عمارة ليل.. ملحمة هندسية تصنع تاريخ جوهرة الشمال الفرنسي

عندما نتحدث عن العمارة الهندسية على مر التاريخ، تحضر أمامنا معالم حضارية لمدن عدة، ولكن مدينة ليل الفرنسية تأتي في الطليعة بمبانيها العتيقة والمفعمة بالحياة والجمال.

وضمن سلسلة “روائع العمارة الفرنسية”، تتحدث الجزيرة الوثائقية في هذا الفيلم عن مدينة ليل التي مضى على نشأتها ألف عام، وتقع على بعد 15 كيلو مترا فقط من الحدود البلجيكية الفرنسية.

يظهر بوضوح تميز مبانيها التي شيدت خلال أزمنة مختلفة، بعضها ذو هندسة معمارية حديثة، وبعض آخر يرجع إلى ما يزيد عن خمسة قرون، ولكن ثلاثة من معالم المدينة تشهد على براعة الإنسان في ليل، وقدرته على التعلم والاستفادة من التجارب البشرية وتنفيذها بكفاءة، وهذه المعالم هي القلعة والبورصة القديمة ودار البلدية.

ملكة القلاع.. دخول المدينة تحت درع لويس الرابع عشر

اكتسبت مدينة ليل أهمية جغرافية بسبب مواقعها الاستراتيجي الذي جعلها موقعا تجاريا مزدهرا، فبالإضافة لكونها موقعا عسكريا، تتميز ليل بالقلعة الضخمة التي تحرسها وتطل عليها من أعلى ضفاف نهر دول. ويصل ارتفاع جدرانها ما يقارب عشرة أمتار، ومساحتها الداخلية تقدر بحوالي 11 هكتار، أي ما يعادل 15 ملعب كرة قدم.

لويس الرابع عشر يكلف المهندس الشاب “فوبان” لبناء “ملكة القلاع”

في عام 1667 سيطر لويس الرابع عشر على ليل، وكانت تابعة لهولندا الإسبانية، فأصبحت المدينة حاجزا استراتيجيا على حدود مملكة فرنسا. ولحمايتها كلف المهندس الشاب “سيباستيان فوبان” بهذه المهمة.

لجأ “فوبان” إلى وسائل مذهلة لبناء ما أسماه “ملكة القلاع”. إنه أكبر موقع بناء بجانب قصر فرساي، لقد أتم البناء بسرعة مذهلة، وكان عليه إنجاز آلاف الأمتار من الجدران، وتشييد بلدة صغيرة قادرة على استيعاب 2500 رجل في ثلاث سنوات، فانصبت كل طاقة ما كان يسمى المنطقة “الوالونية الفلمندية” تقريبا على بناء القلعة.

استُخدم عدد هائل من الموارد البشرية من خلال إشراك الفلاحين والعمال وحتى الجنود، وفي النهاية عمل 30 ألف رجل إما في المحاجر وإما في أفران الطوب لبناء القلعة. لقد كان عليهم إنجاز القسم الأكثر إثارة للإعجاب، ألا وهو الجدران الضخمة.

“ملكة القلاع” بناء خماسي الزوايا يسمح بكشف الأفق من جميع الجهات لمراقبة الأعداء

ولمدة ثلاثة سنوات كان إنتاج مواد البناء في المدينة موجها فقط لبناء ملكة القلاع هذه وهياكلها الدفاعية التي تحيط بها، فاستُخدمت 20 مليون كتلة حجرية، إلى جانب 60 مليون لبنة، و32 كيلومترا طوليا من كتل الحجر الرملي، أي ما يعادل طريق باريس الدائري.

إنشاء الممر المائي.. جسر لنقل الإمدادات يكسب الرهان

في برد الشتاء القارس كان “فوبان” يحضر 8 آلاف كتلة حجرية من المحاجر يوميا، ولكنْ كيف كان ينقل كل هذه الكميات في عصر كان كل شيء ينجز فيه بالطريقة التقليدية اليدوية؟

الكتل الحجرية تحمل على عربات تجرها الثيران والخيول من مسافة عدة كيلومترات

في البداية حُمِلت الكتل الحجرية على عربات جرتها الثيران والخيول من مسافة عدة كيلومترات، وبما أن الطرق البرية غير المعبدة لا تصلح للنقل في الطقس السيئ، فقد اضطروا لاستخدام الطرق المعبدة التي كان عددها قليلا جدا آنذاك، وعندما عبرت تلك الحيوانات على الطرق المعبدة ارتفعت التكاليف وتأخر سير العمل.

