“مسرح العنف”.. محاكمة مقاتل كان ضحية لجيش المعارضة في طفولته
تُعد محاكمة المقاتل الأوغندي “دومينيك أونجوين” في هولندا فريدة في نوعها، لكونها الأولى دوليا التي تُحاكم جنديا خَدم في قوات المعارضة الأوغندية بسبب جرائم حرب ارتكبها. الأمر الآخر الذي يجعل تلك المحاكمة سابقة في التاريخ الحديث للقارة الأفريقية هو كون المقاتل الأوغندي نفسه كان ضحية، إذ أُجبر وهو ابن تسع سنين على الالتحاق بجيش المعارضة المسلح في بلده، وتحوّل مثل الآلاف من أبناء قارته لما يُعرف بالجندي الطفل، وهذا سيحدد كثيرا خريطة حياته والوجهات العنيفة التي سيأخذها في المستقبل.
يستعيد الفيلم الوثائقي “مسرح العنف” (Theatre of Violence) للمخرجين البولندي “لوكاس كونوبا” والدنماركي “إميل لانغبالي”؛ تلك المحاكمة الشهيرة التي بدأت في عام 2016 في المحكمة الجنائية الدولية في هولندا، ويحقق في أكثر من اتجاه في حياة الجندي، والظروف التي قادته لاقتراف ما فعل، كما يتناول الفيلم وضع البلد الأفريقي المعقد، خاصة أن تصوير العمل الوثائقي صادف موعد انتخابات رئاسية جديدة في البلد، وسيتخللها عنف كبير.
“يبدو أنني اختطفت مرة ثانية”.. أسئلة فات أوانها
كان القاضي الدولي يتلو قائمة التهم الموجهة لـ”دومينيك”، وقد وصلت إلى سبعين تهمة، بينما كان وجه “دومينيك” باردا بلا مشاعر، تغطيه كمامة طبية (صورت بعض مشاهد الفيلم أثناء وباء كورونا)، وكأن الاتهامات كانت تخص شخصا آخر. بيد أنه عندما تكلم لأول مرة، بدا أنه حضّر كثيرا لمرافعته في المحكمة، وقد حظيت بتغطيات إعلامية واسعة في أفريقيا وخارجها.
يتحدث “دومينيك” قائلا: “يبدو أنني اختطفت مرة ثانية. هل تظنون أنني كنت قائد التنظيم، هل نسيتم كيف وصلت إلى هنا، وأين كنت قبل أن يختطفني جيش المعارضة؟” بهذا السؤال يفتتح مرافعته أمام المحكمة الدولية التي كانت تسعى لإدانته، لكن الوقت فات على هذه الأسئلة، فهو موجود في هولندا، والأدلة التي تدينه كثيرة.
وقد أعقبت مرافعته نقاشا مثيرا بين فريق الدفاع والمحكمة عن براءة الأطفال وتشويهها عبر تجنيدهم في معارك وحروب قاسية للغاية. تتردد قضية البراءة كثيرا عبر مرافعات فريق الدفاع، بل ستكون الأساس الذي يستند عليه فريق الدفاع في مرافعته ضد قائمة الاتهامات الطويلة الموجهة للمتهم، والموثقة بكثير من الأدلة.
دارت كاميرا الفيلم كثيرا في قاعة المحكمة الدولية في مدينة لاهاي الهولندية، وتوقفت بصورة دورية على وجه “دومنيك” المتصلب. اختار الفيلم التقشف على صعيد التصوير في قاعة المحكمة، وغلب على مشاهدها اللون الأزرق الذي يعكس الأجواء الباردة للمحكمة والمدينة التي تجري فيها المحاكمة، على عكس اللون البرتقالي والأحمر المهيمنين على المشاهد المصورة في أوغندا التي يقضي فيها الفيلم فترات طويلة.
“كرسبوس أينا”.. رحلة إلى القرية مع محامٍ مثير للجدل
يعود الفيلم إلى أوغندا، إلى مكان الأحداث الأساسية التي شَكَّلت شخصية المتهم، ويقود الرحلة في أوغندا محامي “دومنيك” نفسه، ويُدعى “كرسبوس أينا”، وهو شخصية مثيرة للجدل، بسبب الأفكار التي يطرحها ورؤيته الخاصة لتاريخ بلده.
يملك المحامي شخصية مُحببة للغاية، بل إنه يتحول -بسبب غياب المقابلات المباشرة من فريق الفيلم مع المتهم- إلى شخصية الفيلم الأساسية، ويأخذ على عاتقه إجراء مقابلات مع الناس الذي يصادفونه في الرحلة.
