“ميسونتي”.. رحلة البحث عن جوهرة العائلة التي ابتلعها البحر

“الرحلة كانت قرارا خاطئا، الإنسان العاقل الذي يُقدّر حياته لا يُمكن أن يقوم برحلة كهذه، لكنهم جعلوك تكره كل شيء هناك، وجعلوك تقوم بذلك”. هكذا يَتَذَكر الشاب السوري محمد رحلته البحرية الخطيرة إلى أوروبا التي لم يصلها سالما، إذ فقد فيها أُخته ميسون، ويُعتبر مصيرها المدار الذي يدور فيه الفيلم الوثائقي الهولندي “ميسونتي” (My Maysoon).

يفتتح الفيلم الوثائقي جرح العائلة السورية الغائر، ويتذكر الفتاة الموهوبة ميسون التي كان ينتظرها مستقبل باهر، بوصفها مهندسة معمارية شابة، قبل أن ينتهي الحلم في البحر المتوسط، فقد غرقت في 24 من شهر أغسطس/ آب عام 2014 مع عشرات من السوريين، وجنسيات أخرى قرب السواحل الإيطالية، أثناء هجرتهم غير الشرعية على سفينة متهالكة إلى أوروبا، في رحلة انطلقت من ليبيا.

أخرجت الفيلم بتول كربجها، وهي أخت الفتاة السورية الراحلة، وهذا يضيف طبقات من العاطفية والتعقيد على العمل الوثائقي، فكان على المخرجة أن تصوغ مقاربة فنية وموضوعية لمأساتها العائلية، وأن تتلمس في الوقت نفسه طريقها الصعب كثيرا عبر الذاتي والعائلي، من دون أن تنسى إلى جانب ذلك المرور على المشهد الكئيب العام للاجئين الذين يقطعون البحار هربا من الحروب والمجاعات.

وإذا كانت الرغبة في معرفة مصير ميسون التي لم يُعثر على جثتها بعد، كانت القوة التي تحرك أحداث الفيلم الوثائقي، فإن الرحلة الحميمية في الألم العائلي الذي خلفته حادثة الشابة السورية هو ما يرفع الفيلم من خانة التحقيقات الوثائقية الآنية، إلى مصاف الأفلام الاستثنائية، بسبب غوصه في وجع عائلة عربية فقدت ابنتها، وما زال يُخيّم وجعها على حياتها منذ ذلك الحين.

استعادة الذكرى.. أمل خافت وأحاديث مرتجفة

بدت استعادة ذكرى ميسون مُوجعة للجميع، بدءا من المخرجة نفسها التي أخذت على عاتقها هذه المهمة المعقدة، خاصة أن العائلة اختارت عدم فتح هذا الجرح أو استعادة تفاصيله، وهذا ما يتجلى في المشاهد الافتتاحية للفيلم، عندما كانت المخرجة بتول تسأل أفرادا من عائلتها عن مشروعها، فبدا التردد والحزن على الجميع.

لا يتحدث محمد عن أخته المفقودة في عمله، أما الأُم التي بدت مذهولة على طول الوقت فهي ترى في المشروع الفني فرصة للبحث عن ابنتها التي تتمنى أن تعثر عليها حيّة، بينما يرتجف فم الأب ويُغالب دموعه في مشهد شديد التأثير، وهو يحاول أن يجد الكلمات للحديث عن ابنته الغائبة، قبل أن يتمكن منه الصمت.

يشكل عدم العثور على جثة ميسون مأساة فعلية للعائلة، إذ أنها غير قادرة على الإقرار الكامل بموت الابنة، وبالتالي رثائها والتسليم بمصيرها، واختارت في المقابل عدم تذكر الماضي أو الخوض فيه.

“هذه ليست ميسون”.. تفاصيل الساعات الأخيرة قبل الغرق

تفتح المخرجة ملفا باسم ميسون في حاسوبها الشخصي، وقد حفظت به وثائق عدة، منها صور لأختها الراحلة التي كانت متعددة المواهب، فإلى جانب دراستها للهندسة المعمارية، فقد أنهت دراسة في معهد الموسيقى العربية في دمشق، وكانت تملك صوتا جميلا.

أم ميسون تعيش في حزن دائم وهي تنتظر عودة جثة ابنتها

يصل الفيلم سريعا إلى اليوم المأساوي لغرق السفينة، ويستعين بفيلم فيديو يبين الساعات الأخيرة قبل غرق السفينة، وقد صوّرته إحدى المنظمات الدولية. تصرخ الأم بلوعة “هذه ليست ميسون”، بعد أن أشارت بتول لإحدى النساء اللواتي كن يقفن على سطح القارب.