وهنا ظهر ذكاء “فوبان”، فأمر بإنشاء ممر مائي أكثر ملاءمة للإمدادات، فحفر قناة طولها كيلومترين، وعرضها 16 مترا، بين المحاجر شرق المدينة وبين موقع البناء.

فوبان ينشئ ممرا مائيا بطول كيلومترين وعرض 16 مترا بين المحاجر شرق المدينة وموقع البناء

وقد نجح في رهانه بإنجاز القلعة في وقت قياسي مدته خمس سنوات، فاكتمل البناء في عام 1672 ودخلت القلعة في طور التشغيل الكامل، وتحولت إلى آلة حرب لا ترحم. وكانت مثارا للإعجاب، سواء بحجمها أو موقعها أو طريقة تحصينها.

تغيير مجرى النهر.. دفاع مائي يحمي القلعة ويصد الغزاة

كانت فكرة الممر المائي ذكية أنقذت “فوبان” من زيادة التكاليف، أما فكرة التحصين الذكية فحدث عنها ولا حرج، فقد كان محيطها الخارجي من الجهات الجنوبية والغربية والشمالية محاطا بالأهوار، وهي أرض طينية رطبة منخفضة المستوى، تنبت فيها النباتات العشبية والحشائش.

وقد اعتبر “فوبان” أن منطقة الأهوار غير كافية لتحصين القلعة والمدينة، فقام بتعزيزها بنظام فيضان دفاعي، وذلك بتغيير مجرى نهر دول حول مدينة ليل، فبدلا من عبوره المدينة عبر القلعة حوّل مساره إلى شمال المدينة، إذ بنى قناة مائية تحت القلعة لتحويل مسار النهر إلى الشمال.

ومن خلال هذا النظام تحكم في الفيضانات، فبمجرد إغلاق القناة يرتفع منسوب المياه. وتسنى له من خلالها إغلاق بعض المناطق المحيطة بالقلعة؛ مع استثناء مناطق أخرى للسماح بوصول جيش إنقاذ، أو للحفاظ على الحدائق التي كانت ضرورية لتغذية سكان المدينة.

لقد كان نظاما معقدا وفعالا مكّنه بسهولة من إغراق 1700 هكتار تحت 40 سم من الماء، يتعذر بسببه على الجيش المهاجم التقدم أو إنشاء مخيم أو إطلاق هجوم، وقد كان هناك تقارب بين التقنيات الهيدرولوكية وتقنيات التحصين الأفضل على الإطلاق.

كان على العدو الذي يرغب في الهجوم على القلعة من جهة المدينة أن يسيطر أولا على المدينة المحصنة بالأسوار، فإذا استطاع العبور والوصول إلى القلعة، فإنه سيحظى بخسائر فادحة، بسبب هذا النوع من التحصين.

زوايا التحصين.. صد العدو الخارجي وقمع الثورات الداخلية

من أجل الدفاع عن مدينة ليل اختار “فوبان” التحصين ذا النقاط الخمس المعروف باسم “الزوايا المحصنة”، حيث كانت القلعة على شكل نجمة خماسية، اثنتان من زواياها الخمس في مواجهة اثنتين من الزوايا المحصنة للمدينة، يوضع الجنود والمدافع عليها، وكان هذا كافيا لحماية القلعة والمدينة أيضا. أما زواياها الثلاث الأخرى المتجهة إلى خارج المدينة، فكانت تجبر العدو على مهاجمتها جميعا دفعة واحدة، فإذا تعرضت إحداها للهجوم فإن الأخريات ستدافع عنها.

في “ملكة القلاع” لا وجود أية بقعة عمياء تحجب تقدم العدو

لقد وصل هذا التحصين حد الكمال إذ أن هذا النوع من التحصين يتميز بعدم وجود بقعة عمياء، فبمجرد وصول العدو تطلق القذائف عليه، وإذا وصل الجدار كان عليه أن يجري سلسلة من الأعمال العسكرية، إذ يوجد بين تلك الزوايا المحصنة تلال من التربة، وأمامها تحصين ثلاثي الشكل يسمى نصف القمر.

