“المنشقّون”.. أنين مخرجة عاصرت عائلتها عقودا من الحروب الكورية

تستلهم المخرجة الكورية الجنوبية “هيون كيونغ كيم” فيلمها الوثائقي الجديد “المنشقّون” (Defectors) من الحرب الأهلية الكورية التي اندلعت عام 1950، ووضعت أوزارها سنة 1953، لكنها كانت بداية لتمزيق النسيج الاجتماعي الكوري، وقطع صلة الرحم بين أبناء البلد الواحد الذي نأى شماليّوه عن أبناء الجنوب، مُجبرين رغما عن إرادتهم التي صادرتها الأنظمة الشمولية المتعاقبة المستمرة منذ قرابة ثمانية عقود حتى الآن، فقد قسّمت أمريكا الجزيرة الكورية إلى كوريتين؛ شمالية (شيوعية) يؤازرها الاتحاد السوفياتي السابق، وجنوبية (رأسمالية) تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية.

فهل يستمر هذا التقسيم القسري إلى الأبد، أم أنّ تباشير الوحدة قد تلوح في الأفق بسقوط النظام الكوري الشمالي، والالتئام مع القسم الجنوبي الذي أعادت الولايات المتحدة صياغته، على وفق رؤيتها الرأسمالية والديمقراطية في آن معا.

يندرج الوثائقي في إطار المذكرات الشخصية والعائلية، لكنه يتشظّى في الوقت ذاته إلى الانشقاق والهجرة والشعور بالوحدة، والبحث عن هوية، والاندماج في المجتمعات الأوروبية المانحة لحق اللجوء السياسي والإنساني، إضافة إلى موضوعات وقضايا أخرى تتناسل عن المذكرات المُشار إليها سلفا، وتتمحور حول المخرجة “هيون كيونغ كيم” وعائلتها الموزّعة بين أمريكا والكوريتين الشمالية والجنوبية، إضافة إلى زوجها صانع الأفلام الوثائقية “روس ماكيلوي”.

كما تمتد هذه المذكرات وتتوسّع لتشمل حياة “كوون” الدبلوماسي الكوري الشمالي المنشق الذي استقرّ به المقام في المملكة المتحدة، بعد أن أدارت أمريكا ظهرها له ولعدد من المنشقّين من أمثاله.

تستعمل المخرجة “هيون” لقطات ومَشاهد أرشيفية ومقابلات مسجلة على مدار عشرين عاما لتستنطق التاريخ السياسي والاجتماعي لكوريا التي تعرضت للاحتلال الياباني، قبل أن تتقسّم إلى كوريتين؛ شمالية وجنوبية على أيدي الأمريكيين والسوفيات. وأكثر من ذلك فإنها تسعى إلى اكتشاف العواطف والمشاعر الإنسانية المدفونة في أعماق الناس الذين استهدفتهم كاميرتها، أو جذبتهم إلى مداراتها الضوئية الساطعة.

اتصالات المهجر.. وسيلة التواصل وتخفيف سياط الندم

تتبنى المخرجة عملية السرد، فهي الراوية والكائنة السردية التي ترى بعينيها وعدستها وبصيرتها الداخلية، وتبوح بالحقائق الصادمة أو العادية، وتترك للآخرين حق الحكم عليها بالقبول أو الرفض، أو وضعها في منزلة بين المنزلتين. وتنطلق من الجانب الذاتي المحض لتوضّح لنا أنها تركت والديها خلفها في كوريا الجنوبية لتكون مع الشخص الذي أحبّته، وجاءت معه إلى الولايات المتحدة، واستقرت هناك.

لا تمتلك “هيون” عائلة أو أصدقاء أو حتى معارف في أمريكا، لكن زوجها أصبح عائلتها وأصدقائها ومعارفها، فهو الصديق الوحيد الذي ترتكن إليه وتتوسد كتفه عندما تشعر بالتعب البدني والإرهاق النفسي.

