“كل ما يتنفس”.. أخوان مسلمان يعالجان طيور دلهي المريضة في المنزل

أخوان من الهنود المسلمين في مدينة دلهي يعيشان حياة قاسية تحت وطأة التلوث وتدهور البيئة، يعانيان من الاضطهاد الهندوسي الفظ الذي يمارس ضد المسلمين، لكنهما يحققان التسامي الروحي والنفسي من خلال الاهتمام، وحتى الولع برعاية الطيور الجريحة.

يدور الفيلم الوثائقي الطويل “كل ما يتنفس” (All that Breathes) للمخرج “شوناك صن” (2022) في أجواء واقعية، لكن من خلال لمسة شاعرية، في صور تتميز بالرقة والرونق والسحر الخاص الذي يضفيه أسلوب التصوير على المناظر الشجية الحزينة التي يقدمها لعالم تدهورت فيه القيم، واعتدى الإنسان اعتداء فظا على الطبيعة، وساهم عن جهل وقسوة في تدمير البيئة التي يعيش فيها، وقد نالت الحيوانات والطيور كثيرا من الإهمال والنبذ.

نديم ومحمد.. أخوان يكتشفان الحياة بمساعدة الطيور

يظهر الأخوان نديم شاهازاد ومحمد سعود وهما يكتشفان معنى الحياة، من خلال تقديم المساعدة للطيور الجريحة التي يسوقها قدرها إليهما، وتسبح عشرات الآلاف منها في سماء مدينة دلهي. ونرى لقطات مدهشة للحشرات والطيور والحيوانات وهي تبحث عن طعام في أكوام القمامة التي تركها الإنسان في الأماكن المفتوحة، في الشوارع والساحات الخالية.

تستغرق اللقطة الأولى من الفيلم أكثر من دقيقتين ونصف، وفيها تتحرك الكاميرا حركة بطيئة من اليسار إلى اليمين في ظلام الليل، لتمسح منطقة تمتلئ بأكوام القمامة والنفايات، وتدريجيا تتسلل مجموعات من الفئران، تخرج من جحورها، تتكالب وتتنافس على التهام بقايا الطعام.

بينما تلمع في الخلفية أضواء السيارات المارة على طريق مجاور في أجواء تتسم بعدم المبالاة. هناك كلب ينبح، وقط يمرق، ثم نقيق الضفادع، في مزج مدهش بين هذه الكائنات التي “تتنفس” إلى جوار الإنسان.

ومن الأرض ينتقل الفيلم إلى السماء، حيث يحلق طائر كبير في أعلى، ثم تهبط الكاميرا لنرى مجموعة من الحشرات تشبه الصراصير، تسبح فوق سطح بركة مياه آسنة، وتصدر أزيزا، ثم تنتقل الكاميرا لرصد حركة الناس في شوارع دلهي الضيقة، وأصوات الغربان تتناهى إلينا.

مأوى الحدأة.. عيادة رثّة تحت الأرض في دلهي

ثم يظهر شاب يحمل بضعة صناديق، يهبط بسلالم تقوده إلى طابق تحت الأرض مشبع بالرطوبة، يبدو في حالة رثة متدنية، يبدو رث الجدران، ثم نرى جهاز راديو قديما متهالكا معلقا فوق رف، ورجلا يجلس أمام منضدة يعالج شيئا.

يتحرك صندوق من تلك الصناديق المرصوصة فوق بعضها في أحد أركان الغرفة الرثة، فيسقط على الأرض، ثم يخرج منه طائر، ويدخل الشاب الذي رأيناه قبل قليل وهو يحمل الحدأة الجريحة التي كانت داخل الصندوق، وتنقسم الشاشة لنرى على اليمين الرجل في الغرفة أمام المنضدة، وعلى اليسار في الغرفة الخارجية الشاب الواقف وهو يحمل الحدأة الجريحة بكل رقة. إننا داخل “العيادة”، وهذان هما نديم وسعود.

هناك لقطة أخرى طويلة مدهشة، تتحرك خلالها الكاميرا من اليسار إلى اليمين، تكشف عن وجود عدد كبير من الحدأ ذات الألوان والأشكال المختلفة التي عولجت داخل هذه العيادة، تصطف، تحدق، تتحرك، تتطلع إلى ما يوجد حولها، لكنها لا تحاول الطيران، أو البحث عن وسيلة للفرار من هذا المكان المغلق.

