“جراح لا تلتئم”.. رصاصات عابثة توزع الموت يوميا في الشوارع الأمريكية

في الولايات المتحدة، تطلق النار يوميا على نحو 318 شخصا، الأمر الذي يعني أن أكثر من 116 ألف شخص يتعرضون لإطلاق نار سنويا.
يُلقي فيلم “جراح لا تلتئم” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- نظرة فاحصة على ضحايا الأسلحة النارية بعيون عائلاتهم، ليستكشف عنفا يوميا يتعرض له أناس أبرياء، وجراحا لا تلتئم تُحدثها قطعة صغيرة من المعدن فتدمر اللحم والعظم.
“هذا البلد يُعاني وباء مزمنا ربما لا يتعافى منه أبدا”
يقول المدير الطبي للصدمات بمركز “جيكوبي” د. “شيلدون تيبرمان” إن المجتمع بأسره يرزح تحت وهم أنه لا بأس بأن يُقتل 33 ألف مواطن بريء بلا أي ذنب على الإطلاق. ويُشير بفخر إلى أن أحد أسباب عدم وصول أعداد القتلى إلى 50 أو 60 ألفا سنويا هي أنهم طوّروا نظاما جيدا للصدمات، ويعملون على تحسينه منذ سنين.

ويُنظّم د. “إدوارد تشاو” مع فريقه نظام “محاكاة” للتعامل مع مصابي حادث إطلاق نار جماعي. وهنا يقول د. “شيلدون تيبرمان” إنهم يجب أن يمتلكوا نظاما لعلاج الصدمات ولخدمات الطوارئ الطبية ليكون كل شيء جاهزا قبل أن يُصاب أحد برصاصة.. “كلما فعلنا المزيد، كنا أفضل على الواقع”.
لكن “تيبرمان” يروي بتأثر عجزَه عن إنقاذ السيدة التسعينية “سيجي ميتشل” التي أُصيبت بطلق ناري أطلقه أفراد عصابات متصارعة، فأصابها خطأ وهي في منزلها. ويقول إن هذا الحدث كشف له أن “هذا البلد يُعاني وباء مزمنا ربما لا يتعافى منه أبدا. لقد لخّص هذا الحادث مدى الفساد الذي تتسبب فيه آفة العنف المُسلّح”.
علاج المصابين.. يد بيضاء لا تفرق بين الأخيار والأشرار
يُعالج مستشفى “تمبل” معظم ضحايا إطلاق النار في بنسلفانيا. وتقول رئيسة قسم الجراحة بالمستشفى د. “آيمي غولدبيرغ”: في مركز الصدمات لا يوجد أخيار وأشرار؛ فالجميع مرضى أُصيبوا بطلقات نارية، وعلينا العناية بهم. وقد ثبت طوال السنين أن كل مريض يدخل مركز الصدمات لديه في الخارج شخص يُحبه، لذا لا أُصدر أحكاما، ولا أُريد أن أعرف أي شيء عن ملابسات إطلاق النار على الإطلاق. وما نُحاول القيام به هو ملاحقة الضرر الذي أحدثته الرصاصة وإصلاحه.

ثم تتحدث عن تطور الرصاص خلال العقود الماضية: رأينا على مدار سنوات منذ عام 1993 وحتى عام 2019 أن عيار الرصاصة بات أكبر بكثير، وأن حجم الضرر الذي تُحدثه بات هائلا.
وتصف مشاعرها قائلة: عندما تكون في غرفة العمليات مع شخص تعرض لطلق ناري وأُصيب بعدة رصاصات، فاعلم أنك في وضع حرج للغاية، ففي غرفة العمليات يتنازعك الخير والشر؛ ويقول لك ملاك الخير إنك جرّاح ماهر وستنقذ المُصاب، بينما يُوسوس لك الشيطان بأنك لست مُتمكنا ولا تستحق أن تكون جرّاحا.
إنها مشاعر متضاربة يشعر بها العاملون في المجال الطبي. تقول د. “آيمي غولدبيرغ”: مع وصول المصابين يتعلق الأمر برعايتهم والحفاظ على أعلى مستوى للتركيز وعدم تشتت الانتباه بأي شيء، أما عندما ينتهي الأمر فيجب أن تُشتت انتباهك بكل شيء ممكن، لأنك حين تترك كل ذلك خلفك وتذهب لشأنك، فلن تستطيع التوقف عن التفكير في الأمر.
بريق العنف المسلح.. مكافحة الهوس بتقليد الأفلام والألعاب
أطلقت د. “آيمي غولدبيرغ” بالاشتراك مع زميلها “سكوت تشارلز” برنامج “من المهد إلى اللحد”، مع شعورهما بالحاجة إلى فعل المزيد للتقليل من هذه الإصابات قدر الإمكان. ويقول “تشارلز” إنهما يهدفان لتجريد العنف المسلح من بريقه عبر استضافة عدد من الشباب والمراهقين الذين قد يتأثرون بمشاهد إطلاق النار في الأفلام والألعاب الإلكترونية، ثم يحاولون تقليدها لاحقا.
ويقول “سكوت تشارلز” -وهو منسق التواصل مع ضحايا الصدمات بمستشفى جامعة “تمبل”- إن الهدف من البرنامج ليس إثارة الخوف، وإنما هو سرد لقصة مُحزنة تكون واقعية في أحيان كثيرة عند العيش في مدينة مثل فيلادلفيا التي تعرّض فيها نحو 25 ألف شخص لإطلاق نار منذ عام 2002. ويرى “تشارلز” أن العنف المسلح مُعدٍ، فهو كالمرض، عندما يُصاب به شخص ما، فإنه لا يبقى معه، بل يُصيب به غيره.

