“العبور”.. مهاجرون تحت رحمة البحر وأكاذيب خفر السواحل

في عام 2021 حاولت مجموعةٌ من المهاجرين مكونة من 34 شخصا بينهم أطفال ونساء عبورَ القنال الإنكليزي من الجهة الفرنسية نحو بريطانيا بقارب مطاطي صغير، لكنه لم يصل إلى وجهته، لأن مياه البحر الباردة قد غمرته، وتسببت في غرقه وموت أكثر من 30 شخصا كانوا على متنه.
رغم تواصل ركابه قبل غرقهم مع رجال خفر السواحل في الجانبين الفرنسي والإنجليزي، فإنهم لم يقدموا لهم يد المساعدة المطلوبة لإنقاذ حياتهم من الموت غرقا، فلماذا لم يقم رجال خفر السواحل في البلدين بواجبهم، ومن يتحمل مسؤولية موت مهاجرين أبرياء في كارثة تعد واحدة من أكبر الكوارث التي يشهدها القنال الإنجليزي خلال العقود الماضية؟
لتقصي حقيقة ما جرى للضحايا، وللإجابة على الأسئلة التي تبحث في تحديد مسؤولية الجهات الرسمية التي تقاعست عن أداء واجبها؛ يقضي الوثائقي البريطاني “العبور” (The Crossing) سنة كاملة يبحث فيها ويتحرى عن الحقيقة، ويكشف معها جوانب دقيقة عن عمليات التهريب غير الشرعية التي تجري في تلك المنطقة.
عيسى محمد.. شهادة الصومالي الناجي من الغرق
من بين ركاب القارب وأغلبيتهم من أكراد العراق شخصان فقط نجيا من الغرق وبقيا على قيد الحياة، أحدهما صومالي الجنسية اسمه عيسى محمد، أدلى بشهادته للوثائقي وشرح تفاصيل ما جرى، من بداية رحلته حتى اللحظة التي أفاق فيها ووجد نفسه ممددا على سرير في إحدى المشافي الفرنسية.
ركزت شهادة عيسى على نقل تفاصيل طلبهم النجدة من الطرفين (الفرنسي والبريطاني)، وقد دامت أكثر من 12 ساعة، وكان خلالها كل طرف يرمي مسؤولية إرسال فرق الإنقاذ البحري على الطرف الآخر، بحجة أن القارب لم يكن موجودا لحظتها ضمن نطاق مياهه الإقليمية.
يؤكد الناجي من الموت حقيقة أن عددا من ركاب القارب أثناء تسرب المياه إليه اتصل بالبريطانيين عبر الهواتف المحمولة المزودة بأنظمة تحديد المواقع، وأخبرهم بوجود قاربهم ضمن مياههم الإقليمية، وعلى ضرورة المجيء بسرعة لانتشالهم من البحر، مع تأكيدهم المستمر على وجود نساء وأطفال معهم على متن نفس القارب.
في هذه الأثناء وبينما كان الركاب يتساقطون من القارب المهترئ في المياه الباردة، ويموتون واحدا تلو الآخر؛ لم يبادر رجال خفر السواحل الفرنسية لتقديم المساعدة الطارئة لهم، حسب ما توصي به الأعراف البحرية الدولية والقوانين الخاصة بالتعامل مع حالات الطوارئ، بغض النظر عن موقع المحتاج للمساعدة وجنسيته.
“جيمي فيلهام”.. صحفية بهيئة مهاجرة تتسلل إلى عوالم اللعبة
ولأن المهربين والمُتاجرين بأرواح البشر يتحملون جزءا كبيرا من مسؤولية ما وقع، ينقل الشاب الصومالي للوثائقي تفاصيل عمليات التهريب التي تجري في منطقة كاليه الفرنسية، إذ يعتبرها المهربون منطقة حرة لهم، يرتبون فيها عمليات نقل المهاجرين إلى الضفة البريطانية القريبة نسبيا مقابل مبالغ مجزية.
وللتأكد من صحة شهادته حول نشاط المهربين الذين يضعون الربح غير المشروع أولوية لهم على أرواح الأبرياء؛ يكلف صانع الوثائقي “جيمي فيلهام” الصحفية الكردية لمعرفة حقيقة الدور الذي يلعبونه، والطرق التي يسلكونها خلال عمليات نقل المهاجرين بالقوارب.

ولإنجاز ذلك تنكرت الصحفية بهيئة مهاجرة كردية ادعت أمام مهربين أكراد في منطقة كيريك الفرنسية القريبة من الساحل المواجه لبريطانيا أنها تريد الانتقال بشكل غير شرعي إلى الجهة البريطانية من القنال، ثم راحت تسجل مقابلاتها معهم بكاميرا خفية، وترصد الكيفية التي رتبوا بها خطة انتقالها بسهولة لافتة في بساطتها، مقابل حصولهم منها على المبلغ الذي يطلبونه، لدرجة أن أحدهم قال لها إنه شخصيا قام بأكثر من مئة عملية تهريب في فترة زمنية قصيرة.
