“فيلم عن الشرطة”.. قصة حب وكفاح تكشف الجانب الإنساني لحماة الأمن بالمكسيك

ماذا لو كنت شرطيا في المكسيك، بلد الجريمة المتفشية والعصابات المارقة؟ لن يكون الأمر هيّنا بكل تأكيد. ولكي نعيش هذه الفرضية نبحر في الفيلم الوثائقي الدرامي “فيلم عن الشرطة” (Una Película de Policías) للمخرج “ألونسو رويزبالاسيوس” (2021)، وفيه يرافق الشرطية “ماريا تيريسا هيرنانديز”، ويسجّل وقائع حياتها اليومية أولا، ثم ينصرف إلى الشرطي “خوسيه دي خيسوس رودريغيز فيرنانديز”، فيتتبع مسار حياته الأسرية والمهنية، ويوثّق وقائع أيامه الرتيبة.

ومن شأن التوثيق اليومي أن يكون رتيبا مملا، لكن المخرج يخفي للمتفرج مفاجآت ومقالب، فيلاعبه وينتزعه غصبا من حياده، ليتفاعل مع هذا الفيلم المستفز الذي يخرج عن معهود التجارب السينمائية.

“ماريا”.. شرطية في مهمة خاصة تتحول إلى قابلة

يفتتح الفيلم بسيارة الشرطية “ماريا تيريسا هيرنانديز” المصفحة وهي تجوب الشوارع الخطيرة ليلا، ويجعل منبهات سيارات الشرطة خلفية صوتية مولّدة للتوتر والشعور بالخطر الوشيك والملاحقات المجنونة. ذلك دأب هذه الشرطية منذ 17 سنة من الحياة المهنية.

ويصادف التصوير مهمة خاصة جدا تتولاها “ماريا تيريسا” ومفاجأة غير منتظرة، فقد كانت امرأة في حالة مخاض معسر، وفريق (Z14) الخاص بمثل هذه الإسعافات لا يستجيب لاستغاثة أهلها الغاضبين المهدّدين، لذا كان لا بد أن تقبل التحدي مدفوعة بحس المرأة، وأن تتقمص دور القابلة، وحالما تُسلّم بالدور تواجه مشاكل جمّة، فهي لم تتلقَّ تدريبا حول مختلف الإسعافات الطبية، والإدارة لا تزودها بالتجهيزات الطبية، فلا تمتلك إلا البسيط منها مما تشتريه بنفسها.

وبعد جهد ولحظات عصيبة تنجح في مساعدة المرأة على الوضع، وفي تقديم الإسعافات الأولية لها والعناية بالرضيعة، وتتلقى بالمقابل جائزة الشجاعة والمثابرة، فتتحول للحظات إلى بطلة، ويحملها الأهالي على الأعناق ابتهاجا، ويقرر والدا الفتاة إطلاق اسم “تيريسا” على الوليدة، اعترافا بفضلها، رغم ممانعتها لأنها لا تحب اسمها، وتتمنى اسما أكثر أناقة للوليدة الحديثة.

قدر الفاشلين.. ابنة الشرطي العنيدة تقاتل عقدة النقص

تعود الشرطية “ماريا تيريسا” بنا القهقرى لتسرد لنا بداية تجربتها المهنية المريرة، فقد لاحظ رؤساؤها ثقتها المفرطة بنفسها، ولكسر شخصيتها الصلبة يقررون إرسالها إلى أكثر الأحياء خطورة، وسبب شخصيتها المتنطعة تلك يعود إلى جهاز الشرطة نفسه، فهي ابنة شرطي، وقد نشأت على الاعتقاد بأنها محمية أينما ذهبت، وأن صفة والدها الأمنية تحفّ بروحها.

وفي الآن نفسه -وهنا وجه المفارقة- أشعرتها هذه المهنة بنقص ظلت تعمل على تجاوزه، فقد كان والدها يدرّب إخوتها الذكور على بعض المهارات الجسدية، ويلتقط صورهم بفخر، فيزرع فيهم الإحساس بالقوة، وكان يحرمها من مثل هذا التعامل لأنه يريد لها حياة منعمة، بعيدا عن العنف الذي ترشح به مهنة الشرطي، وبدافع الغيرة أو منافسة الأشقاء أو تحدي التمييز الأبوي، باتت تحلم بأن تكون تلك الشرطية التي يخشى عليها والدها منها.