ويهدف البرنامج أيضا إلى توضيح عواقب الإصابة التي يُعاني منها الضحية مثل بتر الأعضاء أو إصابة شبان بالشلل.
وترى د. “غولدبيرغ” أنه من الجيد أن ينجو نحو 80% من ضحايا الإصابة بالأعيرة النارية، لكن السؤال المطروح هو: ما نوع الحياة التي سيتعيّن عليهم القبول بها؟ فبعضهم لا يزال في مقتبل العمر والمستقبل أمامهم، وإصاباتهم قد تكون مُدمّرة؛ بدءا من إصابات الدماغ المؤلمة إلى الشلل من الرقبة لأسفل الجسم، فهم يُدركون بأنهم باتوا عاجزين عن تحريك أذرعهم وأرجلهم وهم لا يزالون في العشرين من أعمارهم.
قبيلة الكراسي المتحركة.. حياة على المحك وحقوق مهدورة
أسست “فيكتوريا وايلي” -وهي قائدة مجموعة دعم الناجين المشلولين من العنف المسلح- منظمة غير ربحية تكريما لأخيها الذي قُتل عام 2008، وغالبية أعضاء منظمتها مصابون في عمليات عنف مسلح. يقول “جليل كينغ” -وهو ناجٍ من عنف مسلح- إن الكرسي المتحرك حاضر باستمرار في حياته.. فآخر شيء يقوم به كل ليلة هو القيام من هذا الكرسي، وأول شيء يقوم به عند الاستيقاظ هو الجلوس على هذا الكرسي.

أما “كورينا مارتن”، فقد فقدت قدرتها على الحركة بعد أن أطلق شريكها النار عليها، في بلد تُقتل فيه امرأة بالرصاص على يد شريك حالي أو سابق كل 16 ساعة. تقول “كورينا” إن الحادث غيّر حياة ابنتها المراهقة، وهو ما أضاف عليها عبئا نفسيا إضافيا، كما غيّر حياة أمها التي حوّلت الطابق السفلي من منزلها ليتلاءم مع نمط حياتها الجديد في العيش فوق كرسي متحرك.
وتؤكد “فيكتوريا وايلي” أن الخلل يكمن في سهولة الحصول على السلاح، فهو مثل الحصول على قطعة علكة، بل إن الحصول على السلاح الآن أسهل من الحصول على رخصة القيادة، وهذه هي المشكلة. ويتفق معها “جليل كينغ” الذي يقول والعبرات تغالبه: لقد تغيّرت حياتي بسبب سهولة الحصول على السلاح، أنا قلق بشأن مستقبلي، فربما لا أتزوج أبدا ولا يكون لدي أطفال، إنها حقوق سُلبت مني.
وتقول “فيكتوريا”: علينا كمجتمع القيام بعمل أفضل في تثقيف شبابنا ومجتمعاتنا في التعامل مع النزاعات حتى لا تُحسم بالسلاح.
“إنها اللحظة التي ألهمتني لدراسة الطب”
يعمل د. جوزيف سكران مديرا لطوارئ الجراحة العامة بمستشفى “جونز هوبكنز”، ويتحدث عن عدد من إصابات إطلاق الرصاص التي عالجها، لكنه لا ينسى قصته الشخصية؛ فقد أُصيب في عام 1994 -وهو ابن 17 عاما- برصاصة طائشة غيّرت حياته رأسا على عقب، وتحوّل من طالب شاب يتمتع بصحة جيدة إلى شخص كاد أن يفقد حياته برصاصة في حفل.

