“خونة وأبطال”.. دعاية الحرب التي تمزق الشعب الروسي

ما هو موقف الشعب الروسي من الحرب الدائرة بين بلده والجارة أوكرانيا؟ هل يؤيد كله الحرب، أم أن هناك من بين صفوفه مَنْ يعارضها؟
للتوصل إلى إجابة وافية على تلك الأسئلة وغيرها المتعلقة بالموقف منها، كان على المخرجين الروسيين “أناستاسيا بوبوفا” و”بول ميتشيل” خوض مغامرة لنقل حقيقة ما يشعر به الروس من الداخل، وتجسيد الانقسام المجتمعي والسياسي الحاصلين في البلاد بعد شنها الحرب على أوكرانيا.
بين الخونة والأبطال.. دعاية رسمية تقسم الشعب إلى معسكرين
رغم الأخطار الجدية التي أحاطت بمغامرتيهما تمكن صانعا الوثائقي من توثيق تجارب نشطاء اتخذوا موقفا مناهضا من الحرب، وللتعبير عنه شرعوا في نشاط دعائي وتعبوي ينبه الناس إلى نتائجها الكارثية المتوقعة، وإلى ما ينبغي عمله من أجل إيقافها.
لم يكتفِ صانعا الوثائقي بجانب واحد من المشهد الروسي ما بعد الحرب، بل حرصا على نقل موقف الأغلبية الروسية منها، وهي تميل بحكم تأثير الدعاية الرسمية عليها إلى المجاهرة بمواقف مؤدية لها، بينما يحاول آخرون غيرهم الهروب من البلاد خوفا من أن يصبحوا وقودا لها، وفي الوقت نفسه تميل قطاعات كبيرة من المجتمع إلى اتخاذ الصمت وسيلة لتجنب الإعلان صراحة عن أفكارها ومواقفها.
بين الموقف العام المؤيد للحرب ومعاملة الجنود المشاركين فيها أبطالا، وبين الآخر المعارض الشجاع المُجَسد بممارسات عملية يدرجها النظام في خانة الخيانة الوطنية، وبين الأغلبية الصامتة؛ تحركت كاميرا الوثائقي البريطاني “من داخل روسيا: خونة وأبطال” (Inside Russia: Traitors and Heroes)، ونقلت جانبا واسعا من المشهد السياسي الجديد الحاصل في المجتمع الروسي بعد إعلان بوتين حربه على أوكرانيا.
حماية روسيا العظمى.. أكثرية مؤيدة وأقلية تعارض في الخفاء
ينقل الوثائقي في مفتتحه مقطعا مسجلا من البرنامج التلفزيوني الروسي (60 دقيقة)، وفيه تعلن مقدمته أنه في شهر فبراير/ شباط من عام 2022 اتخذت القيادة السياسية قرارا بشن عملية عسكرية خاصة لحماية منطقة دونيتسك من الفاشية الأوكرانية، وأن الجيش الروسي لن يستهدف في عملياته البنية التحتية المدنية.
ولمعرفة ردود فعل الشارع الروسي من الحدث، ينتقل صانعا الوثائقي إلى منطقة يكاترينبورغ التي تبعد عن العاصمة موسكو حوالي 1400 كلم. أكثر من قابلهم الوثائقي في شوارعها يعلنون تأييدهم للعملية، فهي تهدف -حسب قناعتهم- إلى حماية روسيا العظمى وهيبتها، لهذا فهم يقفون إلى جانب قادتهم السياسيين والعسكريين.
في نفس المدينة يقابل صُناع الفيلم سرا نشطاء خططوا للخروج في مظاهرات تندد بالحرب، وشرعوا في طباعة منشورات دعائية تسخر من شعار “Z” الذي استخدمته القوات المسلحة الروسية رمزا لعملياتها العسكرية في أوكرانيا، وهو مرسوم على جدران أبنية المدينة وواجهاتها، ويحوره بما يقارب المعنى الحقيقي والتراجيدي له.