وكانت لوالدها وجهة نظره الخاصة، فقد كان يرى أن الانتساب إلى الشرطة قدر الفاشلين، ومن ثمة كان يرفض انضمام أبنائه إلى صفوفها، لذا يواجه البنت المتمرّدة بصرامة، فيحرمها من مختلف الامتيازات، ولا يوفر لها إلا الحد الأدنى من الكماليات.

حفل التخرج.. فخر وهواجس في مهنة التحرش والخطر

كانت للأب فلسفة ونظر، فقد كان يريد لابنته أن تختبر حياة الشظف التي يعيشها رجال الشرطة، وأن تسلّم بعجزها عن التعاطي معها، لكن بدل أن تستسلم “ماريا تيريسا” لرغبة والدها وتستوعب الدرس القاسي، فقد شعرت بجرح نفسي جعلها تصرّ على أن تثبت لوالدها أنها مهنة الناجحين المميزين أيضا.

وبالفعل فبعد أن تخطت كل التحديات وتخرجت من أكاديمية الشرطة، أذعن الأب وتحولت قسوته إلى حنان وعطف، وتحوّل خوفه إلى فخر، فحضر الحفل والتقط الصور وشارك ابنته فرحتها.

ومع ذلك فلم يسلم الأب من هواجسه، فطلب منها أن لا تذكر أبدا أنها ابنته، فخبرته بالجهاز تجعله يدرك أن الكوادر العليا يتحرشون بالشرطيات الجميلات اللواتي كثيرا ما ينخرطن في اللعبة، أما كبرياؤه فيجعله يكره أن يرى ابنته في موقف شبيه بذلك، ولأنه بات يدرك أن جماح “ماريا تيريسا” لا يُكبح إن هي انساقت في ذلك التيار، فالأفضل أن لا يعرف زملاؤه بأنها ابنته على الأقل.

الشرطية المكسيكية “ماريا تيريسا” التي عُرفت بإنسانيتها في مساعدة امرأة حامل

لا تأبه الفتاة لهواجس الأب، ولا تضع حدودا لتحديها، فتقرر أن تعلن صلتها به على رؤوس الملأ، وأن تطلب مرافقته في دورية مشتركة. ماذا لو لقي مصرعه بين ذراعيها؟ فمهنته هي مهنة الخطر، لكنها لا تبالي بهذه المخاوف أيضا، وبالمثابرة تنجح في انتزاع اعتراف الأب بتفوقها، وإن بشيء من المكابرة، فيكتب لها كلمات مؤثرة تقطر فخرا بهزيمته أمامها، لكن يمنعه كبرياؤه من أن يصرّح بها وجها لوجه.

“لقد أصبحت خسيسا إذن”.. حوار صديق حميم يؤدي إلى السجن

النموذج الثاني الذي يعرضه الفيلم هو “خوسيه دي خيسوس رودريغيز فيرنانديز”، فهذا الرجل له أيضا قصته العائلية التي دفعته للانضمام إلى جهاز الشرطة، فقد كان أخوه يعمل بوحدة مكافحة الشغب، وكان يُلبسه زي رجال الشرطة، وكان زملاؤه الذين يصاحبونه إلى المنزل يدرّبونه على استعمال السلاح، وكان الشعور بالقوة يكتنفه عندئذ، ويدفعه إلى الانتساب إلى جهاز الشرطة.

ولأنّ الخبر ليس كالعيان، يكتشف “خوسيه” واقعا آخر مخالفا تماما حين يباشر مهنته، فقد كان يواجه تحرّش المجرمين به واستفزازهم، وكان عليه أن لا يرد الفعل بحجة حقوق الإنسان التي تفرّط في حقوق الشرطي وفي كرامته، وبسبب الخوف من ثأرهم وتنكيلهم بأسرته أو تنكيل عائلاتهم به، كما أن القانون الذي ينظّم المهنة ظالم، فلا يجوز للشرطي أن يخلع السترات الواقية لأي ظرف من الظروف، وفي حالة إصابته وهو لا يرتديها يُحرم من التأمين، وعند إصابته وهو في سيارة الشرطة تُحمّل المسؤولية للسائق.

هذا فضلا عن الراتب الزهيد الذي يدفع جهاز الشرطة إلى الفساد دفعا، ويحثه بشكل ما على التغاضي عن المخالفات، مقابل بعض القطع النقدية التي تؤمن له وجبة خفيفة قد لا يجد مقابلها في جيبه، رغم ساعات العمل الطويلة.