ويتذكر ما قاله له والده: ما حدث لك أمر مُروّع، لكن أمامك خياران: إما أن تشعر بالأسى على نفسك، وإما أن تتعامل مع هذه التجربة المُروّعة وتحولها إلى تأثير إيجابي على حياة الآخرين.
يقول د. سكران: إنها اللحظة التي ألهمتني لدراسة الطب، فقد أردت أن أصبح جرّاح صدمات، فما الذي يمكن أن يكون أكثر إرضاء لي من قدرتي على منح شخصا آخر نفس الفرصة التي مُنحت لي؟
“هذا شأننا”.. حملة طبية ضد وقاحة الاتحاد الوطني للأسلحة
إذا لم تكن الخسائر البشرية الناجمة عن العنف المسلح كافية، فهناك عبء اقتصادي رهيب، فمتوسط كلفة الإقامة في المستشفى تبلغ 96 ألف دولار لكل مصاب بطلق ناري، وتُشير بعض التقديرات إلى أن كلفة العبء الاقتصادي الإجمالي تتجاوز 220 مليار دولار.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2018، نشر الاتحاد الوطني للأسلحة تغريدة تقول: نصف المقالات في مجلة حوليات الطب الباطني تدعو للسيطرة على السلاح، لكن المزعج أن المجتمع الطبي لم يستشر أحدا سوى نفسه، فالأطباء لا شأن لهم بهذه القضية، وعلى الأطباء المناهضين للسلاح أن يهتموا بشأنهم فحسب.

شعر د. جوزيف سكران بغضب شديد من هذه التغريدة، فهذه المؤسسة ترى أن الأطباء المختصين في الرعاية الصحية لا علاقة لهم بهذه القضية، وهم من يقفون في الخطوط الأمامية لرعاية المصابين. وردا على ذلك فقد أطلق وسم “هذا شأننا” (#Thisisourlane)، وغرّد قائلا: بوصفي جرّاح صدمات وناجيا من العنف المسلح، لا أصدق وقاحة الاتحاد الوطني للأسلحة للإدلاء ببيان مثير للانقسام كهذا، فنحن نعتني بهؤلاء المرضى كل يوم، فأين تكونون عندما أُضطر لإخبار كل تلك العائلات بأنهم فقدوا أحباءهم؟

وقد جذب الوسم كثيرا من الاهتمام، وانتشر على نطاق واسع، ونشر بعض الأطباء صورهم وقد تلطخوا بدماء الضحايا الذين يُحاولون إنقاذهم، وكتب أحد الأطباء: عملي هو علاج الأوعية الدموية، وحين تعمل في مركز صدمات كبير فهذا يعني علاج أوعية دموية مزّقها الرصاص، وطريقي تحفّه الأجسام المهترئة جرّاء منتجاتكم.
“الوقوف في وجه العنف”.. مبادرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه
في حي “برونكس” -وهو أحد أشد الأحياء فقرا في نيويورك- أسس ناشطون برنامج “الوقوف في وجه العنف”، في محاولة للحد من العنف المسلح الذي يُسيطر على الحي. ومن أجل التواصل مع المنخرطين في استخدام السلاح، لجأ البرنامج إلى أفراد عصابات نجوا من حوادث إطلاق نار سابقة.
يقول “ميرفن مور” -وهو أحد هؤلاء الناجين من إطلاق الرصاص- إنه سُجن في سن مبكرة، قبل أن يدخل المستشفى في عام 2008 مصابا بعدة طلقات نارية، وقد أسهم د. “شيلدون تيبرمان” في إنقاذ حياته، ويقول إنه انخرط في هذا البرنامج، لأنه لا يريد لأي شخص آخر أن يعاني مثل معاناته.

ويرى المدير الطبي للبرنامج د. “نو رومو” أن بقاء الضحايا فترة طويلة في المستشفى للعلاج يُشكل فرصة ذهبية لهم للحديث معهم ومحاولة إخراجهم من دائرة العنف والسعي للثأر، ولا سيما إذا كان المتحدث شخصا من نفس منطقتهم وعانى مثل معاناتهم. ويشير إلى أن احتمالية عودة المرضى الذين تحدثوا إليهم بإصابات جديدة أقل بـ60% من أولئك الذين لم يتحدثوا إليهم.
يقول “كوامي تومسون” مشرف التواصل ببرنامج “الوقوف في وجه العنف”: نحاول القضاء على حالات إطلاق النار وجرائم العنف في المجتمع، من خلال الوساطة والتحدث إلى الأفراد الذين يُرجح أن يُطلقوا النار أو يُطلق أحد النار عليهم، فكل يوم يمر دون إطلاق نار يُعد بمثابة يوم سعيد لنا.

