“أجنبي عند البوابة”.. جندي أمريكي متقاعد يخطط لمجزرة في مسجد الحي

صنع منه الجيش الأمريكي رجلا متوحشا متعطشا للدماء والقتل، وكارها وحاقدا على الإسلام والمسلمين، وعندما عاد إلى بلدته مونسي في إنديانا، قرر إطفاء حقده والانتقام مما كان يراه أسباب أذية العالم حسب ما زرع في ذهنه قادته العسكريين، لهذا قرر تفجير المجمع الإسلامي، لقتل أكثر من 200 مسلم بريء، فما الذي حدث لخطته الدموية وقتها؟

“الإسلاموفوبيا”.. وحش يهدد الأمن في المجتمعات الغربية

ينطلق الفيلم الوثائقي الأمريكي “أجنبي عند البوابة” (Stranger at The Gate) الذي أنتج سنة 2022، من موضوع راهن لا يزال يشغل العالم الغربي إلى اليوم، ويتعلق الأمر بما بات يطلق عليه مصطلح “الإسلاموفوبيا” (أي الرهاب من الإسلام).

بدأ الأمر انطلاقا من التلقي الخاطئ الذي تلقّاه المواطن الغربي بشكل عام، وتواتر المفاهيم الكاذبة والمدسوسة من قبل المتطرفين والنازيين الجدد والعنصريين اليمنيين، وأكثر من هذا كله من وسائل الإعلام الكبيرة والصغيرة ووسائل الترفيه، مثل السينما و”السكيتشات” والكاريكاتور والمسلسلات وغيرها من وسائل الاتصال التي تؤثر على ذهنية البشر بشكل عام.

ولقد اتفقت معظم تلك الخطابات، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001 على أن المسلم هو مصدر الخطر الأول في العالم، وأن الاسلام يشكل خطرا كبيرا على الوجود الغربي، وأن القرآن هو تشريع محرض على الكراهية والقتل والانتقام من كل شخص لا يدين به.

لهذا أنجب الغرب جيلا من المتطرفين ارتكبوا مجازر لا تنسى في حق المسلمين، سواء وهم في تنظيمات قانونية كالجيوش مثلا، أو كأفراد ومنظمات سرية، من بينها ما حدث مع المجرم الأسترالي “برينتون تارانت” الذي نفّذ هجوما دمويا يوم 9 مارس/ آذار 2019 على مسلمين عُزّل بمسجدين بنيوزيلندا، وقد قتل 51 مسلما وأصاب العشرات، وأثناء محاكمة هذا اليميني المتطرف قال إنه لا يشعر بالندم، وتمنى أن يستطيع قتل أكبر عدد ممكن من “الغزاة”.

فهو يرى بأن المسلمين الذين يعملون ويشاركون في اقتصادات الغرب هم بالضرورة غزاة، من هنا وجب طرح السؤال المحوري: من الذي زرع فيه وفي قلب الجندي “ريتشارد ماكيني” بطل هذا الفيلم وفي غيره هذا الحقد الكبير، وهو عينة واحدة من المئات من أمثاله الذين باتوا يشكلون خطرا على المسلمين في أنحاء العالم؟

“ريتشارد ماكيني”.. جندي أمريكي متقاعد يخطط للمجزرة

استطاع المخرج والمنتج وكاتب السيناريو الأمريكي “جوشوا سيفتيل” أن يحقق فيلما وثائقيا غير متحامل على المسلمين، أو بعبارة أخرى أظهر الإسلام والمسلمين بصورتهم الصادقة، من خلال عودته لأحداث قصة حقيقية جرت وقائعها في بلدة مونسي بمقاطعة إنديانا في الولايات المتحدة الأمريكية.

كان ذلك حين قرّر “ريتشارد ماكيني” الجندي المتقاعد من الجيش الأمريكي صنع قنبلة وزرعها في مركز المجمع الإسلامي الذي يحتوي مسجدا وعددا من الفضاءات الاجتماعية، وقد رسم لذلك خطة محكمة لتنفيذها، حتى أنه اختار اليوم الذي ينفذ فيه هذه الجريمة، وهو يوم الجمعة الذي يكون فيه عدد المسلمين أكثر.

