“المهرجان الأفريقي”.. يوم فُتح الباب على مصراعيه للثقافة في الجزائر

عام 1969، احتضنت الجزائر أول مهرجان أفريقي يقام في التاريخ، وكان لهذا المهرجان دور في إظهار الثقافة والعادات والتقاليد الجزائرية بعد سنوات عجاف من الاستعمار.
ويسلط فيلم “الجزائر بألوان أفريقيا” الضوء على المهرجان، باعتباره رمزا من الرموز التاريخية للبلاد، وخلال أيامه تحولت الجزائر العاصمة إلى مسرح ثقافي أفريقي مفتوح.
هذا الفيلم هو جزء من سلسلة “ذكريات ملونة” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية، وتعتمد على إعادة ترميم وتلوين أرشيف يروي أحداثا مهمة، من خلال أشخاص عايشوا مراحل زمنية وأحداثا مهمة في العالم العربي، بين عشرينيات وستينيات القرن الماضي، قبل أن يتوفر الأرشيف الملون.
“فتح الباب على مصراعيه للثقافة في الجزائر”
يقول الجزائري لخضر بن تركي متحدثا عن المهرجان: كان في المهرجان الأفريقي عام 1969 زخم كبير، وكانت العروض مقسمة إلى 5 جهات في الجزائر العاصمة إضافة إلى الأحياء، لكن العرض الكبير كان في مسرح 20 أغسطس/ آب، لما لهذا المسرح من رمزية كبيرة، وهي أنه يوم المجاهد، ويعود إلى عام 1956.

كان بن تركي يشاهد اللقطات الأرشيفية بالأسود والأبيض، ويتحدث قائلا: كل شوارع الجزائر تحمل رمزية معينة، فالشارع الذي احتضن الاحتفال كان يسمى ديدوش مراد -أحد الساسة الذين شاركوا في تحرير الجزائر من الاستعمار- ولم يكن يوجد في هذا الشارع أي جزائري بعهد الاستعمار، وشوارع أخرى مثل شارع بن مهيدي ومنطقة البريد المركزي، وكانت هذه المناطق حكرا على الأوروبيين، لأنها أماكن راقية توجد فيها المقاهي والمطاعم.. المهرجان الأفريقي فتح الباب على مصراعيه للثقافة في الجزائر.
أيام المهرجان.. ألوان تزين سماء الجزائر وجدرانها
تبدأ عملية ترميم اللقطات الأرشيفية ومرحلتا التلوين التلقائي والدقيق، بناء على معلومات يدلي بها الكاتب عبد الرزاق بوكبة المهتم بالثقافة الأفريقية. ويقول هذا الباحث الجزائري: استطاعت الجزائر العاصمة خلال أيام المهرجان أن تتحول إلى جنان من الألوان، وكانت الأعلام الأفريقية تجاور العلم الجزائري.

وقد هيمنت بعض الألبسة على الفرق الجزائرية المشاركة في المهرجان، من بينها اللون العنابي والأحمر المستمد من بعض الزهور، وكان الناس والمشاركون في المهرجان يميلون للباس الأبيض الكامل للفرق القادمة من الجبال، واللون البني في المناطق التي يوجد فيها وبر الجمال، إضافة إلى بعض الإكسسوارات التي كانت مرافقة للألبسة الرئيسية، منها الحقائب التي يحملها الرجال، وفي الغالب تكون مصنوعة من الجلد ولونها بني، أو مصنوعة من الصوف.
يقول عبد الرزاق بوكبة: الراقصون الأفارقة المشاركون في المهرجان ضمن الفرق الفلكلورية، كانوا يرتدون ألوان الأحمر والأصفر والأبيض، وكانت هذه الألوان مهيمنة على ملابسهم، إضافة إلى اللون البني، بسبب الجلود التي كانت ترتديها بعض الفرق. وكان رجل الأمن الجزائري يرتدي اللون الأزرق، وكانت البالونات البيضاء مهيمنة على سماء الجزائر العاصمة خلال أيام المهرجان الأفريقي، كما أن اللون الأبيض كان طاغيا على جدران العاصمة.
دلالات الألوان.. آثار الحضارات والثقافات الأفريقية
بعد ترميم اللقطات الأرشيفية وإخضاعها لمرحلتي التلوين التلقائي والدقيق، عُرضت على الجزائري لخضر بن تركي، وكان يشاهدها مع ابنه ويشرح له تفاصيلها بعد أن أصبحت اللقطات بالألوان، ويقول: كل فرقة قادمة من منطقة لديها شيء يميزها، وهذا يفسر التنوع الثقافي لولايات ومدن الجزائر.

