“بلاد الذهب”.. عائلة صومالية تعود من فنلندا لاستخراج كنوز أرضها

في هذا الفيلم الشائق المتميز الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية والجزيرة الإنجليزية، بالتعاون مع مؤسسات سويدية وفنلندية، وعرضته الوثائقية على شاشتها بعنوان “بلاد الذهب”؛ تُطرَح قضايا شائكة وأخرى مسكوت عنها في العلن، من الممارسات العنصرية ضد الأفارقة في أوروبا، أو صعود اليمين المتطرف في بعض الدول المتقدمة، أو التوغل الصيني الاقتصادي في القارة السوداء.

وتُطرَح هذه القضايا وغيرها على لسان بطل الفيلم مصطفى، الصومالي الأصل الفنلندي الجنسية، وهو يملك أرضا في بلده أرض الصومال، تبين أنها تحوي معادن ثمينة، وصار لزاما عليه أن يتخذ قرارا حاسما في أن يبقى في بلد التقدم والرخاء، متعرِّضا للتنمر والعنصرية من البيض، أو أن يرجع لبلده ليواجه أطفالُه صدمة الحضارة في هذه البيئة المختلفة كلّيا عن ما عاشوه وألِفوه.

“ستعود إلى وطنك يوما ما وتحقق إنجازات عظيمة”

تنقل الكاميرا مشهد أرض قاحلة تحت حرارة الشمس اللاهبة، جرداء لا نبات فيها، إنها في دولة أرض الصومال (إقليم في الصومال أعلن استقلاله من طرف واحد)، في القرن الأفريقي، وهذا أحدهم يترجل من سيارة دفع رباعي، ويحمل بيده جهاز كشف عن المعادن، وقد وجد قطعة لامعة صغيرة، أتراها ذهبا؟ ربما. هذا الرجل هو مصطفى حسن، وهذه أرضه وأرض أجداده، وسيحكي لنا الكثير في السطور القادمة.

غادر مصطفى أرض الصومال وفي مخيلته قول جده “ستعود”

يقول مصطفى: كنت طفلا عندما قال لي جدي ذات مرة: يوما ما ستنتقل يا ولدي للعيش في بلدٍ بارد، أرضه بيضاء وأهله كذلك، ستعيش هناك طويلا وتكبر في تلك الأرض، لكنك ستعود إلى وطنك يوما ما وستحقق إنجازات عظيمة.

ثم تنتقل الكاميرا إلى أرضٍ يكسوها ثلج كثيف، وأطفالٌ سُمر البشرة يلعبون بالثلج في سعادة وبهجة، ما الذي جمع هذه المتناقضات؟ سنتبعهم إلى داخل منزلهم لعلنا نفهم الحكاية.

في الداخل تستقبلهم أمهم السمراء وتطمئن عليهم، ثم تخبرهم بأن والدهم سيجري معهم مكالمة فيديو بعد قليل، فيتحلقون حول الهاتف، وتظهر صورة الرجل، يا إلهي، إنه مصطفى:

وصول عائلة مصطفى إلى أرض الصومال بعد حياة طويلة في فنلندا

كيف حالكم يا أحبابي نحن بخير يا أبي، هل أنت بالخارج؟ نعم، ولكنني أستطيع رؤيتكم، ياسمين وعبد الرحمن وانتصار وهذه إخلاص الصغيرة، وأُمكم نجاح كذلك. أبي أبي، هل وجدتَ الذهب والماس؟ أعرف أين مخابئها، ولكن أريد وعدا منكم أن لا تخبروا أحدا. أخبرنا المزيد، فنحن أيضا نريد العثور على الذهب، أريد أن أصبح مليونيرا، أبي: هل توجد قنافذ في الصومال؟ أو حمائم؟ توجد حمائم كثيرة ولكن لا توجد قنافذ، وهنا سلاحف أيضا وعقبان، لقد اشتقت إليكم، وأحبكم جميعا، إلى اللقاء. ونحن كذلك نحبك يا أبي، مع السلامة.