ريتشارك ماكيني جندي المارينز الذي خطط لتنفيذ مجزرة بحق المسلمين الذين يقطنون في بلدته

وقد كان هدفه الأساسي هو قتل عدد أكبر منهم، كما أقنع نفسه بهذه الجريمة، حتى أنه استعد جيدا للمحكمة، وفكر فيما سيقوله للقاضي والشرطة، وكان يعرف بأن خبر التنفيذ سيغزو كل المحطات الإعلامية في العالم، ليصبح بطلا كبيرا في نظر كثيرين، خاصة المتطرفين وأعداء المسلمين.

أبطال القصة.. شهادات من داخل المحيط الشخصي

اقترب المخرج “جوشوا سيفتيل” من عائلة الجندي “ريتشارد”، ليعرف منها ما الذي كان يفكر فيه وقتها، وكيف كانت تربيته، ولماذا فكر في القيام بهذه الجريمة؟

وقد تقرّب المخرج من زوجته “دانا ماكيني” ومن ابنته “إيميلي” التي أصبحت حاليا مراهقة، وقد افتتح بها الفيلم الوثائقي، فقالت كلمات دقيقة وعميقة ومشوقة، وهي كفيلة بأن تجعل المشاهد ينتظر باقي القصة والتفاصيل، حيث قالت حرفيا: “في معظم الوقت، عندما أخبر الناس هذه القصة، يقولون إنهم لا يصدقونني، وأنني أختلقها، أو أنها ليست صحيحة”. لتبدأ بعدها في عملية سرد القصة.

وأكثر من هذا ذهب المخرج صوب العائلة الباكستانية التي كانت تشرف على المجمع الإسلامي واستمع لها، وكذلك فعل مع عائلة “وليامز” المسلمة ذات الأصول الأفريقية، ليسلط الضوء على أوجه عدة من القصة.

تنوع العائلات.. تقاطعات تجمع البشر أكثر مما تفرقهم

قسّم المخرج “جوشوا سيفتيل” فيلمه لثلاثة أقسام رئيسية، واستطاع أن يدمجها وفقا لسياق منطقي، انطلاقا من البناء أو القالب الفني المناسب الذي اختاره، ومن المونتاج الذي ضمن السلاسة والتسلسل المنطقي، وقد روى في كل قسم قصة العائلات ذات الصلة بالموضوع، أولهم عائلة جندي المارينز “ريتشارد ماكيني” وزوجته “دانا” وابنته بالتبني “إميلي”.

وحسب سرد الفيلم فإن “ريتشارد” عاش طفولة غير سوية، إذ تسرب من المدرسة باكرا، وأصبح مروّجا ومدمنا على الممنوعات، ليكون انخراطه في الجيش الأمريكي قارب نجاة بالنسبة له، تأثرا بوالده الذي كان جنديا أيضا.

وأما دكتور الأسرة “صابر إبراهيمي” فقد تعرف على زوجته “بيبي” في مخيمات الفارين من جحيم الحرب بأفغانستان أثناء الغزو السوفياتي لها، وهناك تزوجا وجاءا إلى أمريكا لاجئين سنة 1986، وقد استقرا في بلدة مونسي، ليصبح الدكتور “إبراهيمي” مع الوقت بمثابة رمز في هذه المدينة، من خلال مهامه الخيرية التي يقوم بها في معالجة الفقراء وأسر محدودي الدخل.

ريتشارك ماكيني أصبح الآن يقدم مداخلات في أمريكا يشرح فيها عن سماحة الإسلام وتجربته الشخصية

إضافة إلى ذلك جعل “صابر إبراهيمي” بيته فضاء استقبال لكل من تقطعت به السبل من المسلمين أو اللاجئين الجدد، ليؤسس بعدها رفقة مجموعة من المسلمين المجمع الإسلامي الذي تحول لفضاء ديني يجمعهم ويؤطرهم.

وأما “وليامز” فهو ينحدر من عائلة من السود الأمريكيين، ممن يملكون ماضيا قاسيا مع التمييز العنصري، خاصة جده الذي أُخصي وأعدم، لتبقى هذه القصة متوارثة ترويها العائلة، لكنه أصبح مسلما بعد أن وجد في هذه الديانة الخلاص والسلام الذي يبحث عنه.

يبرز المخرج من خلال هذه التقاطعات بأن ما يجمع الإنسانية ببعضها أكثر مما يفرقها، مهما كانت ديانة كل فرد أو مجتمع، والدليل على ذلك نماذج في الفيلم، وهي أن عائلة “ريتشارد ماكيني” و”وليامز” و”صابر براهيمي” يفكرون في أسرهم وفي مجتمعهم، ويتذوقون الموسيقى ويحبونها، ويوفون للبلد الذين يعيشون فيه، ولديهم أبناء يفكرون في مستقبلهم، لكن سوء الفهم والحكم المسبق على الآخر هو ما يترك سوء الظن يكبر ويزيد، ليتحول إلى حقد دفين يصل إلى الانتقام والقتل.