علاقة الإنسان والطبيعة.. فيلم ينبذ العنصرية ضد البشر والبيئة

هذا فيلم عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة، أو بالأحرى الإنسان وإهدار الطبيعة، والإنسان في علاقته مع مخلوقات الله من الطيور والحيوانات في بيئة طاردة عنصرية يبرز فيها الاضطهاد في خضم الصراع الطائفي في الهند.

الأسرتان تعيشان في منزل واحد

إنه ليس فيلما من الأفلام ذات الطابع العلمي عن تلوث البيئة فقط، كما أنه ليس فيلما سياسيا عن الصراع الطائفي في الهند وما يحدث للمسلمين من جانب الهندوسيين، فالفيلم يلمس كل هذه الجوانب بشكل أو آخر، لكن من دون إقحام، ومن دون أن يصبح عملا مباشرا.

فموضوعه الأساسي هو كيف بدأ هذان الشابان هذا الشغف قبل عشرين عاما، وكيف شقا طريقهما وسط كل هذه المصاعب والعقبات، يدفعهما إيمانهما بهذا الجانب الروحاني الذي يكمن في إنقاذ تلك الكائنات الصغيرة الضعيفة الجريحة.

علاج الطيور الجارحة.. رحمة لكائنات لا ذنب لها في فطرتها

يعالج الأخوان الطيور عموما، وبوجه خاص الطيور السوداء التي تعرف بالحدأة في لغتنا العربية، وتعتبر من الطيور الجارحة، وهما يتوليان رعايتها وعلاجها وتضميد جراحها في المأوى الذي أقاماه في الطابق الأسفل من المنزل المتهدم الذي يقيمان فيه، وقد حصلا على الأدوية والمواد الطبية التي يعالجان بها الجروح، واستعانا بالطبع بالمعلومات التي يحصلان عليها من شبكة الإنترنت.

يتحدث الفيلم عن هذا الشغف، وعن تلك النزعة الإنسانية التي تجد في العلاقة مع سائر المخلوقات التي “تتنفس” مثلنا مسألة فلسفية أيضا، فلا انفصال بين الإنسان بضعفه وضآلة حجمه، وبين ما يوجد في محيطه من كائنات أخرى يهملها ويتجاهلها، وكثيرا ما ينزل بها العقاب دون رحمة، معتبرا نفسه الأقوى والأشد والأسمى. والفيلم بهذا المعنى، فيلم عن “الرحمة” وعن الحب.

هذا الشعور النبيل بالرحمة والحب، حب مخلوقات الله والعيش من أجل حماية الكائنات الضعيفة، مثل الحدأ السوداء الجريحة التي تسقط في تلك المنطقة المكتظة بالسكان، وتمتلئ بأكوام من القمامة والنفايات، وتعاني مثلما تعاني مدينة دلهي كلها من التلوث، ينبع هذا الشعور وهذه المهمة النبيلة التي تطوع الأخوان للقيام بها، بمعاونة شاب من جيرانهما هو “صاليك”، وهي أفضل تعليق ضد ثقافة النبذ والاستبعاد والازدراء.

بدأت المهمة عندما كان الأطباء البيطريون في هذه المنطقة يرفضون علاج الطيور، فهم يعتبرونها طيورا جارحة تعيش على أكل اللحوم، أي أنهم لا يعتبرونها من الطيور الصالحة التي يأكلها الإنسان، ولا تستحق بالتالي الاهتمام، بينما يرى سعود ونديم أنها طيور بريئة لا ذنب لها في فطرتها، وربما يرمز الفيلم من خلال هذه التفرقة إلى النظرة العنصرية من جانب الهندوس إلى المسلمين في مجتمع دلهي، رغم أن معتنقي الأديان المختلفة من أصل عرقي واحد.

“إنهم يصفون المسلمين بأنهم مخلوقات أدنى”

صُور الفيلم على مدار أكثر من عامين (2019-2021)، وحصل المخرج على مادة مصورة بلغت نحو 400 ساعة، وجاءت نسخة الفيلم النهائية في 93 دقيقة. ويعتمد بناؤه على اللقطات القريبة والإيقاع البطيء الهادئ الشاعري، والمزج بين الإنسان والطبيعة، والاهتمام الكبير برصد تفاصيل المكان، وعلى شريط صوت شديد الثراء، وموسيقى توحي بالسمو والغموض.