“هل يمكن أن تكوني أمي الفنلندية؟”.. وداع صعب

يقول مصطفى: قبل 5 سنوات اتصل بي عمي من الصومال، وأخبرني بأن شركة تعدين صينية عرضت عليه نصف مليون دولار لشراء الأرض التي تملكها عائلتنا منذ قرون، وقد تبين أن الأرض مليئة بالذهب والنحاس والكوبالت، وتستحق ألف ضعف ما قدمه الصينيون.

وكان عليّ أنا وزوجتي الاختيار بين أن نبيع أرض أجدادنا للصينيين ونبقى في فنلندا، أو نستقدم عائلتنا إلى أفريقيا، ونبدأ التنقيب عن الذهب في أرضنا، ولكن سيكون الانتقال إلى أفريقيا تغييرا كبيرا على الأطفال، ففنلندا هي وطنهم، حيث ولدوا ودرسوا.

مصطفى يودع “بايفي” ممرضة المدرسة الفنلندية التي تعلَّم فيها

عاد مصطفى إلى فنلندا بعد 6 أشهر، وقد اتخذوا قرار العودة إلى أرض الصومال، والعائلة الآن تعد العدة للسفر، والصغار في الحي يودعون أصدقاءهم، وهذه مجموعة من الأطفال الفنلنديين والعرب يحتضنون أطفال مصطفى بحرقة وبكاء، بينما مصطفى يودع “بايفي” ممرضة المدرسة الفنلندية التي تعلَّم فيها، تسأله إن كان يتذكر أول كتاب أعطته إياه ليقرأه، كتاب “الأمير الصغير”، وتبكي بحرقة وهي تودعه.

تقول “بايفي”: سألتكَ يومها ما العبرة الموجودة في هذه القصة، فقلتَ لي: إن ما يراه المرء بقلبه أوضح مما يراه بعينيه، وهذا ما ينطبق على حياتك كلها أيضا. ثم غلبتها الدموع، فمن الصعب وداع شخص عزيز بعد صحبة 20 عاما.

أذكر أنكَ أتيتني في مستوصف المدرسة وأنتَ صغير وقلت لي لقد رأيتُ جدي في المنام وأخبرني بأنني وجدت شخصا جديرا بالثقة في فنلندا، وقلتَ لي يومها إن هذا الشخص هو أنتِ، وبعدها جئتَني يوما، وقلت: هل يمكن أن تكوني أمي الفنلندية؟

حرب الصومال الأهلية.. رحلة إلى أرض السكّر والأحلام

يتذكر مصطفى أيامه الأولى في الصومال قائلا: كانت هنالك قبيلتان تتصارعان على السلطة، ومَن سيقود البلد بعد سقوط النظام الدكتاتوري، أراد الجنوب البقاء في السلطة وأراد الشمال سلطة أكبر، وهكذا بدأت الحرب، فأعلنت أرض الصومال استقلالها بعد سقوط نظام “سياد بري” العسكري في 1991، وبعد حرب أهلية راح ضحيتها 60 ألف شخص.

حرب الصومال الأهلية التي امتدت عشر سنوات دمرت كل شيء فيها

كان عمري حينها 6 سنوات، أيقظوني وأبناءَ عمومتي كي نختبئ تحت السرير، أتذكر عمتي وهي تصرخ: يا إلهي، الدبابات أمام منزلنا، تسلقنا السور المحيط ببيتنا، وحملَنا أعمامُنا وأخرجونا من هرغيسا، وكانت أول مرة أركب فيها طائرة، ثم رأيت فنلندا، كان ذلك في فبراير/شباط 1991.

كان انطباعي الأول أنها دولة غنية يفرش مواطنوها الأرض بالسكّر، لكنه لم يكن حلوا وإنما باردا ورطبا، قيل لنا بعدها إنه الثلج، الماء المتجمد، رفضنا تصديق ذلك، فكنا نتزحلق كلما حاولنا المشي، ثم نسقط من جديد.

في فنلندا كان كل شيء جديدا ومخيفا، أتذكر أنهم قالوا لي عندما تستيقظ صباحا سيصلك الإفطار بضغطة زر، وبزرٍّ آخر ستصل إلى الملعب عبر نفق، ذلك ما صورته لنا مخيلتنا الطفولية.