يقابل صانعا الوثائقي الرسام والفنان “ليونيا” الذي ينشط مع مجموعة معارضة في توزيع المنشورات والملصقات المناهضة للحرب، رغم استصدار السلطات الروسية قرارا جديدا يُحجّم النشاط الدعائي غير الرسمي، ويصف كل ما ينشره بأنه “أخبار كاذبة”، ويُجرّم في الوقت نفسه كل من يستخدم كلمة “حرب” في منشوراته أو في كتاباته.
مقابلات الشارع.. خوف المواطن من الإفصاح عن رأيه
بعد أيام من المقابلة، وأثناء قيام الفنان “ليونيا” بتوزيع منشوراته سرا؛ قبض عليه رجال أمن سريون، ثم أخذوه إلى أحد السجون بانتظار محاكمته. يترك الوثائقي الفنان مؤقتا ليعود إليه لاحقا، ويعرف ماذا حل به، وفي تلك الأثناء ينتقل إلى موسكو ليوثق عمل اثنين من الإعلاميين الناشطين على موقع “يوتوب كنال”.
“آلا” و”ميشيا” صحفيان متطوعان يقومان بإجراء مقابلات سريعة في شوارع العاصمة. في كل تقرير مصور لهما يطرحان سؤالا محددا أمام المارة، مثل ما هو رأيكم بالرئيس الأوكراني “زيلينسكي”؟ أو هل في روسيا ما يكفي من حرية التعبير؟ وهل ستتصالح روسيا وأوكرانيا عبر مفاوضات سلام؟

إلى غير ذلك من الأسئلة الذكية التي غالبا تأتي الإجابة عليها من قبل المارة باقتضاب، ومن دون تعبير صريح عن قناعاتهم، مما يشير إلى خوف كامن في نفوسهم من الإفصاح عن مواقفهم وأفكارهم الحقيقية، وخشية من أن يكون مصيرهم إذا ما فعلوا ذلك، مثل غيرهم ممن عبّروا بحرية عن آرائهم السياسية، وانتهى الأمر بهم في السجون.
“نينا بليافا”.. سياسية تلقي خطابا شجاعا وتنجو من الكارثة
في انتقاله بين المدن الروسية وحتى خارجها لاحقا، يسجل الوثائقي في إحدى كنائس العاصمة مجريات قداس لأرواح الجنود الذين سقطوا في المعارك، وخلالها يكيل الراهب المديح للقيادة السياسية ويمجد حربها، ويصف الجنود الروس الذين سقطوا فيها بالأبطال المدافعين عن وطنهم.
على بعد حوالي 460 كلم من موسكو، وفي مدينة فورونيزي تقوم سياسية محلية بفعل بطولي يعاكس خطاب الراهب، ويعرض حياتها للخطر.
ففي بناية مجلس البلدية وقفت النائبة المحلية “نينا بليافا” وألقت خطابا شجاعا أمام أعضائه، حرصت على تسجيله على هاتفها المحمول، وصفت فيه الحرب الجارية بأنها كارثة إنسانية يرتكب فيها الجنود الروس مجازر بحق الأوكرانيين، وأن مبررات الحرب التي يسوقها “بوتين” ما هي إلا أكاذيب، وأن روسيا هي من هاجمت جيرانها الأوكرانيين وليس العكس.
بعد ساعات بُث التسجيل على وسائل التواصل الاجتماعي، وتلقت النائبة آلافا من رسائل التشجيع والتأييد لموقفها البطولي. ولم يمض وقت طويل حتى علم الوثائقي بأن الجهات الأمنية قد بدأت في البحث عنها، ومن حسن حظها فقد صادف تاريخ إلقاء خطابها نهاية الأسبوع، وبالتالي باتت أمامها فرصة للهروب خارج البلاد خلال العطلة الأسبوعية.