وكانت الزوايا المحصنة نفسها محمية بجدران سفلية أخرى، وقد شُق قبالتها طريق انتشر عليه الجنود وأحاط به خندقان، ثم نشر على القمة ابتكارات تسمى “لونات”، وكذلك أحاطت المياه بكل الهياكل، مما جعل الهجوم أكثر تعقيدا.

منظر القلعة الخلاب على الورق الذي يشبه زهرة جميلة، ما كان في الواقع سوى مصيدة موت، ففي حالة حصول حصار تغمر جميع الخنادق بالماء، وللوصول إلى الهياكل المتقدمة كان على المرء إما أن يتقدم على متن قارب أو على جسر خشبي من السهل تدميره.

خنادق مليئة بالمياه تحيط بالقلعة لجعل هجوم العدو أكثر تعقيدا

وأمام كل هذه الخطوط المحصنة كانت هناك منطقة فارغة تماما، وهي وسيلة الدفاع الأخيرة ضد الأعداء، والهدف من هذا ليس الدفاع عن المدينة خارجيا فقط، ولكن أيضا قمع أي انتفاضة داخلية من قبل السكان، فبين القلعة والمدينة أنشأ “فوبان” منطقة مفتوحة تماما لقمع المتمردين المحليين الذين يرغبون بحمل السلاح والاستيلاء على قلعة الملك بالمدافع من خلال الزاويتين المحصنتين المواجهتين للمدينة. وفي إحدى الزوايا المحصنة أنشئ أيضا تل ترابي مرتفع لتحسين القصف المدفعي، حيث ثُبتت المدافع.

وفي حالة الحصار فكر “فوبان” في تخزين السلاح، فكانت لديه ترسانة مثيرة للإعجاب منتشرة على المباني، وكان هناك مجال لتخزين 18 ألف بندقية، و34 منصة مدفعية، بالإضافة إلى مخزون ضخم مخبأ من البارود.

بلدة الجنود.. تحفة مبهرة من الفن العسكري

من أجل استيعاب أعداد الجنود الكبيرة حُصن أكثر من مائتي سكن للقوات، وسكن للضباط، ورُتّبت كل هذه المباني في شكل شوارع وساحات وأحياء، وللحفاظ على حيوية المعسكر كان كل شيء متاحا للحياة اليومية، صالون حلاقة ومصنع جعة، وحتى سجن.

نواعير لضخ المياه النقية إلى داخل القلعة ولطحن الحبوب في نفس الوقت

كانت لهذه البلدة آبار وأحواض مياه ونوافير، وعلى عمق عشرة أمتار في الأنفاق يوجد فرن الشواء وفرن الخبز اللذين استُخدما لإطعام الجنود. لقد كان النظام قادرا حتى على إطعام 3 آلاف جندي. وقد ذهب “فوبان” لأبعد من ذلك، إذ يحتاج صنع الخبز إلى الدقيق الذي يحتاج إعداده إلى مطحنة، وكانت هناك نواعير مع عربات تحضرت الحبوب وتدخله من نافذة المطحنة قبل أن ترسله إلى أحجار الرحى.

وقد برزت الحاجة إلى الماء لتشغيل أحجار الرحى، فاستخدمت القناة التي أنشأها “فوبان” تحت القلعة، لذلك كانت هذه القناة العنصر الأكثر حيوية، فقد زودت القلعة بمياه الشرب ومنحتها قدرة على صنع الدقيق، مع إمكانية التخلص من مياه الصرف الصحي. وحين يغلقونها كانت تغرق محيطها لأغراض التحصين، وساهمت في جعل القلعة تحفة من الفن العسكري.

لاستيعاب أعداد الجنود الكبيرة تم تحصين القلعة بأكثر من مائتي سكن للعسكر والضباط

وبعد ثلاثة قرون ونصف على بنائها يسكنها اليوم حوالي ألف نسمة، يستهويهم المشي بين أسوارها والمساحات الخضراء الجميلة، ولكنها ليست الموقع الوحيد الجدير بالزيارة في ليل.