يتذكر الأب بالتفصيل ساعة غرق السفينة، وقد طلب من ابنه محمد أن يرمي أخته إلى البحر، خشية أن تأخذها السفينة التي كانت تغرق سريعا إلى قعر البحر. وقد وصل الأخ محمد قريبا جدا من أخته، بيد أن السفينة يختل توازنها، وتسقط على مجموعة من الركاب الذي كانوا قد سقطوا منها، ولا تُعرف حتى اليوم مصائرهم.

فرق الإنقاذ.. عمليات بحث في القاع تكلف الملايين

تأخذ المخرجة رحلة معاكسة لرحلة اللجوء التي أخذتها عائلتها إلى أوروبا قبل سنوات، فتعود إلى إيطاليا، الدولة الأوروبية التي مثلت المحطة الأوروبية الأولى للعائلة. وإيطاليا مهمة كثيرا لأنها الدولة التي كانت قريبة من مكان غرق السفينة، وفرق الإنقاذ الإيطالية كانت أول من وصل إلى مكان غرق السفينة.

تصطدم المخرجة بالعقبات ذاتها التي واجهت الباحثين عن مصائر الغرقى من اللاجئين في البحر المتوسط في السنوات الماضية، إذ تفتقر الجهات المسؤولة هناك للمعلومات الكافية عن أعداد الغرقى أو المفقودين. ويكشف خبير إيطالي للمخرجة أن تكلفة البحث عن جثة واحدة في البحر قد تصل إلى المليون، كما ستصل تكلفة البحث عن السفينة الغارقة التي كانت تنقل ميسون وعائلتها إلى رقم يصل لعشرات الملايين.

صور ميسون في كل مكان في بيت عائلتها على أمل عودة جثتها يوما

عثرت فرق الإنقاذ على 24 جثة فقط من تلك السفينة، ولا يعرف مصير الباقين، كما أنه من غير المعروف إذا كانت الجثث الباقية قد وصلت إلى الشاطئ الإيطالي أو عادت إلى تونس أو ليبيا، حيث يصل كثير من الجثث التي تغرق في البحر المتوسط.

تونس.. مدفن الجثث العائمة والأحلام المهاجرة

لا تتوقف المخرجة عند إيطاليا، بل تعبر البحر إلى تونس، وتقابل تونسيين متخصصين رسميين وناشطين في قضايا الإنسان، كما تقابل أحد حفاري القبور الذين يدفنون جثث مهاجرين تصل جثثهم إلى تونس. بيد أن هذا الدفّان لم يتعرف على صورة ميسون، ولا يتذكر امرأة بمثل أوصافها.

تتجول الكاميرا في مقبرة للاجئين الذين انتهت حياتهم في البحر، قبل أن يصلوا إلى قارة الأحلام. لا تحمل كثير من أحجار القبور أسماء، فهم من التعساء الذين بلع البحر هوياتهم، على عكس آخرين كانوا يخفون هوياتهم وأوراقا رسمية أخرى في الأحزمة التي يلبسونها، وعبر هذه الأوراق أصبح من الممكن التعرف على الكثير منهم، كما يُخبرنا مسؤول تونسي.

وفيسلسلة من المشاهد القانطة، يعرض تونسي أفلاما قصيرة صورتها جهة تونسية حكومية لجثث وصلت عائمة إلى المياه التونسية، وكانت المياه تحمل برفقٍ الجثثَ التي لم تكن قد تحللت بالكامل، وكان بعضها يسبح على وجهها، لتبدو أحيانا كما لو كان أصحابها يقضون يوم جميل على البحر، بينما كانت السماء زرقاء بلا غيوم.

تمنع جهات أمنية تونسية فريق الفيلم من التصوير في منطقة عسكرية تونسية قريبة على البحر لدواعٍ أمنية، وبذلك تتوقف الرحلة في تونس، لتعود المخرجة إلى عائلتها.

شعور الذنب.. أهوال الهجرة تقض مضاجع الناجين

يُقارب الفيلم الوثائقي بحذر قضية الذنب والمسؤولية والقرارات الحاسمة التي نأخذها جميعا، ويكون لبعضها عواقب كارثية، فالمخرجة التي وصلت إلى أوروبا قبل أهلها تحمل منذ حادثة أختها شعورا بالذنب، إذ أنها ربما شجعت العائلة على السفر إلى أوروبا.

والدا ميسون وشعورهما بالذنب الدائم تجاه فقدان ابنتهما

يُثقل الذنب أكتاف جميع أفراد العائلة، فقد بدا الأخ محمد كأنه يحمل الثقل الأكبر من هذا الذنب، فالشاب الذي لا يتحدث كثيرا لخّص جيدا أزمة العائلة النفسية، وهي تعكس حال كثير من اللاجئين الذين أخذوا الرحلات الخطرة، إذ أنهم من موقعهم في بلادهم الجديدة لا يكادون يصدقون أنهم أخذوا تلك الرحلة وخاطروا بحياتهم، ويبدون اليوم كأنهم يحملوا هذه التجربة كعِلة نفسية تحتاج إلى علاجات طويلة.