زيارة ضريح الأم التي توفيت

تأتينا بين وقت وآخر أصوات دعائية تروج للحزب الحاكم حزب الشعب الهندي، تتحدث عن المساواة بين الطوائف والأجناس والأديان، بعد صدور التعديلات التي أدخلت على قانون الجنسية القديم (من عام 1955)، وهي تساوي بين الطوائف العرقية والدينية المختلفة للمهاجرين الذين جاءوا من باكستان وأفغانستان وبنغلاديش واستقروا في الهند منذ 2014، وتحديدا من الهندوس والسيخ والبوذيين والزرادشتيين والمسيحيين وأتباع الديانة اليانية، ومع ذلك فقد تجاهل القانون المسلمين ولم يذكرهم، في تفرقة طائفية واضحة.

ونحن نشاهد في الفيلم اندلاع العنف الطائفي، وهجوم عصابات من الهندوس على مساكن المسلمين قرب الحي الذي يقطن فيه سعود ونديم، وتدمير مئذنة أحد الجوامع، من خلال لقطات ملتقطة بواسطة الهواتف المحمولة، ثم يسود مناخ من الرعب بين السكان، مع انتشار الحرائق التي أشعلها الهندوس في بيوت المسلمين.

يعلق نديم مستنكرا “إنهم يصفون المسلمين بأنهم مخلوقات أدنى”.

حظيرة السطح.. ملاذ تألفه الطيور الباحثة عن الطعام

لا يوجد في الفيلم تعليق مباشر يأتي من خارج الصورة من معلق محايد، كما لا يعتمد الفيلم على المقابلات مع أشخاص أو خبراء في رعاية الطيور، لأننا لسنا أمام فيلم من الأفلام التعليمية، بل أمام لوحة إنسانية وتجربة فريدة في العلاقة بين الإنسان والطيور تستند إلى أساس فلسفي، لذلك فكل ما نسمعه سواء بشكل مباشر من قلب الصورة أو من خارجها يأتينا بصوت نديم وسعود، إما من خلال ما يدور بينهما من حوارات أو بالتعبير المباشر.

لقد أقاما حظيرة كبيرة فوق سطح المنزل لإيواء تلك الطيور التي أصبحت معتادة على المكان، حيث تحصل على الطعام. وفي أحد المشاهد يقف أحد الأبطال يقدم الطعام من يده لتلك الطيور، ويهبط طائر فجأة لينتزع نظاراته من على وجهه، ويبتعد. هل هي مزحة من جانب ذلك الطير أم اعتداء؟

إنه لا يستطيع أن يفهم لماذا أخذ نظاراته تحديدا، لكن اللقطة تضفي تلقائية كبيرة على الفيلم، رغم وجود بعض المشاهد المعدة المرتبة المتفق عليها سلفا.

وصية الوالدين.. سعي لكسب الثواب والخلاص من الآثام

تمتلئ سماء المدينة بآلاف من هذه الطيور، ويقول سعود في أحد المشاهد: لو لم تكن هذه الطيور موجودة لأصبحت أكوام القمامة أطنانا، فالطيور تتغذى عليها، تماما مثل الخنازير التي نراها في مشهد آخر ترعى وتقتات على بقايا الطعام في أكوام القمامة. وسعود يذهب إلى باعة اللحوم يقنعهم ببيع اللحم بسعر رخيص من أجل هذا العمل الإنساني غير الربحي، لكن يأتي وقت يقول له أحد القصابين إنه لن يستطيع أن يبيعه اللحم بسعر مخفض بعد الآن، بعد ارتفاع الأسعار.

بناء الحظائر فوق السطح

وعلى خلفية لقطة بديعة لأحد هذه الطيور يحلق في السماء مع موسيقى شعبية ناعمة، يأتينا صوت نديم وهو يقول: عندما حصلنا على أول طائر جريح، لم أنم طوال الليل، بل أخذت أتطلع إليه وأراقبه، ويقال إن إطعام الحدأة ينال المرء بموجبه الثواب، وعندما يأكلون ما تقدمه لهم من لحم، فإنهم يخلصونك من آثامك، إن شهيتهم ليس من الممكن إشباعها. وهو يتذكر أيضا كيف كان والداه يحثانه على احترام جميع المخلوقات “التي تتنفس”، ومن هنا جاء اسم الفيلم.