مبنى البورصة.. خطة إخراج المدينة من القرون الوسطى

على بُعد مئات الأمتار وعلى مقربة من واجهات ليل ذات التصاميم الخلابة والألوان المتعددة، وفي منتصف الساحة الرئيسية، بُني مبنى البورصة عام 1652. إنه مكان مناسب للمعارض والأسواق التجارية والتجمعات وأنشطة الحياة المدنية والسياسية، كان هذا هو الغرض منها في الأصل. ورغم أنها مألوفة لسكان المدينة، فإنها تخفي خلف جدرانها أسرارا متعددة.

البورصة مكان مناسب للمعارض والأسواق التجارية والتجمعات وأنشطة الحياة المدنية والسياسية

كانت المدينة تنتمي إلى هولندا الإسبانية، وقد ازدهرت واحتلت موقعا تجاريا مرموقا، لكن لم يكن فيها مبنى للبورصة، فطالب المتداولون ببناء بورصة فيها، فكُلّف مهندس المدينة “جوليان دوستريه” بتصميمها، وكانت خطته تقوم على إحضار الحداثة إلى المدينة وإخراجها من العصور الوسطى.

وكانت المدينة غنية، وكان الموقع نخبويا، فكان عليه إظهار ثروة التجار وغِنى المدينة وثروة هولندا الإسبانية. لقد أراد “دوستريه” إنشاء مبنى صخري بالكامل، يضم أكثر الوسائل حداثة، وينبض بالزخرفة العصرية في ذلك الوقت، وكان نموذجا أوّليا لُجئ فيه إلى الطوب والعمارة الحجرية، وهو ما سيزدهر لاحقا في جميع أرجاء البلاد.

شكل مبنى البورصة مستطيل ذهبي يجمع بين مثلث متساوي الأضلاع ومثلثين قائمي الزاوية

وكان هناك فناء مركزي مفتوح محاط بالأروقة. لقد تغلب هذا التصميم على بورصة مدينة أنتويرب التي بُنيت عام 1531 أي قبله بـ150 عاما، ولم يزل يشكل مصدر إلهام في جميع البورصات حول العالم.

سر الرقم 24.. تقسيمة لدفع تكاليف المستطيل الذهبي

عند النظر إلى مبنى البورصة من السماء سيظهر الشكل غير مربع ولا مستطيل، بل تشير هذه الأبعاد الرمزية إلى شكل مثالي كان في طي النسيان. إنه المستطيل الذهبي الذي يجمع بين مثلث متساوي الأضلاع ومثلثين قائمي الزاوية، ليتشكل مستطيل في أبعاد محددة، وهو أكثر مثالية من المربع الدقيق، لأنه يعتمد على مثلث متساوي الأضلاع. وقد استخدم هذا النموذج في العصور الوسطى، وقد عرفه “جوليان” جيدا، ومن الأمثلة عليه كاتدرائية بوفيه وقوس النصر في باريس.

واجهات البورصة محلات لأغنى 24 تاجرا دفعوا  تكاليف بنائها مقابل حصول كل منهم على محل

بالنسبة لـ”جوليان” لم يكن هذا الخيار قائما على عناصر جمالية بحتة، بل ارتبط بطريقة تمويل المبنى، فقد اقترحت المدينة على أغنى 24 تاجرا دفع التكاليف مقابل الحصول على متجر لكل واحد منهم، وأعطيت الواجهة المطلة على الساحة الرئيسية لهم، أما القسم الداخلي فأتيح للتجار الآخرين.

وقد يبدو أن اختيار رقم 24 للتجار الأغنياء عشوائي، لكنه ليس كذلك، فهذا الرقم معروف تماما عندهم، فقد عثر عليه في كتاب “الوحي في الإنجيل”، ويذكر 24 عرشا، يجلس عليها 24 شيخا، وهذا رقم مثالي أيضا لأن 6 مضروبة في 4 تساوي 24، وهو عهد الله والإنسان، أما رقم 6 فهو 2 مضروبة في 3، أي ضعف الثالوث في الديانة المسيحية التي يعتقدونها. أما الجانب المربع فيمثل الإنسان، فهناك إذن تداخل بين الجانب الروحاني والمادي.