ثم يحدثه عن علاقة الجزائر بمحيطها وتاريخها، وما حملته إليها الحضارات المختلفة من ألوان وثقافات. إذ يقول: الجزائر جزء لا يتجزأ من أفريقيا، وقد تأثرت بحضارات وثقافات مختلف الدول الأفريقية، وشاركت الدول العربية الأفريقي في المهرجان مثل مصر والسودان وليبيا وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا، ومن الجزائر شاركت عشرات الفرق، لأن كل ولاية لديها ما يميزها، والألوان المختلفة أيضا لديها مدلولات خاصة في هذه الولايات.
“كان العمل الثقافي بالنسبة لنا أهم من الخبز”
يتحدث لخضر بن تركي عن أهمية المهرجان الأفريقي بالنسبة للجزائر التي ما زالت تنفض عنها آثار الاستعمار الثقيلة قائلا: بعد 7 سنوات من الاستقلال لم تكن هناك مدارس ولا جامعات ولا فرص عمل، ورغم كل ذلك نظمت الجزائر مهرجانا ضخما مثل المهرجان الأفريقي الذي لم ينظم من قبل في أي بلد، المهرجان الأفريقي نظم عام 1969، وكانت الجزائر خارجة للتو من استعمار استمر أكثر من 130 سنة، ولهذا كان العمل الثقافي بالنسبة لنا أهم من الخبز.

ويقول: تطوعت أنا وأصدقائي للمساهمة في تنظيم هذا المهرجان، ولذا لم نكن نبحث عن المادة، فقد كان هدفنا خدمة الوطن كشباب، الأمر الذي رأيته كان بالنسبة لي أشبه بالمعجزة. ملايين البشر تقاطروا إلى شارع ديدوش مراد، وقد حضر الافتتاح الرئيس الراحل هواري بو مدين بمشاركة كل السلطة الموجودة آنذاك.
وكنا مجموعة كبيرة من الشباب نتنقل من مكان إلى آخر، وكنا نشاهد لوحات استعراضية غريبة وفريدة، وكلها تروي حكاية أفريقية، والفِرق كلها كانت فلكلورية، أي أنها كانت تعبر عن الموروث الشعبي.
“كل الشعوب الأفريقية كانت موجودة”.. مسرح ثقافي مفتوح
كانت أفريقيا جميعا حاضرة في المهرجان بالجزائر، حتى أصبحت شوارعها مسرحا للقارة السمراء بثقافاتها المختلفة. يقول لخضر بن تركي: كل الشعوب الأفريقية كانت موجودة بكل لهجاتها وأعراقها وتقاليدها وأفكارها، وكنا كل يوم نشاهد فرقة مغايرة، وكنا نتابع الفرق العربية بشكل وثيق، ومن بينها أول فرقة باليه تونسية، وقد تحولت الساحات العامة إلى مسرح متجول لعرض النشاطات الثقافية المختلفة.

كان ملعب 20 أغسطس/ آب مسرح كل الفرق القادمة من مختلف أنحاء الجزائر، وشاركت في المهرجان فِرق ومغنون عالميون، في مقدمتهم المغنية الجنوب أفريقية الراحلة مريم ما كيبا.
حين أعيدت الكرة في المهرجان الثاني لم يكن الوضع كسابقه، فقد أصبح المهرجان الأول رمزا وطنيا يمثل قارة كاملة. يقول لخضر: شاركتُ في المهرجان الأفريقي الثاني، وأشرفت على الساحات العمومية، ولكن لم يكن بحجم المهرجان الأول الذي بقي رمزا من الرموز التاريخية للجزائر، لأنها تحولت خلال أيامه إلى مسرح ثقافي أفريقي مفتوح، وكان بإمكانك أن تتعرف على أفريقيا كلها عندما تزور الجزائر العاصمة.