كان عليَّ أن أتعلم كل شي من الصفر، وكان الأمر مذهلا وغريبا معا، فالأطفال الفنلنديون يتعجبون من لون بشرتنا السمراء، ونحن نتعجب من شعرهم الأشقر وبشرتهم البيضاء، وطوال طفولتي كان الخواء يتملك قلبي، لم أنس كلمات جدي “ستعود إلى وطنك ذات يوم لتحقق إنجازاتك العظيمة”.

بيوت الصفيح الخالية من الترف.. صدمة الحضارة

وصل الأطفال إلى أرض الصومال، وقال أبوهم لا داعي للمعاطف الآن، فالجو حار هنا، وهذه هي البداية فقط، ثم تحدث مع ابنته ياسمين قائلا:

ماذا ستفعلين يا ياسمين عندما تدخلين المنزل؟ أريد أن أستحم بماء مثلج وأشاهد التلفاز. يؤسفني أن أخبركِ بأنْ لا ماء مثلج في الحمام، وليس لدينا تلفاز بعد. لم هذه البيوت مصنوعة من الصفيح؟ لأنها مادة رخيصة، وجيدة في البداية، وعندما يجنون بعض المال سيبنونها بالخرسانة. الشوارع ترابية، إنهم يمشون على الصخور، أبي، متى نعود إلى فنلندا؟ لن نعود، سنستقر هنا لا. وأجهشت بالبكاء.

الفقر وبيوت الصفيح كان أول ما رآه أولاد مصطفى بعد دخولهم الصومال

ثم توجهوا فورا إلى هرغيسا عاصمة أرض الصومال، حيث استقبِلوا بحرارة في بيت العائلة، لكن الأطفال مشدوهون مما يرون، فالماء والصابون يقدم لهم في أوعية معدنية، وصحن الفاكهة يشاركهم فيه الذباب، والطعام موضوع على الأرض، وكل العائلة يأكلون بأيديهم من طبق واحد.

تقول نجاح زوجة مصطفى: لقد استغرب الناس من قرارنا ترك فنلندا والسفر إلى أرض الصومال، لكننا هناك سنظل غرباء، ومع أننا نعمل وندفع الضرائب، فقد يصرخ بعضهم في وجوهنا ويقولون إنكم متسولون تعيشون عالة علينا، وتسرقون أموالنا، والصغار يعانون من هذا أكثر منا، فهم ولدوا هناك ويعتبرونه بلدهم، ولا يطيقون سماع كلمة “أجنبي”.

صدمة حضارية يقابلها أولاد مصطفى لدى عودتهم من فنلندا إلى الصومال

وجدت الأم صعوبة في إقناع ابنتها ياسمين بالزي المدرسي الموحد، وأن تأكل بيدها، فلا أحد هنا يستخدم الشوكة، ولكنَّ الحياة تمشي.

واليوم كانت تجربة جيدة مع الأطفال، لقد ذهبوا إلى حديقة الألعاب وهم يتسلون الآن، ولكنها ليست مثل ألعاب فنلندا، وتتعطل كثيرا، وتنفصل عنها الكهرباء أحيانا، لكن الأطفال مسرورون ويرضيهم القليل.

“تحتاج إلى ثلاثة أنواع من الرخص”.. تحديات الحلم

ما زال مصطفى يزور أرضه كل يوم ويقلِّبُ أموره: يقول لي أصحابي في فنلندا ستصاب بالجنون، ما الذي يبقيك هناك؟ لقد أصبحتَ غريبا على عالمك القديم، هيا تعال، ارجع إلى وطنك. وإذا بدأنا أعمال التنقيب، فلدي فرصة كبيرة لتحسين الظروف في بلدي، فلقد قضيت أكثر من عامين حتى وجدتُ مستثمرا، وعندما حصلت على تصريح التنقيب الأوّلي من الحكومة تمكنت من جمع 300 ألف دولار أمريكي لبدء أعمال التنقيب.

أنواع كثيرة من الرخص يحتاجها مصطفى كي يبدأ التنقيب عن معادن أرضه

بدأت البشائر، وها هي بعض حُصيّات الذهب الصغيرة في يد مصطفى تنبئ عن ثروة كبيرة، وهذه كسارة صغيرة تقوم بتكسير الحجارة وفصلها، يمكنها تكسير 10 أطنان يوميا، بعد ربطها بالمحرك عن طريق ناقل حركة. المهم أن تتعاون الحكومة وتقدم النصح والمشورة، وسيكون هنالك مستقبل واعد، ويستفيد الجميع من هذه الثروة.