تتواصل مع عائلتها في كوريا الجنوبية بالهاتف النقال صوتا وصورة، وهي محظوظة بذلك لأن التواصل الهاتفي ممنوع في كوريا الشمالية مع العوائل التي انشق بعض أفرادها وهربوا إلى بلدان اللجوء، وهي تشعر بالأسى لأنها تركت خلفها والديها الطاعنين في السن، لكنها تحسّ ببعض القناعة حين تفكّر بالعوائل الكورية الشمالية التي لا تستطيع رؤية أبنائها المنشقين إلا في الأحلام.

لقد سمعت الراوية أن جدتها لأبيها قد ذهبت إلى كوريا الشمالية خلال الحرب الكورية، لكنها اختفت هناك، فلا غرابة أن يتولّد لديها الفضول لمقابلة المنشقين الكوريين الشمالين، وتجاذب أطراف الحديث معهم، وتسجيله إن سمحوا بذلك.

“أشعر بحزن عميق أكثر من المُعتاد”.. جحيم الذكرى

تعلم المخرجة بأن هناك ندوة ترعاها الأمم المتحدة لثلاث نساء منشقّات من كوريا الشمالية في مدينة نيويورك، وتدور المحاضرة في جانب منها على عدم قدرتهن على نيل اللجوء من الحكومة الصينية، فلا غرابة أن يعشنَ في خوف مُريع وذعر متواصل من القبض عليهن، وترحيلهن إلى كوريا الشمالية، الأمر الذي يعرضهن إلى عملية الاتجار بالبشر، أو البيع في أسواق النخاسة الحديثة التي تُثبّت فيها الأسعار بحسب الأعمار، فالمرأة التي عمرها 20 سنة تُباع بأربعة آلاف دولار، والثلاثينية بـ3 آلاف دولار، والأربعينية بألفي دولار.

المخرجة الكورية الجنوبية “هيون كيونغ كيم” التي أخرجت فيلم “المنشقّون”

يعاني المنشقون من تأنيب الضمير لأنهم تركوا عائلاتهم في جحيم أرضي لا يُطاق، بينما هم يعيشون حياة مرفهة خارج كوريا الشمالية، فلا غرابة أن يشعروا بالضغط النفسي والكآبة التي تسيطر عليهم في غالبية الأوقات.

لم يكن القلق حكرا على شريحة مُحددة، فالراوية ومُخرجة الفيلم نفسها كانت عُرضة للأحلام والكوابيس الليلية التي تتمثّل في هجوم القوات الكورية الشمالية على أختها الجنوبية، ولم تتوقف هذه الكوابيس المُرعبة حتى دخلت الراوية إلى المدرسة الابتدائية، وانهمكت في شؤون التعليم الأوّلي الذي يبني شخصيتها الثقافية والمعرفية.

وكلما أطلت الذكرى السنوية للحرب الأهلية الكورية التي انطلقت في 25 يونيو/ حزيران 1950، تتصل الراوية بوالدها لتعرف كيف يشعر الآن، لكن رده ثابت لا يتغير حينما يقول “أشعر بحزن عميق أكثر من المُعتاد”، ولو تقصينا سبب هذا الحزن الدائم لوجدناه طبيعيا، فعندما سُرِّح من الخدمة العسكرية اعتقد هذا الأب المقاتل بأن الحروب قد انتهت، ولن تكون هناك نزاعات قادمة طالما أن أبناء جيله قد جعلوا الهدنة أمرا ممكنا.

كان الأب ممتلئا بالأمل ويتحرّق شوقا للسلام الأبدي، ولكنه سرعان ما ينتكس حين تأتي الأمور خلافا لتوقعاته، ويشعر من جديد بالحزن العميق الذي يمزق نياط قلبه، كلما حلت هذه الذكرى المؤلمة وتسرق الابتسامة من شفتيه.

ابنة الحروب.. عائلة عاشت تحت الاحتلال والصراعات

تستذكر المخرجة في هذا الفيلم أكثر من حرب، فقد وُلد والداها أثناء الاحتلال الياباني لكوريا (1910-1945م)، وشهدا تحرير البلاد من قبضة المحتل الياباني، لكن المحنة الأسرية سوف تتعمّق في الحرب الكورية، حين يفقد الأب عينه اليسرى وهو ابن عشرين، وتفقد الراوية جدتها من جهة الأب في تلك الحرب الضروس التي تُفضي إلى تقسيم البلاد إلى دولتين متناوئتين، وتدق بينهما إسفينا لم يُقتلَع لحد الآن.