تحركات المهربين.. انفلات فرنسي وخطط إنجليزية للمواجهة
تشي تحركاتهم واتصالاتهم في وضح النهار بانفلات أمني موجود في الجهة الفرنسية، أو تغاضٍ متعمد منها، مما يشجع المهربين على المضي في عمل غير شرعي يعرّض أرواح الباحثين عن حياة أفضل، إلى خطر الموت غرقا وسط البحر.
بالمقابل ينقل الوثائقي الموقف البريطاني الجديد من عمليات التهريب في المنطقة، وإعلان مسؤوليها عن خطط لمنعها أو الحد منها، من خلال تشديد الرقابة على سواحلها وملاحقة المهربين.
ومن المفارقات الصارخة التي ينقلها الوثائقي في هذا الصدد أن عمليات التهريب غير الشرعية من الساحل الفرنسي قد تضاعفت منذ عام 2018، وفي أحد الأيام وصل إليها من نفس الطريق أكثر من 1300 مهاجر، مما دفع السلطات للتفكير بإعادة توطينهم في رواندا بدلا من بريطانيا.
توانا محمد.. هجرة من كردستان بحثا عن حياة أفضل
من بين الضحايا شاب كردي في مقتبل العمر اسمه توانا محمد، وقد رتب له أخوه الأكبر زانا رحلة الخروج من كردستان العراق إلى بريطانيا، حيث تقيم أخته مع زوجها وأطفالها هناك، وكان طيلة الرحلة على صلة بمهربين أكراد دفع لهم ما قيمته 13 ألف دولار مقابل إيصال أخيه إلى أوربا أولا، ليكملها بعد ذلك بالانتقال إلى فرنسا، ومن هناك إلى بريطانيا حيث وجهته الأخيرة.
ينقل الوثائقي عنه تفاصيل الرحلة التي بدأت من كردستان العراق، وهي المنطقة التي شهدت خلال العقد الماضي موجات هجرة كبيرة لشبابها نحو أوروبا بحثا عن حياة أفضل فيها. يقرر توانا بعد بلوغه سن الرشد الهجرة إلى أوربا، فلم تجد عائلته مفرا من القبول والموافقة على قراره، وفي أواسط عام 2021 حصل على تأشيرة دخول سياحية إلى تركيا، ومن هناك نقله المهربون إلى إيطاليا، ثم وصل بالقطار إلى الساحل الغربي الفرنسي، ورتب له أخوه مع مهربين أكراد عملية تهريبه إلى الطرف الآخر من البحر.

يتوقف الوثائقي عند منطقة كيريك الفرنسية، لينقل من خلال توانا الظروف الصعبة التي يعيش فيها المهاجرون، في انتظار خروجهم منها إلى بريطانيا، فالسلطات الفرنسية لا تقدم أي مساعدة لهم، بل تتركهم يعيشون في العراء من دون طعام أو سكن، لذلك يعاني كثير من المقيمين في خيامها البسيطة من الجوع وسوء التغذية.
يصف الشاب الكردي الحالة المزرية التي يعيشها مع أفراد عائلة كردية انضم إليهم، وقرروا سوية ركوب نفس القارب الذي وعدهم المهرب بأنه لن يكون مزدحما، وبالتالي فلا خطر على حياتهم من الغرق.
توزيع المهمات.. أساليب معقدة للتملص من الجريمة
منذ لحظة ركوبهم ينقل الوثائقي وبالدقائق مجريات الرحلة، ويسجل المكالمات التي جرت خلالها بين الركاب وبين رجال خفر السواحل الفرنسيين والإنجليز. وبالمقابل ينقل القلق الذي كان يحيط بأفراد عائلة الشاب الكردي، وقد وفر فرصة لكشف نشاط كبار المهربين الأكراد، من خلال تواصل أخيه معهم واستفساره منهم عن تفاصيل الرحلة.
يتضح أن المهربين يعملون بطريقة منظمة ويوزعون المهمات فيما بينهم، لدرجة يصعب معها تحديد الرأس الكبير الذي يديرها، فيتواصلون مع ضحاياهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وغالبا ينتحلون أسماء سرية غير أسمائهم الحقيقية، فيعرفون حاجة الراغب في الوصول إلى هدفه، لذلك يرفعون أسعار نقلهم بالقوارب المطاطية التي يكدسون فيها أعدادا كبيرة من المهاجرين يفوق قدرتها على تحمل أوزانهم، لهذا تتعرض بسهولة إلى الغرق.