يتحدث “أينا” اللغة الإنجليزية بثقافة كبيرة، كما يعرف الكثير عن تاريخ بلده وعاداته، فهو مثلا ينتقد النظام القضائي الأوروبي الذي يُحاكم موكله، لأنه لا يفهم تعقيد العادات الخاصة بأوغندا، مثل إيمان الناس هناك بتناسخ الأرواح، وكيف يلعب هذا الإيمان دورا في خياراتها وسلوكها اليومي، ومنه تعاملهم مع الأطفال.
يذهب المحامي مع فريق الفيلم إلى قرية “دومنيك”، ويقابل عمه الذي تولى تربيته بعد قتل والديه عن طريق جيش المعارضة الذي يحمل اسم “جيش الرب للمقاومة” (Lord’s Resistance Army)، وهو جيش يقوده السياسي الشرس والغامض كثيرا “جوزيف كوني”، وقد اختطف “دومنيك” وضمه إلى صفوفه في حربه مع الحكومة.
لا يتذكر الرجل الأفريقي كثيرا عن ابن أخيه، فهو لم يعد إلى القرية منذ أن اختطفته قوات المعارضة المسلحة.
أيام التجنيد.. ذكريات مرعبة وأكل تحت الجثث المعلقة
لم يُحاور الفيلم المتهم الرئيسي لأسباب غير معروفة تماما (ربما لها علاقة بقوانين المحكمة الدولية، ومنعها للمتهم من التحدث مع الإعلام)، وعوضا عن ذلك يقابل صديقا له في أوغندا، كان قد اختطف هو الآخر عندما كان طفلا، وأجبر على الخدمة العسكرية والاشتراك في معارك عنيفة للغاية.
يتذكر صديق “دومنيك” الذي غلب عليه الخجل ذكريات مرعبة حقا عاشها مع صديقه، مثلا عندما أجبرا في أسبوعهم الأول مع قوات المعارضة أن ينحروا رؤوس جنود من الجيش الرسمي، وأن يراقبا تعليق الجثث على شجرة قريبة.
يتذكر الجندي الطفل السابق أن الطعام قدّم لهما تحت الشجرة نفسها، وأن دماء الجثث المعلقة كانت تسقط في صحون الطعام ليمتزج مع الأكل في مشهد كابوسي.
يلتقي المحامي برجال كانوا في صفوف المعارضة المسلحة، ويعيشون اليوم في مناطق نائية وعلى الهامش. بدا المسلحون السابقون وكأنهم لم يفقدوا الأمل في المعارضة المسلحة المحظورة أو قائدها الذي ينتظرون عودته، فهو لم يكن جلادا قاسيا فقط بحسب رؤيتهم، بل كان أيضا ردة فعل طبيعية على حكومة فاسدة، يقودها رئيس يُعد الأطول مكوثا في السلطة في القارة الأفريقية.
“بوبي واين”.. منافس سياسي شاب بدأ حياته مغني راب
اختار الفيلم البقاء في الريف الأوغندي ولم يذهب كثيرا إلى المدن، ربما لأن الريف بجماله الفطري وفّر إطارات سينمائية شديدة الجمال والقسوة أحيانا، كالمشاهد التي صورها عندما كانت الكاميرا على نفس ارتفاع رأس المحامي، وكانت تسبر معه أغوار حقول زراعية، أو المشاهد التي كانت في سيارة المحامي وهي تسير في شوارع موحلة قبل أن تغطس في الطين، وتعجز عن الحركة.
وعبر شاشات تلفزيونية في أمكنة مختلفة، يتابع المحامي التحضير لانتخابات رئاسية جديدة في البلد، وكان يفوز بها الرئيس “يوري موسيفيني” منذ عام 1986. والمنافس الرئيس هذه المرة سياسي شاب اسمه “بوبي واين”، وقد بدأ حياته العامة مغني راب، قبل أن يتحول إلى السياسة مدعوما من قبل الشباب في البلد.
يصور الفيلم في مشهد أخّاذ المحامي “كرسبوس أينا” وهو يتابع الانتخابات في بلده من مقهى شعبي كان فارغا حينها. لا يتوقف المحامي عن الشرح والتحليل الذي أعان الفيلم كثيرا لفهم الوضع السياسي المعقد في البلد، ومع اقتراب موعد الانتخابات يتردى الوضع الأمني ليصل إلى الانفجار، وخروج الناس إلى الشارع احتجاجا على قوانين حكومية اعتبروها غير قانونية أو عادلة.