ينتقل جد الراوية إلى مدينة سيول بعد تحرير كوريا من الاحتلال الياباني، لكن ما إن تندلع الحرب الأهلية الكورية حتى يغيب ويتلاشى مثل الدخان ويترك الناس يتحدثون عنه، ويقولون إنه ذهب إلى الشمال وترك خلفه تسعة أطفال، أما والدة الراوية وعائلتها فقد هربوا جميعا مُقتربين من قوات كوريا الشمالية، لأن أباها انشق وقرر أن يعيش هناك، وبينما كان الأب في العشرين من عمره سيلتقي بأمها ويبدأ معها حياة جديدة في تلك المضارب.

مخرجة الفيلم التي عاشت عائلتها تحت الاحتلال

تتقصى المخرجة أخبار مؤتمر لحقوق الإنسان عن كوريا الشمالية في العاصمة الأمريكية واشنطن، على أمل الحديث مع أحد المنشقين الكوريين الشماليين، وقبل أن تخوض في تفاصيل اللقاء تسلط عدسة كاميرتها على شعار مخطوط يقول “الحرية ليست مجّانية”، وهي تأتي غالبا معمّدة بدماء المضحّين.

“اعثروا عليه الآن”.. دبلوماسي منشق يعض أصابع الندم

بعد حوار مُقتضب مع “كوون” نكتشف بأنّ هذا المنشق هو دبلوماسي من كوريا الشمالية، انشق عندما كان يعمل في سفارة بلده في فيتنام عام 2015، ثم انتقل إلى كوريا الجنوبية وعاش فيها سنتين، لكنه سرعان ما قرّر مغادرة كوريا الجنوبية لأنه قادم من مجتمع اشتراكي، ولا يعرف الكثير عن النظام الرأسمالي الذي فرضته أمريكا على القسم الجنوبي من الجزيرة الكورية، ويرى أنه من الصعب جدا أن يتكيّف مع هذا النظام الجديد، حتى لو توحدت كوريا في المستقبل.

ينتمي “كوون” إلى الطبقة العليا في المجتمع الكوري الشمالي، وقد درس اللغة الفرنسية وآدابها، وعُيّن دبلوماسيا في سفارة بلاده في فيتنام، وحين أُعلن خبر انشقاقه أمر الزعيم “كيم جونغ أون” بغضب “اعثروا عليه الآن”، فانهمكت العناصر الأمنية بالبحث عنه واقتفاء أثره. وفي صحوة ضمير قال “كوون”: يبدو أنني هربت لأنقذ حياتي سواء أكنت مُتهما أم بريئا، لقد دمّرت حياة عائلتي هناك، أشعر بأنني مذنب بحقهم.

ترك “كوون” خلفه أمه من جهة، وزوجته وابنه الوحيد الذي يبلغ من العمر 13 سنة، وقد كان المعلمون يحبّون ابنه ويعاملونه معاملة خاصة فيها كثير من العناية والاهتمام، لكنه مُوقن تماما بأنهم يعاملونه الآن بسوء بعد انشقاق والده.

يغادر “كوون” كوريا الجنوبية إلى أمريكا باحثا عن اللجوء السياسي، لكن أمريكا تخذله، فيقدم طلبا للجوء في المملكة المتحدة، فتوافق على إعطائه حق الإقامة فقط، ويظل فيها رهين المنزل لا يستطيع السفر أو العمل أو التنقل بحرية.

ألاعيب السفير.. عقوبات قاسية تقود إلى الانشقاق

ثمة مشاهد للحياة اليومية في كوريا الجنوبية تعمدت المخرجة إظهارها للمتلقين، لتبيّن الفرق الكبير بين كوريا الجنوبية وشقيقتها في الشمال، فالأطفال يلعبون بالهواتف النقالة وأجهزة الآيباد في المتروهات وقطارات الأنفاق، بينما يطمح أطفال كوريا الشمالية إلى أبسط الأشياء.