“أُريد أن ألومك أنت لماذا سافرت قبلها”

رفضت أُمّ العائلة أن يسمي ابنها الوحيد ابنته باسم ميسون، فلم ترغب لذكرى ابنتها أن تختلط بفتاة أخرى، وقد أحبت أن تحمي الاسم. الأُمّ ذاتها كانت أقل المتحدثين في الفيلم، بيد أن ظهورها القصير كان مؤثرا في كل مرة، وبالخصوص في ذلك المشهد الطويل المصور بكاميرا ثابتة، وقد بدأ عاديا، قبل أن تسقط الأم في بكاء موجع طويل.

تستعيد المخرجة حياة أختها القصيرة وتحتفل بها، فتقابل الشاب السوري طاهر الذي كان قريبا من الزواج من ميسون، وتحاوره وتتذكر معه أحلامه وأحلام أخته للمستقبل، ويخاطبها قائلا: أنا أناني كثيرا في موضوع ميسون، كنت لسنوات أظن أنني الوحيد المتضايق من رحيلها، وأريد أن ألوم أناسا كثرا على ما حدث لها، أُريد أن ألومك أنت لماذا سافرت قبلها.

يحمل طاهر حزن ميسون أينما ذهب، كما يحمل عرفانا كبيرا لها، فقد مهّدت لمسيرته المهنية كمهندس معماري ناجح، فأول عمل له كان من المفترض أن تصممه ميسون، لكن سفرها حال دون ذلك، ليتولى هو إكمال المهمة.

توقف الرحلة.. دروس باهظة في التروّي وعدم المجازفة

جمعت المخرجة حاجات أختها القليلة الباقية التي تخفيها عن أُمّها، وتناقش مع أختها الأخرى هل حان الوقت لإطلاع الأُمّ على هذه الأغراض، ليقررا معا أن الوقت ما زال مبكرا كثيرا على الأُمّ لأن ترى هذه الأغراض، أو تعرف بوجودها أصلا.

المخرجة مع أحد المسؤولين في تونس خلال سؤالها عن مصير جثة شقيقتها ميسون هناك

تُقرر بتول أن تُوقف مؤقتا رحلة بحثها عن أختها ميسون، وتؤجل سفرها إلى ليبيا إلى زمن قادم، فهي كانت على وشك أن تنجب طفلتها الأولى، ولا تريد أن تضع جنينها في ظروف قد تكون صعبة وغير ملائمة. تكشف المخرجة أن دروس الحياة السابقة علمتها التروي وعدم المجازفة، وأنها ستعود قريبا لإكمال رحلة البحث.

ترتفع جودة الفيلم الوثائقي عندما يتقرب من المحنة العائلية التي شكّلها فقدان ميسون، وعندما يبدأ بطرح الأسئلة الجدلية عن العلاقات والمسؤوليات داخل العائلة، وأيضا عندما يتناول قضية الشعور بالذنب الذي يترتب على خياراتنا وتأثيراتها على الآخرين القريبين منا.

صناعة الفيلم.. حميمية الكاميرا ومبالغات الموسيقى

لعل الفيلم كان سينتفع لو كان توقف فترة أطول عند بعض محطات الرحلة التي أخذتها بتول، خاصة في تونس البلد العربي الذي أصبح المحطة الأخيرة لمهاجرين من المنطقة، كما أن موسيقى الفيلم العاطفية كان مبالغا فيها، وكانت زائدة في مواضع، بل إن مشاهد بعينها مثل مشاهد مقبرة المهاجرين المجهولين، كانت ستكون أكثر تأثيرا لو تركت بدون موسيقى أصلا، واكتفت بصوت العناصر الطبيعية من حولها.

تسلط المخرجة الكاميرا على نفسها وعلى عائلتها، بل إنها كانت فعليا تُحضر إعدادات الكاميرا التقنية لتصوير مشاهد بعينها مع أهلها، ثم تنضم لهم، لتترك الكاميرا تصور وحدها بحميمية كبيرة عائلة كانت تصارع كثيرا، حتى تتصالح مع الماضي وتتقبل الحاضر، وتتهيأ بحذر للمستقبل.

شهدت هولندا -حيث تعيش العائلة السورية اليوم- العرض العالمي الأول للفيلم ضمن الدورة الماضية (2023) من مهرجان “أفلام لها قيمة” (Movies that Matter)، كما سيعرض الفيلم قريبا على الشاشة الثانية للتلفزيون الهولندي الحكومي، وقد بدأ عروضه في مهرجانات سينمائية عربية وأجنبية.