يقول مصطفى: أرضنا غنية لكن القبائل في صراع دائم مع الأسف، إذ يسود النظام القبلي في الصومال منذ آلاف السنين، وهذا يشعر المجتمع بالأمان، لكنه نظام هرمي، فأنا من قبيلة هبر يونس، وعندما وصلنا إلى هرغيسا فازت القبيلة الأخرى بالانتخابات، وتشكلت حكومة جديدة، وهذا يقتضي أن لا أباشر التنقيب قبل الحصول على رخصة من الحكومة الجديدة.

توجه مصطفى إلى مدير الطاقة والمعادن، فقال له: تحتاج إلى ثلاثة أنواع من الرخص، بعدها يمكن إبرام عقد بين الوزارة وشركتك، ويشمل العقد مسائل كثيرة منها القضايا البيئية وتنمية المجتمع والعقود المحلية، وبالطبع حصة الحكومة، ونحن نرحب بالراغبين في الاستثمار، ولكن هنالك 3 شركات صينية تنقب مع السكان في الشرق. ويبدو أن الأمور تزداد صعوبة.

“نتعرض للضرب يوميا لمجرد المشي في الشارع”.. أنين الذكرى

ما زالت الأم تحاول مع أولادها لتقبُّل الوضع الجديد، فالأولاد يمانعون في البداية، ولكنهم يستجيبون أخيرا. وها هما ياسمين وانتصار ترتديان الحجاب عند الخروج، وهم في السوق الآن يحاولون شراء بعض الأدوات المنزلية، ثم يصحبهم أبوهم إلى سوق الإبل واللحوم، ولكن الأطفال يتأففون من كل شيء.

يا أولاد، هذه المنطقة التي مررنا بها يسمونها “المنطقة الفنلندية”. لماذا يسمونها هكذا؟ إنها ليست أوروبا. لا لا، هذه تسمية فقط، لأن فنلندا قدمت مساعدات هنا في السابق، فسميت تكريما لها. أبي، هل نحن فنلنديون حقا؟ نحن فنلنديون وصوماليون. ولكننا صوماليون أكثر، لأن بشرتنا سمراء. لا فرق يا بنيّ بين سمراء وبيضاء، كلنا بشر.

في المدرسة التحقت بنات مصطفى وارتدين الحجاب وبدأن بحفظ القرآن الكريم

يتحدث مصطفى عن بداياته في فنلندا قائلا: أتذكر فبراير/ شباط 1994، كان شتاء قاسيا للغاية، وبلغت البطالة أوجها في فنلندا منذ الثلاثينيات، وبحسب وزارة العمل فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل الشهر الماضي 252 ألفا، ويقوم مركز أزمات متخصص بإسداء نصائح لخفض الديون وتوزيع الغذاء، ويجب عدم استقبال لاجئين في مثل هذه الظروف.

كان الناس يقولون إن اللاجئين يقومون بالعمل الذي يأنف أبناء العرق الأبيض النقي من فعله، لكنهم اليوم غيروا أقوالهم، فلو جاء الصوماليون إلى هنا فماذا ستفعل؟ سنتوقف عن دفع الضرائب، ويجب أن يعودوا من حيث أتوا، إنهم يأخذون وظائفنا، والوظائف قليلة.

أدركتُ أنني مختلفٌ بالفعل في فترة الدراسة الثانوية، فقد كان الناس يصرخون في وجهي على متن القطار، وأتساءل: لماذا يصرخون؟ وماذا يعني لفظ “نيغير” الذي يقولونه؟ ثم أدركت أنهم يقصدونني بالشتائم. كنا نطالع في الصحف الصباحية أخبارا مسيئة عن اللاجئين، وكنا نحذر من حليقي الرؤوس البيض أن يهاجمونا.