يطمح “كوون” أن يدرس اللغة الإنجليزية وأن ينتقل إلى مستوى أفضل، فهو يعمل بدون رخصة عمل في شركات متنقلة أو أسواق بقالة، ويحصل على أجره يوما بيوم. وهو بوصفه كوريا شماليا يشعر بالتمييز العنصري سواء في كوريا الجنوبية أو في المملكة المتحدة، لكن هذا الشعور ليس صحيحا، كما أن غالبية الناس لا تنظر إلى اللاجئ باستصغار، وإنما تطالبه بالحصول على رخصة عمل كي يلتزم بدفع الضرائب ويعمل بشكل أصولي لا ينطوي على مخالفات قانونية.

الدبلوماسي الكوري الشمالي كوون

في فيتنام كان دبلوماسيو كوريا الشمالية يبيعون سياراتهم الأجنبية للمواطنين الفيتناميين بشكل غير قانوني لا تترتب عليه ضرائب، وقد باع “كوون” سيارته ثم بعث النقود إلى عائلته التي تعيش حياة مرفهة، لكنه لم ينجُ من من حيل السفير وألاعيبه، فاخترع له مشكلة، وصادر أموال السيارة التي باعها، وادعى بأنه سيستعمل هذه النقود لتغطية احتياجات السفارة. كما اتهمه بأنه رأسمالي ومندمج مع الناس في خارج السفارة، وهذه التهم الخطيرة سوف تعرّضه بالتأكيد إلى عقوبات قاسية، وهي التي دفعته إلى الانشقاق.

“سأطلب صفحهُ ومغفرتهُ، لأنني أهملتهُ وهجرتهُ وهربت”

لا يفتقد “كوون” زوجته، وإنما يفتقد ابنه وأمه كثيرا، وحجته في ذلك أن الحكومة ستجبر زوجته على الاقتران برجل آخر حتى تنظّف سجلها الشخصي، ويتوجب على ابنه أن يبقى مع جدته. ثم يصف لها اليوم الأخير الذي أمضاه مع ابنه في أحد متنزهات بيونغ يانغ، حيث حمله على ظهره لوقت طويل، ثم تركه يجرب كل الألعاب من بداية المتنزّه إلى نهايته.

ولعل الشيء الأكثر أهمية هو إجابته على سؤال المخرجة عن الشيء الذي يود أن يقوله لابنه إذا التقيا ثانية بعد هذه التجربة المريرة، فأجاب “سأطلب صفحهُ ومغفرتهُ، لأنني أهملتهُ وهجرتهُ وهربت”.

تستذكر الراوية جدها الذي ذهب إلى الشمال، ولعله تزوج هناك بعد أن تقسّمت البلاد بعد الحرب الأهلية التي وضعت أوزارها بعد ثلاث سنوات، وعانى غالبية الناس من الفقر والجوع والتشرّد، ومنهم أم الراوية التي هي البنت الكبرى بين تسعة أطفال، وكان عليها أن تتخلى عن دراستها لتهتم بهم جميعا، ومع ذلك فإنها لا تزال تجلس أمام شاشة التلفاز، وتدوّن بشكل مستمر أسماء المطربين والمطربات وعناوين الأغاني.

وفي مرآة الصندوق التي أعطتها جدتها لوالدة الراوية، ثمة رسالة لأحفادها تقول فيها: افرحوا دائما، ولا تتوقفوا عن الصلاة، جدتكم تحمّلت الجوع الشديد عندما كانت مريضة، وجرّبت الألم المميت، لكنها تحمّلتهُ، أمٌ لتسعة أطفال كانت تصرخ دائما وتصلّي لله لكي يغمرها بعنايته.

“نحن في كوريا الشمالية نفعل ما نريد”

تعود المخرجة إلى المنشق “كوون” وتسأله عن الطريقة التي تعرّف بها على زوجته، فيخبرها باختصار: ذهبتُ إلى الكنيسة، وهناك قدّمها لي أحد أعضاء الكنيسة، وعلى الرغم من كآبتي فقد شعرتُ بالفرح والسعادة، لأنني كنت محتاجا إلى شخص ما يشاركني أفكاري وهواجسي، فبدأنا نعيش معا ويساعد بعضنا بعضا.