وكان “خوسيه” يعاني من جرح نرجسي أيضا، فقد صادف أن التقى زميل دراسته وصديق الطفولة الحميم بعد فراق طويل، وحالما يعلم هذا الصديق أنه أصبح شرطيا يقول له “لقد أصبحت خسيسا إذن”، فتكلفه تلك الإهانة ردّ فعل عنيف، ويزجّ به في السجن لعامين.

أبطال الفيلم.. خطان متوازيان وجدا السكينة والرفقة

نشأت “ماريا تيريسا هيرنانديز” في ظل أب حامٍ حانٍ، وربما لأنها افتقدت هذه الصورة في زوجها المهمل فقد قرّرت التخلص من عبء زواجها الفاشل لتعيش وحيدة، أما “خوسيه دي خيسوس رودريغيز فيرنانديز” فقد نشأ في حي فقير، مع أم فظّة ترى أن القسوة وسيلة ناجعة لمنع ابنها من الانخراط في عالم الإجرام، بسبب افتقاده لأب يراقبه.

الممثل وراؤول بريونيس يتقمّص دور الشرطي خوسيه دي خيسوس

ولعل هذا السبب هو ما جعله يفشل في حياته الأسرية ويعيش الوحدة، ثم يقع ضحيّة لحالة اكتئاب عميق ويدمن الخمر، أو لعل طبيعة حياة الشرطي التي يعيشها في خضم ارتفاع الأدرينالين تحفزا للانفعالات الشديدة، أو الأخطار المفاجئة كانت سببا في الفشل العاطفي لكليهما.

لقد كان الشرطيان يسيران في خطين متوازيين، لكن للحب قانون غير قانون الهندسة، فعنده التقيا، ووجد كل منها توازنه بصحبة الآخر، حتى أنهما باتا يدفعان رشوة للعمل معا في الدورية نفسها، وباتت دوريتهما تسمى بدورية الغرام، بعد أن شاع أمر علاقتهما بين رؤسائهما في العمل. ومن قال إن الزواج مقبرة للحب؟ فقد وجد كلّ منها السكينة والرفقة الجيّدة.

مقلب السيناريو.. ممثلان محترفان يقتحمان صفوف الشرطة

تبدو القصة جميلة ومؤثرة حقا، لكن في العمل أكثر من مصادفة يجد عقل الناقد صعوبة ليبرئ خيال المخرج منها. ما يؤكد ذلك مسار التقاء المحبين وعيشهما هو زمالة العمل التي تحولت إلى قصة الحب العنيفة، أو التقاء “خوسيه فيرنانديز” مع صديق الطفولة بعد أكثر من عقدين، ليعيشا حقيقة ما كانا يمثلانه افتراضا، أي دور المجرم ورجل الشرطة.

أضف إلى ذلك المؤثرات الدرامية والمنكهات التي ينتظرها مستهلكو الأفلام النمطية كعرض المطاردات العنيفة، أو مشاهد الحب بين الزوجين. وبالفعل يحدث تحوّل مفاجئ يقلب المعطيات كليا، بداية من الشطر الثاني من الفيلم، فنكتشف أن ما حسبناه وقائع مؤثرة ليس سوى حكاية مصطنعة، وأن ما تصورناه توثيقا هو محض تخييل.

يخبرنا الفيلم إذن أنه كان يلاعبنا، وأنه جعل الممثلة المحترفة “مونيكا ديل كارمين” تتقمص دور “ماريا تيريسا هيرنانديز”، وجعل الممثل “راؤول بريونيس” يتقمّص دور “خوسيه دي خيسوس رودريغيز فيرنانديز”.

وليتدربا على لعب دوري الشرطيين العاشقين في الفيلم، وليعكسا صورة أمينة متعدّدة الأبعاد لحياة رجل الشرطة، فقد انضم الممثلان إلى جهاز الشرطة في مارس/ آذار 2019، وانغمسا في حياة رجالها لمدة مئة يوم، ورافقا الضباط في دورياتهم، وسجلا انطباعاتهما بطريقة سرية عبر أجهزة الهاتف.