وكان من الطبيعي أن نتعرض للضرب يوميا لمجرد المشي في الشارع، وكنت أحاول إثبات أنني شخص طيب، فقررت إتقان اللغة الفنلندية، لأبدو مثلهم، وأديت الخدمة العسكرية، حتى لا ينعتني أحدهم بالقرد.

اختلافات الثقافات.. صراع عاداتنا وإيجابيات الآخرين

تتحدث نجاح مع أختها عن عمل المرأة في الخارج، أو مساعدة الرجل زوجته في أعمال المنزل، فتستغرب أختها هذا الكلام وتُدهَش لسماعه، وتقول: إنه الجنون بعينه، من المشين أن يساعد الرجل في أعمال المنزل والعناية بالأطفال، ومن العبودية أن تعمل المرأة خارج منزلها ويبقى الرجل في البيت، هذه ليست عاداتنا، هذا عيب.

فتقول نجاح: وأين التراحم والتعاون إذن؟ يجب أن تتغير الكثير من العادات السائدة هنا، ولا عيب في أن نتعلم من الأجانب الذين يأتون إلى هنا بعض عاداتهم الجيدة. فتلين أختها بعض الشيء لهذا الذي تسمعه، ولكنها تقول: وحتى لو كان ما تقولينه صحيحا، فإن الرجال لا يقتنعون به.

حوار نسوي بين ثقافتين أروبية وشرقية

ولمزيد من تأليف قلوبهم، يجلس الوالد مع أبنائه حول النار فوق سطح منزلهم، ويحكي لهم حكايات الطفولة: عندما كنت في عمر ياسمين كنا نسكن في هرغيسا، ولم تكن هنالك مبانٍ شاهقة ولا مصابيح في الشوارع، وكنا نستخدم فانوسا نملأه بالوقود، ونطهو على نار نوقدها في العراء، وكنت أجوب الجبال وأنا في سن ياسمين لجمع الحطب. فتقول له: كم أنت شجاع يا أبي.

كان جدي رجلا استثنائيا يعيش في أحضان الطبيعة، وكانت الصومال غابات مليئة بالأشجار تعيش فيها الأسود والفيلة والزرافات، وطلب مني يوما أن أحضر له قنينة الشرب الخاصة به من تحت الشجرة، وعندما ذهبتُ اختبأ هو في مكان ما، وبينما أنا واقف اقترب مني حيوانان، كانا فهدين، ورأيت أسدا في طريق هروبي، صرخت: جدّي! النجدة، لكنه لم يجبني، واقتربت الوحوش أكثر، وفجأة خرج جدي وانتهرها، فجثت تحت الأشجار، ثم انطلقت في سبيلها.

“أعيدونا إلى فنلندا”.. عراقيل تخنق المشروع وتزعج الأطفال

مضت 4 أشهر وما زال طلب مصطفى للتنقيب قيد الدرس، وجاءه عبد الرحمن خبير المجوهرات قائلا: كما ترى، وجدنا أحجارا كريمة في موقع العمل، ومعادن صناعية كالكوبالت والليثيوم والكوارتز والعنبر، وبرعاية مستثمر جيد قد نستخرج آلاف الأطنان منها، وقد تبلغ أرباحنا 3 ملايين.

يجري مصطفى اتصالا هاتفيا: لم يأت التصريح بعد، ولكنني أعلم أنه يوجد تحت أرضي ما يكفي أفريقيا كلها، وليس فقط أرض الصومال، ولكن القبائل الأخرى والحكومة تحاول إبطاء عملنا، لقد أوقفوا مشروعا كلفني 300 ألف دولار حتى الآن، ولكنني سأستمر في المحاولة. لقد رفضت الوزارة إعطاء تصريح لمصطفى، ومنعته من التنقيب في أرضه.

ابنة مصطفي في قمة الفرح أثناء عودتهم لزيارة فنلندا

أخذت ياسمين وانتصار تتعلمان قراءة القرآن في مدرسة تحفيظ، وفي المنزل تتحدث إلى صديقاتها في فنلندا. تسألها أمها: لماذا لا تحبين المدرسة؟ فتجيب: لقد صفع المعلم انتصار على خدّها، وأنا كذلك، قلنا لأبي فغضب وطلب من المعلم أن لا يكررها، ولكنه ما زال يضربنا، لقد ضربني بخرطوم الماء، لقد سئمت من هرغيسا، أعيدونا إلى فنلندا.