يوثق الفيلم كيف استطاعت النائبة بمعجزة الهروب عبر المطار المحلي إلى خارج البلاد، لتنجو من مصير مخيف كان ينتظرها، كما صرحت للوثائقي لاحقا، حين وصلت إلى ليتوانيا، وطلبت حق اللجوء السياسي فيها.
آل “بوريس”.. نكبة موجعة وانقسام داخل العائلة
تظهر حالة الانقسام المجتمعي الحاد جلية بين أفراد العائلة الروسية الواحدة، ولا ينحصر الأمر بطبقة اجتماعية دون أخرى، فالخلاف في الرؤى حول الحرب تزداد اتساعا، وحالة الشاعرة والممثلة المسرحية “أوليانا بوريس” التي سقط أخوها الشاب قتيلا في إحدى معارك مدينة ماريوبول الأوكرانية تجسدها بوضوح.
أما والدها فيراه بطلا قوميا أدى واجبه الوطني، في حين تعتبره أخته ضحية لحرب لا معنى لها، ولولاها لكان باقيا على قيد الحياة.

لا تريد الفنانة التعبير عن موقفها أمام والدها، لهذا تتكتم على مشاعرها، وتفكر بالخلاص من حالة الحزن التي تعيشها بالهروب من البلد إلى أي مكان آخر. قبل معرفة ما سيحل بالفنانة الحزينة، يرجع الوثائقي لمتابعة مصير الرسام “ليونيا”.
رسام السلام.. إحالة إلى طبيب نفسي قبل المحاكمة
بسبب نشاط الرسام “ليونيا” المعادي للحرب وجهت الشرطة له تهمة التخريب المتعمد بدوافع سياسية، واقترحت على القضاء إحالته إلى طبيب نفسي قبل البت بالحكم عليه، كإجراء تأديبي يتعرض له كثير من السياسيين المعارضين لـ”بوتين”.
يقرر القاضي إرساله إلى مصحة للأمراض العقلية، ليقضي فيه مدة ثلاثة أشهر. بعد إتمامها وخلال فترة انتظار موعد انعقاد جلسة محاكمته، يستمر الفنان في نشاطه التعبوي والتحريضي ضد الحرب ومشعليها.
ولخوفهم من ملاحقة رجال الشرطة السريين، يذهب الناشط ورفاقه برفقة الوثائقي إلى مناطق بعيدة عن مركز المدينة، ليرفعوا عند مداخل الإنفاق المؤدية إليها وعلى سفوح التلال المطلة عليها شعارات تدعو إلى وقف الحرب.

أثناء وجوده بين صُنّاع الوثائقي يخبرهم الفنان بأنه سيغادر البلد قبل انعقاد المحكمة، لأنه لا يريد أن يقضي بقية حياته في السجن. يتفهم رفاقه قراره، ويقرر الوثائقي مرافقته في رحلته إلى جورجيا.
“بوتين”.. كراهية في الخارج ونفور من الداخل
في تبليسي العاصمة يكتشف الرسام مقدار الكراهية التي يكنها الشعب الجورجي للرئيس بوتين. الشعارات المعادية له تملأ الجدران، يقابلها مديح وتبجيل للشعب الأوكراني الذي يقف في وجهه.
يشعر الرسام بالخجل لكونه روسيا، ويدفعه هذا الشعور للتفكير في الخطوة القادمة التي عليه اتخاذها، وهي العودة ثانية إلى بلده، ومواصلة نشاطه المعارض. في تلك الأثناء تكون الممثلة “أوليانا” في طريقها إلى خارج البلد، فقد قررت مغادرته، لأنها لم تعد تستطيع العيش فيه، بعد أن صار والدها أقل قبولا لموقفها من موت أخيها، وأنه في رأيه بات أقرب إلى وجهة نظر الخونة، ويقصد بهم كُل الرافضين للحرب.
أثناء انشغال الوثائقي في متابعة مصير الرسام خلال عودته، تُعلن الحكومة الروسية تعبئة جديدة للشباب الروس، وتدفعهم من دون انتظار إلى جبهات القتال. ومع الإعلان الجديد يزاد الانقسام حول الحرب حدة، لأن كثيرا من أبناء الشعب الروسي بدأوا يخافون من تداعياتها، لهذا يحرص الوثائقي على نقل مظاهر الانقسام المجتمعي الحاصل في روسيا بسبب الحرب، إذ يجعلها بلدا ممزقا، كما يظهر بوضوح من البحث والتقصي الميداني من داخل أراضيها.