وقد تلاعب المخرج بجمالية في فكرة الضدية التي تخلقها ثنائية الجلاد والضحية، وما تفرزه من درامية خدمت الفيلم في اتجاهه الفني وحتى الموضوعي.

ساعة الصفر.. جولة في داخل المسجد تفسد الخطة

لم تكن “دانا ماكيني” أو ابنته المقربة منه كثيرا يعرفان ما يخطط له الزوج “ريتشارد” الذي قرر تنفيذ مجزرته، فقط “دانا” كانت تعرف بأنه رهين ماضيه الذي كان يعيش فيه، خاصة أنه شارك في عدد من الحروب الأمريكية على البلدان المسلمة وفي الشرق الأوسط، وقتل كثيرا من الأشخاص بدم بارد.

وكان قائده قد أعطاه وصفة تنجيه من تأنيب الضمير، وهي أن لا ينظر للأهداف على أنهم بشر، بل على أساس أنهم أشياء، لهذا فعندما تقاعد من الجيش كان يرى بأن المسلمين الذين يسكنون ببلدته ويدرسون في مدرسة ابنه أصبحوا يهددون نمط عيشهم، وقد ازداد هذا الشعور بعد هجمات 11 سبتمبر الشهيرة.

لهذا قرر تفجير المجمع الإسلامي، وعندما زار المسجد ليكوّن صورة شاملة حول ما يحدث لم يجد سوى الأحضان والحب والسلام منهم، إذ وقف على الدكتور “إبراهيمي” وهو ساجد، وعندما وقف احتضنه دون تفكير، ليتساءل بعدها “ريتشارد” عن ما كان يقوم به.

بعدها يتعرف على هذا المجتمع أكثر، مما جعله يُشهر إسلامه ويقرر خدمة هذا الدين على طول حياته، لأنه وجد فيه السكينة التي كان يبحث عنها دائما، وصحّح المفاهيم الخاطئة التي كانت لديه عن المسلمين، كما فتحت وقتها الشرطة الفيدرالية الأمريكية تحقيقا وفتشت منزله، بعد أن علمت بهذه الخطة المدمرة، لينتهي الموضوع بشكل عام وبسلام، ويصبح “ريتشارد ماكيني” ركنا ثابتا في المجتمع الإسلامي في مونسي.

جوائز الفيلم.. احتفاء بعمل يظهر الصورة الإسلامية الحسنة

وصل الفيلم الوثائقي “أجنبي عند البوابة” للقائمة القصيرة لجوائز الأوسكار سنة 2023، واقترب جدا من حصدها، كما شارك في عدد من المهرجانات العالمية، من بينها مهرجان تربيكا السينمائي الذي حصل فيه على أفضل فيلم وعلى تنويه خاص، كما شارك في مهرجان فرجينيا السينمائي، ومهرجان اختيار النقاد للأفلام الوثائقية، وفاز بإحدى جوائزها، وكل هذا سنة 2022.

جاء هذا الاحتفاء من منطلق الموضوع الإنساني الذي حمله الفيلم، إضافة إلى طريقة المعالجة السينمائية التي اعتمدها المخرج السينمائي “جوشوا سيفتيل”، فقد ركّز فيها على عملية القص المقلوب، أي زرع معطيات ومعلومات كثيرة في الفيلم في بدايته وعرضه، وترك المنطلق الأساسي في النهاية، أي زرع بذور التشويق والاثارة لدى المتلقي، من أجل الإقبال على جميع تفاصيل الفيلم وهضم محتوياته، كما أنه لم يتلاعب بعقله، ولم يعطه في النهاية نتيجة جوفاء، بل أهدى له نهاية جيدة تليق بشعور الترقب، وبالتالي ضمن تكوين صورة عميقة في نهايته، خاصة أن الموضوع مليء بالمشاعر الدافئة، وعمل على كسر صور سلبية تكونت ورسخت في ذهن الغرب.

لقد خدم هذا الفيلم كثيرا صورة المسلم والمسلمين، كما أنه أفرز مساحة متساوية لجميع الضيوف، حتى يضمن توازنا في الموضوعية، ليكون الفيلم في مجمله وثيقة مهمة كسرت السردية الغربية المتواترة عن الإسلام والمسلمين.


إعلان