ويتحدث إلى والدته الفنلندية “بايفي”: ما زلتُ مثاليا، ولكنهم يمنعونني من حقي، أريد أن أخدم وطني باستخراج الذهب من أرض أجدادي، ولكن إذا استمروا بمنعي سأشعل حربا أهلية، فأنا أدرك جيدا أنني نقلت أطفالي من بلد أوروبي آمن إلى القرن الأفريقي. لقد دخلتُ على ابني الحمّامَ فوجدته عاريا، يحاول دهن جسمه بكريمات، ولما سألته أجاب: أريد أن أصبح أبيض البشرة مثلهم. فأخذته إلى شاطئ البحر، وأقنعته أن الطينة السوداء مفيدة أكثر.

الحزب اليميني الفنلندي المتطرف يفوز بالانتخابات ويطالب برحيل المهاجرين

وفي فنلندا يفوز حزب يميني بالانتخابات، ويصرح أعضاؤه بأريحية: الإسلام أيديولوجية خطيرة على مجتمعنا، وإذا لم نحدّ من وجوده فستحل الكارثة ببلادنا، أعيدوا رعاة الأغنام ومروضي الإبل هؤلاء إلى بلادهم، إنهم يأخذون وظائفنا ويتركوننا بلا عمل، ولا يجب أن نحل مشاكل أفريقيا بجلب أهلها إلى أوروبا.

نبوءة الجد.. صفقة تبعث رائحة الحلم من جديد

ما زال مصطفى يحاول مع أولاده ليتأقلموا، فهو يعلم بناته السباحة، وعبد الرحمن يتعلم قيادة السيارة، وزوجته نجاح حامل، ويريد هو معرفة جنس الجنين. ويأتيه صوت جدّه ثانية: مصطفى يا ولدي، نحن نخاف من المجهول، وهذا غير صحيح، قف في وجه الأسد ولا تخف منه، ولكن تعلّم أساليبه.

ولكنه ما زال قلقا وشارد الذهن، ودائما يفكر في أرضه، ورغم تحذيرات عشيرته فقد تواصل مع منقبين من عشيرة “سامرون”، وعرض عليهم التعاون بتقديم المعدات والخبرات وتأمين الزبائن، وكانوا غير مطمئنين، ولكنهم وافقوا على مقابلته. وبدأوا يعملون في منجمين، في كلٍّ منهما 40 عاملا، فهذه حجارة زرقاء غنية جاهزة لأي مشترٍ، وبسعر يرضي الطرفين، وهنالك الكثير لمن يريد.

مشروع تنقيب وتعدين ينجح مصطفي بإنشائه في أرضه بالصومال بعد سنوات من المعاناة

بعد خمسة أشهر أخرى انتقل الأولاد إلى مدرسة جديدة، وهم الآن يتفاعلون في الدروس، وعندما تحدثوا إلى “جدتهم” الفنلندية قالوا لها إنها تشبه مدرستهم في فنلندا، وكان أبوهم أعدّ لهم مفاجأة، لقد حجز تذاكر طيران إلى فنلندا خلال العطلة الصيفية.

وبعد سنتين من مغادرتها، عاد الأطفال إلى المكان الذي ولدوا فيه، ولمّا رأوا الغابات ومحطات الحافلات والإشارات الضويئة، صرخوا: يا إلهي، لا نريد مغادرة هذا المكان يا أبي، والتقوا مع “جدتهم” الفنلندية وزوجها، لقد كان لقاء مفعما بالعاطفة الجياشة.

لم ييأس الزوجان مصطفى ونجاح، فبعد 9 أشهر أسست نجاح روضة أطفال قائمة على مناهج التربية الفنلندية، وأنجبت ابنتها الرابعة عائشة، لقد فرح بها الأطفال كثيرا. وأما مصطفى فقد أسس شركة تعدين متنامية تضم جميع العشائر في المنطقة، وهو ينتظر أن يبدأ بيع المعادن الثمينة التي يستخرجها، لتصدق نبوءة جده بأن يحقق إنجازا عظيما لنفسه ووطنه.