وفي مشهد صادم كثيرا، تلقي قوات الأمن الأوغندي القبض على “بوبي واين” في سيارته أثناء مؤتمر صحفي له كان يقوم به عبر الإنترنت. يسحب المرشح الشاب بقسوة كبيرة من سيارته وسط ذهول الناس التي كانت تتابعه عبر الإنترنت، في تأكيد جديد على بطش النظام السياسي في البلد الذي لا يتورع عن قمع أهم المنافسين السياسيين له.
سينما المحاكمات.. مسرح صاخب بصراعات الدفاع والادعاء
وفي موازاة رحلة الفيلم في أوغندا، تعود الكاميرا بشكل دوري إلى قاعة المحكمة الدولية في هولندا، لتنقل من هناك أحداثا مهمة من زمن المحاكمة، وتقرب العمل الوثائقي أحيانا من سينما المحاكمات، أي من فئة الأفلام التي تدور في فلك قاعات المحاكم، حيث تنقل الدراما التي تتفجر من الصراعات القضائية والنفسية التي تجري في تلك القاعات.
يوافق فريق الادعاء العام على التعاون مع فريق الفيلم، وهذا يفتح الباب لمشاهد مثيرة لكواليس تحضير فريق الادعاء مرافعته لإدانة “دومينيك”، وهي تحجز مكانة مهمة، إلى جانب المشاهد الأخرى التي تظهر كواليس فريق الدفاع “دومينيك”.
يعرض كل فريق مرافعته التي تأتي مغلفة بعاطفة كبيرة، إذ يذكّر الادعاء العام بالجرائم المقززة التي اقترفها “دومينيك”، بينما يستند فريق الدفاع في مرافعته إلى كون المتهم ضحية فقط، اختُطف في طفولته، ثم غُسل دماغه ليقوم بالأفعال التي ارتكبها، ومنها تجنيد أطفال في جيش المعارضة.
يسعى الفيلم أن يأخذ مسافة واحدة عادلة من طرفي النزاع، فهو يمر مثلا على الجرائم التي اقترفها “دومنيك”، ومنها اختطاف عشرين طفلا وتجنيدهم، وكذلك يقدم شهادة مرعبة حقا لأم رمى الفصيلُ الذي ينتمي إليه المتهم ابنَها الرضيع في حريق كان مشتعلا، في القرية الصغيرة التي تعيش فيها.
لغة الصورة.. مشاهد من زوايا غير مألوفة
يتميز هذا الفيلم الوثائقي بلغته السينمائية الناضجة والمتفجرة التي تتفاعل مع المكان والأجواء النفسية التي جرت فيها الأحداث، سواء في أوغندا أو هولندا، فقد تميزت المشاهد التي صورت في الدولة الأوروبية بسكونها والألوان الداكنة التي طغت عليها، مثل تلك المشاهد التي صورت من زاوية غير مألوفة، مثل بناية المحكمة من الخارج، وكذلك المشاهد التي صورت ممرات البناية نفسها، وغرف فرق الدفاع والادعاء العام.
أما المشاهد التي صورت في الدولة الأفريقية فكانت حارة بألوانها وغامضة في مواقع، لتعكس هي الأخرى المحيط والمجتمع الذي تدور فيه الأحداث، وكذلك التاريخ الدامي للبلد.
حملت بعض مشاهد الفيلم المركبة مفاجئات، مثل اللقاء الطويل مع أحد المقاتلين السابقين، وقد كشف عن عناد ووفاء للعقيدة الشرسة للفصيل الذي كان ينتمي إليه، ثم بدا بعد اللقاء حين ابتعد عن الكاميرا، أنه قد فقد أحد رجليه، وأنه يسير على عكاز، ليضيف هذا تعقيدا وإرباكا على المشهد السياسي والاجتماعي للبلد الأفريقي.
عُرض الفيلم في الدورة الماضية لمهرجان “أفلام لها قيمة” (Movies that Matters)، وقد نُظم في مدينة لاهاي الهولندية، وليس بعيدا عن المحكمة الجنائية الهولندية. بيد أن الفيلم نال قسطا من الانتقادات من الإعلام الهولندي، لأنه لم يمر على الاتهامات التي وُجهت للمحامي “كرسبوس أينا” بغسيل الأموال، وأنه أبعد عن قضية “دومينيك” قبل أشهر طويلة من صدور الحكم على المتهم، وقد قُضي بحبسه 25 عاما.