ملصق “فيلم عن الشرطة” للمخرج “ألونسو رويزبالاسيوس”

يتعيّن علينا أن نعيد ضبط كل ما مر بنا من الأحداث، وأن نفهمها باعتبارها مقدمة للقسم الوثائقي الحق الذي يرد في الشطر الثاني من الفيلم، فيعرض شهادة الممثلين حول التجربة، أو يستجوب طلاب أكاديمية الشرطة حول التكوين الذي يتلقونه والظروف التي يعيشونها.

عالم الشرطة.. ما وراء الصورة القبيحة في الشارع

يسعى الفيلم عبر بنائه الفريد إلى الإجابة عن أسئلة المواطن المكسيكي حول جهاز الشرطة الذي يصطدم به باستمرار. لماذا يكون رجال الشرطة مخيفين؟ ولماذا لا يقومون بدورهم فيصبحون طرفا في الجريمة المنظّمة بدل حماية المواطنين منها؟

وتخول له معايشة ممثلي الفيلم لحياة الشرطيين أن يصحح مصادراته، فالمجتمع لا يقدّر رجل الشرطة التقدير الجيّد، وينسى أنه الطرف الوحيد المخوّل له استعمال العنف المادي، ضمن أطر يضبطها القانون، أو أنه حامل للسلاح، أي له في وضعيات بعينها أن يتّخذ القرار بإنهاء حياة أحدهم.

لذلك فلا بدّ من تأهيله نفسيا وذهنيا وجسديا التأهيل الجيّد، ولا بد من حمايته اجتماعيا من حياة الفاقة، وهذا كلّه لا يتحقّق على أرض الواقع، لذلك تتدهور صورة الشرطي، ويتقهقر أداؤه وتنحدر صورته اجتماعيا، ويعزف الشبان عن الالتحاق بهذا الجهاز، فلا يستطيع أن يستقطب إلا من ضاقت بهم السبل.

على هذا النحو يظل الفيلم يعمل على أن يحشد التعاطف مع هذا الجهاز المهمّش، أو يهوّن من انحرافات بعضهم كالانخراط في الجريمة المنظمة، أو استغلال النفوذ لابتزاز المخالفين، ولتحصيل المنافع منهم.

مزج الأصناف السينمائية.. شجاعة تأخذنا إلى قاع المجتمع المكسيكي

يبقى لنا أن نتساءل: إلى أي نمط ينتمي هذا الفيلم؟ بعبارة أخرى ما الحدود بين التوثيق والتخييل فيه؟ فقد اتضح بعد عرض كواليس التصوير وحفظ السيناريو في الشطر الثاني أن ما بدا توثيقا من الفيلم ناشئ عن الخيال، وأن الحوارات التي كنّا نظنها تجري بتلقائية بين الشرطة والمواطنين هي أقوال مكتوبة بإتقان حاولت أن تضللنا، ثم أن تسخر منّا، وهي تكشف لنا وقوعنا في حبائلها.

هذا يعني أننا أمام فيلم مبتكرٍ يكسر كل القوالب المعهودة للإنشاء السينمائي، هجينٍ يجمع بين الأنماط والأجناس الكثيرة. ولا يسعنا هنا إلا أن نستحضر فيلم “القرية” (The Village) الذي أخرجه الأمريكي “م نايت شيامالان” عام 2004، ومدار أحداثه على مجتمع صغير يعيش عزلته في حياة من القرون الوسطى تذكي خرافاتها بالاعتقاد أن جنسا من المخلوقات الأسطورية يسكن الغابات المحيطة، وتمنع الشباب من أن يغامروا بترك الغابة.

لكن حادثا خطيرا يصيب أحد شبانها، مما يجبر بعضهم على البحث له عن دواء خارج إقليم هذا المجتمع المعزول، لنكتشف أن أهل القرية معاصرون لنا، وأن كبارهم اختاروا حياة العزلة رفضا منهم لحياة المدنية الزائفة المعادية لإنسانية الإنسان اليوم، رغم ما تشهده من التقدم التقني. فالفيلمان كلاهما يقومان على ما يصطلح عليه بالجدْل (أي الانقلاب المفاجئ الذي يعصف بتوقعات المتفرّج كليا).

وفي ملاعبة المخرج “ألونسو رويزبالاسيوس” لنا كثير من الشجاعة الفنية التي تمزج بين الخيالي والواقعي والحقيقي، وعبر هذا المزيج أخذنا إلى مَواطن من قاع المجتمع المكسيكي، ما كنّا لندركها بهذا الوضوح خارج هذه المقاربة الفنية.