تتبعه لمسار الرحلة التي غرق فيها الشاب الكردي مع آخرين بينهم أطفال ونساء، يوضح أن مسؤولية الجهات البريطانية في الكارثة تكمن في إصرارها على أن القارب قد غرق في المياه الإقليمية الفرنسية، وبالتالي فهي في حل من أمرها، ولا تتحمل أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية.

للبحث عن معرفة المسؤول الحقيقي عن خسارة أطفالهم وأبنائهم، اتصل أهاليهم بالمستشار القانوني المختص بقضايا الإنقاذ والطوارئ البحرية “ماثيو شانك”، وأوكلوا إليه مهمة متابعة قضية غرق القارب.
تدافع المسؤولية.. مواجهة المأساة بانتظار الوعود الكاذبة
بعد بحث وتدقيق توصل المستشار القانوني إلى حقيقة أن القارب كان يبعد حوالي 800 متر من اليابسة، أي في المنطقة التابعة لبريطانيا، ولهذا كان على خفر سواحلها التدخل لإنقاذ الركاب.
يحصل المستشار على وثيقة تتضمن كل الاتصالات التي تمت بين ركاب القارب والجهات المسؤولة في البلدين، ويؤكد أن أول اتصال كان في ليلة 21 نوفمبر/تشرين الأول من عام 2021، وآخرها كان بعد مرور حوالي 12 ساعة، خلالها كان الركاب يحصلون على وعود بوصول المساعدة المطلوبة إليهم، وأن قوارب الإنقاذ في طريقها لانتشالهم.
يؤكد الخبير القانوني أن المعلومات كانت جدا متناقضة بين الطرفين، ومع أن خدمة خفر السواحل الفرنسية قد أغلقت اتصالاتها بناء على تأكيد من البريطانيين بأنهم في طريقهم لتقديم المساعدة المطلوبة، فإنهم يتحملون أيضا جزءا كبيرا من المسؤولية لعدم تقيّدهم بقوانين حماية البحار وتقديم المساعدة الطارئة.
ينقل الفيلم عن صاحب قارب صيد فرنسي أنه شاهد أجساما تعوم في البحر، وقد استفسر عنها من مركز خفر السواحل، فأجابه بأن المساعدة في طريقها إليهم، لكنهم لم يرسلوا خلال 12 ساعة أحدا إلى الموقع، وهكذا فعل البريطانيون، بينما كان أكثر من 30 شخصا يواجهون مصيرهم المأساوي وسط مياه القنال.
يصف المستشار موقف الطرفين بأنه مرعب، لأن الأمر يتعلق بحياة بشر بينهم أطفال ونساء. يتذكر الشاب الصومالي حالتهم قبل غرقهم، ويصفها بالمؤلمة والمرعبة، فصرخات الأطفال والنساء والرعب الظاهر على وجوه الساقطين في المياه الباردة لا تزال باقية في ذهنه حتى يومنا هذا.
أرواح مهدورة لضحايا العالم الثالث.. تحقيقات في مهب الريح
أثار حجم الكارثة وتوارد أخبارها في وسائل الإعلام ردود فعل سياسية طالبت المسؤولين البريطانيين بإجراء تحقيق واسع يحدد المسؤول عنها، بعد تأكيد وقوعها ضمن حدود مياهها الإقليمية، لكن الوثائقي من خلال المستشار القانوني يشكك في التوصل إلى نتائج ملموسة، خاصة أن الضحايا هم من الأجانب، وحسب قناعاته فلو كانوا بريطانيين أو فرنسيين لاختلف الأمر.
بالمقابل ينقل الفيلم معلومة تفيد بأن أحد المهربين المسؤولين عن غرق القارب قد دخل إلى بريطانيا سرا باسم مستعار، وأنه طلب الحصول على إقامة دائمة بعد فتحه مشروعا تجاريا كبيرا في مدينة بيرمنغهام.
أما في كردستان فينقل الوثائقي مراسيم دفن الضحايا الذين انتشلت -حسب الإحصاءات الرسمية- جثث 27 غريقا، ولم يعثر إلى الآن على جثة الشاب توانا وأربعة آخرين.
وفيما يخص الملاحقة القانونية ينقل الوثائقي خبر اعتقال السلطات الكردية لأحد المهربين الأكراد المتورطين في الكارثة، يجاوره بمشهد مؤثر يعكس حالة الحزن السائدة في بيوت عوائل الضحايا الذين خاضوا مغامرة عبور القنال الإنجليزي، أملا منهم في إيجاد مكان أفضل لهم، يقضون فيه بقية حياتهم.