وأضاف بأن زوجته لديها طفلة في عمر ابنه ويعتبرها ابنته، أما زوجته الثانية فهي سعيدة بهذا الزواج من دبلوماسي سابق يعتني بالتفاصيل المهمة كثيرا، لكنه لن يكون دبلوماسيا عندما يفقد مزاجه، ثم تعرِّج المخرجة بأسئلتها صوب الفوارق بين الأزواج الأوروبيين والكوريين.

لقطة من لقطات الحرب الكورية الأهلية التي وردت في الفيلم

ثم ترجع إلى “كوون” وتسأله عن مجال اختصاصه والأشياء التي قرأها وأحبّها كثيرا، فيجيب: كنتُ أقرأ أصول المصطلحات والأمثال والأساطير، وكنتُ أقرأ دائما كتابا ممتعا اسمه “الكلاب تنبح والقافلة تسير”، وهذا ما قاله دبلوماسي كوري شمالي في أثناء قمّة كوريا الشمالية مع أمريكا سنة 1993م: هذا يعني أننا سنذهب في طريقنا واتجاهنا، وهذا ما تفعله كوريا الشمالية، ولا يهم إن اعترضت بقوة بلدان أخرى، فنحن في كوريا الشمالية نفعل ما نريد.

وحدة الكوريّتين.. أحلام يعجز عن تحقيقها الجيل الحالي

ينطوي الفيلم على تقنية ميتاسردية، فالمخرجة توظّف فيلما تحريكيا يحمل عنوان “الجنرال توري” (General Tori) للمخرج “كيم جونغ كي” (1978)، وهو فيلم مُضاد للشيوعية كان شائعا بين أطفال كوريا الجنوبية.

يتمحور هذا الفيلم حول طفل يُدعى “توري”، وهو يعيش في الغابة ويُساعد الناس الذين يتعرّضون للتهديد من قِبل الشيوعيين، وقد افتُتن بهذا الفيلم من دون أن يعرف ماذ تعني عبارة “مُضاد للشيوعية”. وكل الذي يعرفه بأن الشيوعيين يبدون أشرارا وماكرين.

يظهر “كيم إيل سونغ” في هذا الفيلم خنزيرا، ويظهر الشيوعيون ذئابا وثعالب… إلى آخر هذه الحكاية المعروفة لمشاهدي الفيلم، ثم تنتقل المخرجة إلى الحديث عن فكرة توحيد الكوريتين، وتسأل أناسا من أعمار مختلفة، فبعضهم يقول إنها رغبته الحقيقة، لكنها ليست سهلة الآن، وبعض آخر يقول إنه لو أُعيد توحيد الكوريتين فإن لديهم مشاكل أخرى، مثل توحيد الأرض واللغة والثقافة والسياسة، وهذا الأمر يتطلّب جهودا جبارة لا يستطيع أن يقوم بها أبناء هذا الجيل.

تسلّط المخرجة عدسة كاميرتها على الجسر الذي يربط بين ما يسمّى بالكوريتين الآن، فقد سبق لأهلها أن ذهبوا بالقطار من الجنوب إلى الشمال، لكن هذا الجسر تحديدا قُصف في أثناء الحرب، ودُمر بالكامل، ولم تبقَ منه إلاّ الأنقاض التي تُشعر الناظر بهول الحرب وجسامتها.

ويرى بعضٌ أن عملية إعادة التوحيد صعبة ومستحيلة، وآخرون يتمنون فقط أن يسافر إلى كوريا الشمالية بأمان، وهناك من يرغب في أن تتقوّض كوريا الشمالية من تلقاء نفسها. أما المخرجة فيتداعى إلى ذهنها ما قال الأب إنه يشعر بالحزن العميق كلما دهمته هذه الذكرى الحزيرانية المُفجعة.