يستمر نديم في السرد ليخبرنا أنهم كانوا في الأصل في مراهقتهم مهتمين ببناء أجسامهم، ومن هنا اكتشفوا كيفية التعامل مع العضلات والأربطة التي تربط العضلات، ومنها تعلموا كيف يضمدون جراح الصقور والحدأ عن طريق غسلها بالماء والصابون وتطهيرها وربطها، لكن هذه الوسائل الأولية التي تعتمد على الجهود الذاتية وبعض التبرعات البسيطة لم تعد تكفي مع تكاثر الطيور الجريحة، وأعداد الطيور التي تموت مع اشتداد الحرارة والرطوبة.

الآن بعد عشرين عاما من الاندماج في هذه المهمة بكل شغف، اعتمادا على الجهود الذاتية، وبعد أن أصبح لكل منهما أسرة، والجميع يعيشون في منزل واحد؛ أصبح أمرا مُلحّا، تطوير العمل في هذا المركز الذي أطلقا عليه “مركز إنقاذ الطيور”.

حظائر العلاج والنقاهة والمبيت.. ثمار الدعم المالي

يتقدم الأخوان أكثر من مرة للحصول على دعم مالي من المنظمات الدولية، لكن طلبهم دائما ما يرفض، وحين يزورهما مسؤول في قناة “ناشيونال جيوغرافيك” الأمريكية بعد أن عرف بالقصة من خلال مقال نشر في صحيفة “نيويورك تايمز”؛ ينالان دعما ماليا يسمح لهما بشراء مواد العلاج، ثم إقامة حظائر فوق السطح مقسمة إلى عيادة للعلاج ومكان للنقاهة، ومكان آخر للمبيت.

وينال نديم منحة علمية في الولايات المتحدة لدراسة تأهيل وعلاج الطيور والعناية بها، ويسري شعور بالارتياح لأن حالة الاضطراب السياسي جعلت من الصعب أن يأتي الناس إليهم بالطيور الجريحة. ولا شك أن الفيلم يقصد أيضا التعبير عن التناقض بين ما يرتكب من أعمال عنف وتدمير، سواء للبيئة أو للإنسان نفسه بموجب التعصب الديني أو العرقي، وبين حالة السلام الداخلي والرغبة في مساعدة الكائنات الضعيفة والرحمة والمودة والميل إلى السلام التي ينشدها هذان الشابان.

جاء وقت تكاثرت أعداد الطيور التي تموت

يذهب نديم إلى أمريكا للدراسة والتعلم، ومن هناك يوالي الاتصال بأخيه عبر وسائل الاتصال الحديثة، لكي يطمئن على مسار الأمور، وينتهي هذا الفيلم الرقيق الذي يفيض بالحب والإيمان، ويصور في صورة شعرية آسرة تلك العلاقة الغامضة بين الإنسان والطبيعة.

“مهما اعتنيت بالحيوان وأحببته، فلن تتمكن أبدا من الزعم أنك تفهمه”

نرى لقطات كثيرة قريبة بديعة بكاميرا مدير التصوير المرموق “بن برنارد” لعشرات الطيور والحشرات والحيوانات، لعيونها التي تبرق، ورؤوسها التي تتحرك في حركة دائرية باستمرار، كما نشاهد عشرات اللقطات للطيور الجارحة وهي تسبح في الفضاء في تكوينات مدهشة، ونتساءل عن سر تلك العلاقة التي تربطنا بها.

لكن محمد سعود يقول في تعليقاته: مهما اعتنيت بالحيوان وأحببته، فلن تتمكن أبدا من الزعم أنك تفهمه.

وقد شارك هذا الفيلم في عدد من المهرجانات، وحصد عدة جوائز، منها الجائزة الكبرى الذهبية لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان صندانص، وأفضل عمل غير روائي في مهرجان كان، كما رشح لنيل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي.


إعلان