شبكة الأقبية.. بقايا البناء الشاهدة على ماضي البورصة

بدأ كل شيء في القبو الذي استُخدم لأغراض مثيرة للدهشة، فقد اتُّخذ منزلا يسكن فيه مالك البورصة البرجوازي، كما أنه مزود بمدفأة كانت مكسوة بالخشب والخزف. إنه ليس قبوا فقط، بل شبكة من الأقبية تمتد تحت الفناء الداخلي للبورصة القديمة وكذلك تحت الساحة، إنها متاهة بأكثر من مئة قبو يستقر عليه المبنى.

شارع تحت الأرض يحيط بشبكة الأقبية ويلتف حول البورصة القديمة وهو مغطى بأرضية الساحة

والأكثر إثارة للدهشة في هذه الشبكة من الأقبية هو وجود شارع تحت الأرض يحيط بكل الأقبية، ويلتف حول البورصة القديمة، وهو ليس مرئيا من الخارج لأنه مغطى بأرضية الساحة، لكن في الطابق السفلي ما تزال بقايا البناء شاهدة على الماضي لهذا الشارع الفريد.

ومن أجل بث الحياة في الطابق السفلي اضطروا لإدخال الضوء إليه، وتهوية الغرفة بكثرة النوافذ الضوئية المرئية ذات الواجهات المصنوعة من الحجر الرملي لكل الطابق السفلي، وقد أزيلت عتبة غرفة المعيشة الأمامية للغرفة الرئيسية لتسهيل دخول الضوء.

زخرفة عصر النهضة.. تأثير خالد في مشهد المدينة الحضاري

نُفذ نفس مبدأ المستطيل الذهبي مرة أخرى لإنشاء الواجهات، وبهذه الطريقة حُدد حجم البورصة القديمة، ولكن التناغم البصري للمبنى لا ينبع فقط من أبعاده، بل من المواد التي يتكون منها أيضا. إذ يتكون الطابق الأرضي بأكمله من صف من الحجر الرملي الداكن يعطي المكان موطئا، وتضم بقية الواجهة صفوفا من الحجر الأبيض في كل زاوية، وفي كل حافة نافذة، وهي تتلاءم مع الطوب الأحمر.

الطابق الأرضي للبورصة يتكون من صف من الحجر الرملي الداكن

كما أخفوا جميع الأجزاء التقنية بالقطع المعمارية المزينة بالمنحوتات، وفق أسلوب عصر النهضة، مثل الزخارف الحجرية البارزة التي يرجع الفضل إليها في شهرة البورصة القديمة. وقد جُمع بين عشرة عناصر زخرفية، فيها أكاليل من الفاكهة والزهور، واتخذ بعضها شكل رجال ونساء فيما يسمى “الكارياتيدات” و”التيلامون” وكذلك الأشكال المقوسة الثلاثية فوق النوافذ وكلها من ألوان متعددة، ونجم عن ذلك ديكور بهيج ومفعم بالحياة.

جميع الأجزاء التقنية مخفية بالقطع المعمارية المزينة بالمنحوتات

كل هذه العناصر جعلت البورصة القديمة تحفة من عمارة مدينة ليل، فتوازن النسب وجمال الزخرفة يترك تأثيره إلى الأبد في المشهد الحضاري بأكمله، وقد كان له تأثير على السكان الذين بدؤوا في بناء صفوف من المنازل المتماثلة، وكانت تسمى “منازل ليل المتراصفة”.

دار البلدية.. إعادة ترميم ما أحرقته الحرب العالمية

على بعد كيلومتر واحد، وبعد قرنين ونصف من الزمن، أعاد مبنى آخر تفسير التراث الفلمندي. إنها دار البلدية التي بُنيت في الفترة بين الحربين العالميتين باستخدام مادة حديثة هي الخرسانة المسلحة.

دار البلدية التي بنيت في الفترة بين الحربين العالميتين

فقد برز هذا المبنى بفضل أبعاده الضخمة، ويبلغ طوله 145 مترا، وعرضه 45 مترا، ويتكون من ثلاثة طوابق تصل إلى ارتفاع 30 مترا، وبرج جرس ضخم يتجاوز ارتفاعه 100 متر. إنها أبعاد غير نمطية لمبنى بهذا النوع. إنه مبنى يعكس العمارة الفخمة ولا يعكس الاحتياجات الإدارية فحسب.