عائلة المخرجة.. غربة وكآبة وتيه وفقدان في الحرب

إذا كان والد الراوية قد فقد عينه اليسرى في الحرب الكورية، فإن الأم قد سقطت في الحزن والكآبة والتيه، خاصة بعد أن ضعفت ذاكرتها وصارت تستعين بدفتر تدوّن فيه أسماء المطربين وأغانيهم المفضلة لديها، فهي تتابع بشكل محموم غالبية الأغاني التي تبثها القنوات التلفزيونية في كوريا الجنوبية، وتشعر ببعض الراحة النفسية.

صورة لوالد أم المخرجة التي سقطت في اليأس والعزلة والكآبة بعد انفضاض جميع أفراد العائلة عنها

وفي أوقات فراغها تخرج إلى الشوارع المجاورة لتجمع الأثاث القديم والأدوات المنزلية التي ضاقت بها غرف المنزل، وحينما تسألها البنت عن سبب هذا الهاجس الغريب تقول “لأنني وحيدة جدا”، فقد ماتت أختها، وذهبت “هيون” لتعيش ما وراء البحار، فلا غرابة أن تسقط الأم في خانق الحزن الأليم.

لم ترَ عائلة المخرجة “هيون كيونغ كيم” زوجها مخرج الأفلام الوثائقية إلا عبر كاميرا الهاتف النقّال، وحينما حدث زفاف ابن أختها زار زوجها الأمريكي “روس ماكيلوي” كوريا الجنوبية لكي يلتقي بوالديها أول مرة، ويصوّر حياتهما المنزلية، وكانت تخشى أن لا يفهم أحد حياة والدتها الغريبة على وجه التحديد، لكن المخرج “روس” كان تواقا لمعرفة هذه العائلة التي مزقتها الحروب، وظلت متشبثة بالوطن وحب الحياة.

تساقط الأوراق.. نهاية واقعية وزيارة إلى منزل العائلة

تختم المخرجة فيلمها بزيارة خاصة إلى والديها، فتعيد اكتشافهما من جديد، حيث تَعلّم الأب بضع كلمات وعبارات إنجليزية حينما كان يخدم في الفرقة الأمريكية العاشرة، أمّا الأم فظلت متشبثة بالمنزل المكتظ بقطع الأثاث والدمى والورود والأكواب التي تجدها في مكب النفايات، وتضعها في أرجاء المنزل، لكن أفراد الأسرة كانوا يتحيّنون فرص غيابها ليعيدوا أكبر قدر ممكن من هذه الحاجيات إلى صناديق القمامة ثانية.

تنظر المخرجة “هيون” إلى غرف المنزل من منظور والدتها المتوحدة فتقول: لو أنها ولدت في أزمان أفضل مع هذه الأشياء والكراكيب التي جمعتها من الشارع، لربما أصبحت فنانة تركيبية.

ينتهي الفيلم نهاية واقعية، إذ يموت الجد وتُوضع الزهور على تابوته، وتتمنى الراوية أن تنشد التراتيل لكي تكون أقرب إلى الله، فالأجيال الكبيرة الشائخة لا بد أن تتلاشى مثل أوراق الشجر التي تتساقط على الأرض من تلقاء نفسها، والستارة لا بد أن تنزل على خشبة المسرح، ويغادر الممثلون تباعا إلى مصائرهم المجهولة في العالم الآخر.

ورغم الهدوء النسبي الذي تشهده الجزيرة الكورية بشقيها الشمالي والجنوبي، فإن الحرب الكورية لم تنتهِ من وجهة نظر المخرجة “هيون جونغ كيم”.

ومن الجدير بالذكر أن “هيون كيونغ كيم” هي صانعة أفلام مستقلة من سيول، وأول فيلم وثائقي طويل لها كان بعنوان “ماذا ننتظر؟” (What Are We Waiting for?) عام 2005، كما أنجزت أفلاما أخرى من بينها “البحث عن حالة ذهنية” (In Search of a State of Mind)، و”مواجهة” (Encounter) عام 2013، و”آني المُميزة” (Special Annie) عام 2015، إضافة إلى فيلم “المنشقوّن” مدار بحثنا ودراستنا النقدية الراهنة.