أما مدير التواصل المجتمعي بالبرنامج القس “جيه غودينغ” فيرى أن السبب الرئيس لوفاة الذكور في مجتمع ذوي الأصول الأفريقية من البالغين نحو 15 عاما هو العنف المسلح، وهو ثاني سبب للوفيات في نفس الفئة العمرية لدى ذوي الأصول الإسبانية. ويقول: لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي، فقد حان الوقت لنواجه العنف ونستعيد مجتمعاتنا، أرجوكم ضعوا أسلحتكم، فحتى الرصاصة الواحدة هي أمر جلل.
183 يوما مرت في منطقة عمل برنامج “الوقوف في وجه العنف” دون إطلاق نار، وهو أمر يفخر به العاملون في البرنامج، ولم يحُل دون استمراره إلا حادث قُتل فيه شابان، مما أصابهم جميعا بالحزن. ويقول المدير الطبي للبرنامج د. “نو رومو” إنه كلما وقع إطلاق نار في مناطق عملهم نفّذوا ما يُسمى بـ”الاستجابة لإطلاق النار”، إذ يخرج الفريق لمكان الحادث لإظهار أن هذا الأمر مهم، وليس مسألة طبيعية.
“أتذكر وجه كل أمّ قلت لها ذلك”.. ملامح الثكلى
يقول المدير الطبي للصدمات بمركز “جيكوبي” د. “شيلدون تيبرمان”: أحيانا لا يكفي المشرط والخياطة لتعويض الضرر الذي تُحدثه الرصاصة، وأسوأ يوم في حياة الجرّاح في مركز الصدمات هو حين يُضطر للخروج إلى الأم، ليقول لها إن ابنها لن يعود إليها أبدا.

ويستذكر المدير الطبي لبرنامج “الوقوف في وجه العنف” د. “نو رومو” جدته الحكيمة التي كانت تقول له إن المرأة إذا فقدت زوجها يسمونها أرملة، وإن الطفل حين يفقد أباه يسمونه يتيما، أما الأم إذا فقدت ابنها فليس هناك اسم أو وصف لذلك، ثم يقول: أُفكّر في هذا كثيرا، لأني أتذكر وجه كل أم قلت لها ذلك.
وتقول رئيسة قسم الجراحة بمستشفى جامعة “تمبل” د. “آيمي غولدبيرغ” إن ما قد يدفعها للتخلي عن عملها لن يكون الساعات الطوال أو الإرهاق، “بل عجزي عن إخبار عائلة أخرى أن أحد أفرادها قد مات”.
“الرصاص لا يحمل أسماء”.. أعداد تفوق ضحايا الحروب الأمريكية
في السنوات العشرين الماضية قُتل أكثر من 650 ألف أمريكي في حوادث إطلاق نار، وهو رقم يفوق عدد الجنود الأمريكيين الذين قُتلوا في الحرب العالمية الثانية وحروب كوريا وفيتنام والعراق وأفغانستان.
ويخلص “سكوت شارلز” منسق التواصل مع ضحايا الصدمات والعنف المسلح بمستشفى جامعة “تمبل”، إلى أن الأسلحة النارية تتعارض مع حياة الإنسان، وقد التي وصلنا إلى مرحلة تقبلناها فيها في هذا البلد.

ويلفت د. جوزيف سكران مدير الطوارئ الجراحة العامة بمستشفى “جونز هوبكنز” إلى أنه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت نسبة الوفيات مرتفعة جرّاء حوادث السيارات، ولم يُطالب أحد بالتخلص من السيارات، بل ابتكرنا أحزمة الأمان والوسائد الهوائية، وحاولنا جعل الطرق أكثر أمانا، وهذا هو النهج الذي يتعيّن علينا اتباعه مع الموت والإصابات الناجمة عن الأسلحة النارية في أمريكا.
في مسيرات متتالية يهتف الضحايا وأقربائهم: الرصاص لا يحمل أسماء، أوقفوا العنف المسلح في مجتمعاتنا، هذا هو الوقت الذي نحتاج فيه للتحدث بصوت عالٍ يسمعه الجميع.
وقد نظر الناس سنوات طوالا إلى هذه الكارثة على أنها قضية هامشية، لكن هذه النظرة تغيّرت الآن مع جهود العاملين في التوعية والإنقاذ من كارثة ما تزال مستمرة؛ فاليوم يوجد 69 برنامجا للتدخل ضد العنف منبثقا من المستشفيات في الولايات المتحدة، وتُشير الأبحاث إلى أن هذه البرامج قلّصت أعداد ضحايا حوادث إطلاق النار إلى النصف.