لقد تسببت الحرب العالمية الأولى في خسائر فادحة في المدينة واحترقت دار البلدية، فكان لا بد من إعادة بنائها، فوقع الخيار على حي بعيد عن موقعها الأصلي وهو حي “سان سوفير”. وكان لا بد لدار البلدية أن تكون رمزا للمدنية. فقد تسلم الاشتراكيون قطاع المدينة وأرادوا أن يحدثوا فرقا في عاصمة الشمال.

ممر الخرسانة الكبير.. حداثة تحاكي ناطحات السحاب في نيويورك

صمم المعماري “إيميل دوبوسون” مبنى استثنائيا يمتزج فيه تقليد الطوب وحداثة الخرسانة المسلحة التي استخدمها بغزارة، وأفضل مثال لاستخدام الخرسانة المسلحة هو الممر الكبير الذي يمتد على طول المبنى، وقد بلغ طوله 145 مترا مربعا، وكان هذا الجو أقرب إلى جو ناطحات السحاب في نيويورك في عشرينيات القرن الماضي، إنه نوع من الرفاهية بالحجم الهائل للبناء.

الممر الكبير في دار البلدية

وقد أسهم الممر الكبير في تبسيط المساحة، مما خدم القاعات والخدمات المختلفة الموجودة على الجانبين والسلالم الضخمة، وساهم في تجنب متاهات الممرات.

كما اتصف الممر بتجانس معماري مذهل، وللتغطية على جو الغابة الخرسانية الذي أوجدته الأعمدة الخرسانية الضخمة الكثيرة؛ اختار المعماري تغطية الأرضية بأكثر من ألفي متر مربع من الرخام، وهي مساحة كبيرة لمثل هذه المواد الثمينة. ولكن كانت النتيجة عرضا مرموقا ومبهرا للمدينة في أعين مواطنيها.

أما برج الجرس الذي استغرق بناؤه ثلاث سنوات، والبالغ طوله 104م، فكانت الفكرة الرئيسية وراءه هي كسر الرقم القياسي لأطول برج خرساني معزز في عصره. وقد وصل وزنه إلى 9 آلاف طن، حتى أصبح أثقل من برج إيفل.

برج الجرس استغرق بناؤه ثلاث سنوات ويبلغ طوله 104م

وكان برج الجرس رمزا للفلمندية، ويمثل قوة البلدان في العصور الوسطى، وبما أن مدينة ليل تحت الحكم الاشتراكي فإنه ينبغي أن يكون هذا البرج الحكومي أعلى من مبنى رمز الرأسمالية، أي مبنى غرفة التجارة.

قصر للناس.. آخر طبقات الكمال في ملحمة ليل

دار البلدية مثيرة للاهتمام ليس بحجم المشروع وحسب، بل بسبب الكمال المتجسد في أصغر التفاصيل وجودة المواد المستعملة، إنها الطبقة الأخيرة التي يمكن العثور عليها في سفن الرحلات السياحية والمتاجر، وتشمل كل العناصر الفاخرة. فمعظم عناصر الأثاث والمكاتب والمقاعد والإضاءة ونقوش بلاط الأرضيات استُخدمت فيها أفضل وأفخر المواد.

قصر الناس جزء من دار البلدية مخصص للناس

ولقد أبهر المعماري “دوبواسون” بمهارته مصمما وقائدا استثنائيا، وبنى قصرا للناس، كعمل كامل وشامل ذي قيمة عالمية. ولكن نفذ نصف المخطط الأصلي لهذا المشروع في فترة ما بين الحربين العالميتين، وبقي العمل غير مكتمل، فلم تضأ أي أجنحة للمبنى حتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وقد تميزت بأسلوب مختلف عن الأسلوب الأصلي.

وعند إلقاء نظرة فاحصة على أسرار بناء هذه المباني الفريدة يمر تاريخ ليل بأكمله أمامنا، وكأنه ملحمة معمارية تعيد إحياء التاريخ، وتستحضر قوته الاقتصادية والعسكرية، لإظهار السلطة الملكية في الماضي، ثم عصر البرجوازية، وانتهاء بقصر الناس ذي القوة المدنية. ويعلمنا أن الدنيا لا تستقر لأحد، ولا تدوم لحضارة، وبأن الحياة دول.


إعلان