمله نديم على سطح بنايتهم نظارته، ويطير بها وسط ذهول الشاب الذي كان حبه للطيور يجعله يغفر هذا السلوك غير المتوقع.
يذهب الأخوان إلى خارج المدينة، حيث تتجمع طيور الحدأة السوداء للبحث عن مصابين بينها، ويسخر أحد الأخوين من مستوى الماء المنخفض في نهر المدينة، وكيف يمكن أن يكفي كل البشر فيها، ناهيك عن الحيوانات التي تأتي دائما في المرتبة الثانية.
كما يزور الفيلم مكبا هائلا للنفايات خارج العاصمة، حيث تتجمع أيضا طيور الحدأة السوداء، ويشرح خبير للفيلم أن لهذه الطيور فائدة بيئة، فهي تأكل كثيرا من النفايات، وبهذا يقل الضغط على المدينة لتدوير نفاياتها.
دفن الطيور.. مشهد حزين يزيد حزن العائلة المتأزمة
بينما كان نديم يجري عملية على طير في عيادته، ينقطع التيار الكهربائي في العيادة، بيد أن هذا لن يوقف الفريق الصغير، فيواصل العمل مستعينا بمصابيح يدوية. تعاني العيادة من قلة الموارد، حتى أن القبو الصغير المخصص لعلاج الطيور هو مكان لتخزين أغراض العائلة، ومكان عمل الإخوة ودراستهم.
يصور الفيلم بدون حوارات مباشرة الحياة اليومية للعيادة وللعائلة التي تعيش فوق العيادة، نعرف من خلال المشاهد أن العائلة تعاني مثل غيرها من وضع اقتصادي صعب، ومشاكل صحية. يحضن الأخ الكبير في العائلة ابنه الصغير الذي أصبح يمرض كثيرا في الأشهر الماضية، وربما يعود ذلك إلى التلوث الكبير في المدينة العملاقة.
يتنقل الفيلم بين أزمات العائلة، وبين الطيور المريضة التي تصل إلى العيادة، وفي واحد من المشاهد المؤثرة ينقل نديم مجموعة كبيرة من الطيور المريضة، ونعرف لاحقا أن قسما كبيرا منها سيموت بسبب الجروح والمشاكل الصحية الأخرى.
يضع الأخوان الطيور الميتة على سطح البناية، قبل تجميعها مرة أخرى لدفنها، وكانا أرادا لهذه الطيور أن تكون قريبة للهواء الخارجي والسماء الذي لطالما حلقت به. وفي منطقة خضراء تحفر حفرة عميقة للطيور الميتة، وسط حزن ظاهر على الجميع، إذ يمثل موت أي طير تذكيرا جديدا بقسوة المدينة في الخارج، ويزيد من اعتلال النظام البيئي المريض أصلا.
كائنات جميلة تأكل نفايات البشر القبيحة.. ثنائية الجمال والقبح
يتميز هذا الفيلم الوثائقي بمقاربته الجمالية الخاصة، وعرضه الفاتن للحياة البرية في مدينة شديدة الصعوبة مثل مدينة دلهي الهندية، ويقترب من التأمل وهو يراقب حياة الطيور، وحتى عندما يسجل مشاهد قاسية، مثل تلك التي تظهر هذه الطيور الجميلة وهي تتغذى على نفايات البشر القبيحة، كأعقاب السجائر التي تأكلها وتؤدي أحيانا لوفاتها، أو إدمانها على التبغ الموجود فيها.
كما يوسع الفيلم عدسته لتشمل حيوانات أخرى، فيصور في سلسلة مشاهد مذهلة قطيعا من القردة الصغار، وهي تتنقل على أسلاك الكهرباء الفوضوية عبر المدينة. هذه الثنائية بين قبح المدينة والحياة البرية التي تتسلل إليها تكررت كثيرا في سياقات الفيلم، وتضفي صبغة فلسفية عليه، وتدفع إلى التفكير بأحوال الحضارة التي نعيشها، والثمن الذي ندفعه بسبب هذه الحضارة.
والفيلم هو أيضا عمل تأملي عن الطيور، بما يرمز له من حرية كبيرة وقربه من عالم يبقى غامضا، ولا نعرف عنه الكثير. وهناك كثير من المشاهد المؤثرة التي تقطع سياق السرد، وتدفعه إلى وجهات جديدة، مثل ذلك المشهد الذي يظهر الأخوين مشغولين في العيادة بتطبيب أحد الطيور، قبل أن يصل صوت الأذان في الجامع القريب، ليضيف ذلك إلى سكينة العالم الصغير الذي تدور فيه الاحداث.
مشهد التحليق.. مشاهد إنسانية تبهج الفيلم الكئيب
رغم أن الكآبة تخيم على مناخات الفيلم، فإنه يضم كثيرا من الوقفات الإنسانية والكوميدية التي توازن أحيانا سوداوية الفيلم، مثل ذلك المشهد الطويل لسطح البناية التي تعيش فيها العائلة، فقد جرى ترتيبه ليكون جزءا من العيادة الطبية، إذ ستقضي الطيور فترة نقاهتها الأخيرة على سطح البناية.
يطلق نديم أحد من الطيور من سطح البناية، ليحلق بعدها في السماء، بينما كانت الابتسامة تغطي وجه الشاب الهندي كله.
يعود الفيلم إلى العائلة الهندية المسلمة بعد هجرة الأخ الكبير، ويصل إليه وهو في واشنطن، حيث كان يحاول أن يتصل بأخويه في دلهي، وقد بدا الأخ المهاجر في المشهد الختامي مهموما، بينما كان الأخ الآخر في الهند أكثر حيوية، وهو يخبر أخاه عن حال العيادة الطبية، وعن الخطط للمستقبل.
فاز الفيلم بالجائزة الكبرى في المسابقة العالمية لمهرجان صندانس الأمريكي في عام 2022، كما فاز بجائزة العين الذهبية في مهرجان كان السينمائي، ونافس أيضا على جائزة الأوسكار، وعرض في قائمة طويلة من المهرجانات السينمائية، وحصل على ثناء نقدي كبير أينما عرض حول العالم.