“أطفال طالبان”.. أحلام تتحدى السياسة والفقر وتعانق النجاح

بسبب الحروب والصراعات السياسية التي مرت بها خلال العقود الماضية، عاشت أفغانستان أشد سنواتها عجافا، فقد عانى شعبها خلالها من فقر ومشاكل سياسية واجتماعية، كان فيها الأطفال على الدوام هم الأكثر تضررا منها.

من هذه الحقيقة ينطلق الوثائقي الأفغاني الألماني المشترك “أطفال طالبان” (Children of the Taliban) لعرض المشهد الأفغاني في لحظته الآنية، ورؤية تفاصيله بعيون الأطفال أنفسهم، لأنهم أدرى بما يعانون، ولأنهم أيضا الأدق وصفا لمشاعرهم وتطلعاتهم وأحلامهم المشروعة في عيش حياة أفضل من تلك التي يعيشونها اليوم، لكونهم في النهاية رغم كل ما يعانونه في حاضرهم هم أبناء المستقبل وصُناعه.

“شكرية”.. يتيمة الأب محبوسة الأم تعيل العائلة

لتجسيد رؤية الوثائقي وتوثيق الظروف التي يعيش فيها الأطفال الأفغان في مرحلة ما بعد تسلم طالبان للحكم، يأخذ صانعاه “مارسيل ميتَلشفِن” و”جوردان بريون” أربعة أطفال تتراوح أعمارهم بين 8-9، ومن خلالهم يعملان على نقل المشهد الطبقي والاجتماعي الذي يعيش فيه الأطفال الأفغان اليوم، وهم موزعون بين فئتين؛ أطفال فقراء معدمون، وآخرون منتفعون من السلطة الجديدة.

تمثل الطفلتان “شكرية” (9 سنوات) و”أريزو” (8 سنوات) الفئة الأولى، وخروجهن للعمل صابغات أحذية في أحد الأسواق الشعبية بالعاصمة كابل يدلل على انتمائهن لفئة اجتماعية تعاني من شظف العيش، وأن أحوالها الاقتصادية لم تتحسن بعد وصول طالبان للحكم، بل على العكس ازادت فقرا، كما تُبيّن تجربة الطفلتين.

اضطرت “شكرية” التي تعيش مع والدتها وتُعيل بقية أخوتها، لأن تعمل صباغة أحذية، بعد مقتل والدها العسكري على يد مسلحي طالبان الواصلين للحكم بعد الانسحاب الأمريكي. وبعد موته واضطرار والدتها للبقاء في البيت إثر استصدار طالبان قوانين جديدة تحد من عمل النساء وتمنعه على من لديهن أطفالا، وجدت الطفلة نفسها مُجبرة على الخروج للعمل، وتوفير الحد الأدنى من شروط العيش لعائلتها.

“لماذا لا أستطيع؟”.. شخصية قوية في عالم ذكوري

شخصية “شكرية” قوية ومتماسكة، وتظهر تلك الصفات في سلوكها المستقيم، وحرصها على تأمين دخل يومي يكفي فقط لجلب ما تسد به رمق عائلتها، من خلال عمل أقنعت نفسها بقبوله بمنطق سهل: ما دام هناك غيري من الأطفال قادرون على العمل، فلماذا لا أستطيع أنا فعل نفس الشيء؟

“شكرية” متفائلة على الدوام، والبراءة ظاهرة على وجهها، ترى على الدوام المستقبل في انتظارها، واللافت فيها قوة إحساسها بالتساوي مع الذكور من حيث القدرات، مع أنها تعيش ظروفا صعبة في مجتمع ذكوري بامتياز.

وفي أحد المشاهد تظهر بجانب صديقتها في السوق، لتجيب على سؤال يطرحه الوثائقي على كل واحدة منهن، ويدلل جوابها على قوة شخصيتها، فحين سألها: هل تتمنين أن تكوني ولدا؟ أجابت بعكس جواب صديقتها، فقالت: كلا، فالأولاد يرون بأننا نحن البنات أقل ذكاء منهم، وهذا غير صحيح.

“أريزو”.. قدرات ذهنية جيدة وحزن على ترك الدراسة

تتمتع “أريزو” بقدرات ذهنية جيدة وروح تواقة لفعل الخير، من دون إخفاء للحزن الذي عندها. وتكاد الظروف التي قادتها للعمل في الشوارع تتشابه كليا مع ظروف “شكرية”، فهي أيضا فقدت والدها العسكري الذي اعتقله مسلحو طالبان، ومنذ اللحظة التي نقلوه فيها إلى جهة مجهولة انقطعت عنهم أخباره، ولم يعرفوا بعدها شيئا عن مصيره.

تجلب شكرية بعملها ما يكفي لسد رمق العائلة

لم تجد الصبية خيارا أمامها سوى أن تعمل صباغة أحذية، وبسبب انشغالهن بالعمل اضطرتا لترك الدراسة، ولكونهن بنات تضاعفت عليهن صعوبات العمل ومشقاته.

الغريب أنهما بالرغم من العناء والتعب ظلتا تعبران أمام الكاميرا بعفوية الأطفال المعتادة عن رضاهن بالقليل الذي يحصلن عليه، لكن حرمانهن من مواصلة الدراسة يظل من أكثر الأشياء التي تحز في قلوبهن، ولا يخفين حزنهن عليها.

عبد الله وإحسان.. رغد وامتيازات في بلاط السلطة الجديدة

في مشهد مغاير يظهر عبد الله (8 سنوات) وصديقه إحسان الله (من نفس عمره) طفلين أفغانيين يعيشان وضعا اقتصاديا مختلفا تماما عن وضع الطفلتين الفقيرتين، لا لكونهما ذكورا فحسب، بل لأن والديهما من مقاتلي طالبان، وقد حصلا مثل غيرهما من المقاتلين على امتيازات كبيرة بعد خروج الأمريكيين.

يتجلى ذلك من خلال عيش عبد الله الذي يدرس في مدرسة دينية خاصة تسمى “مدرسة”، لا يدخلها سوى أبناء المقربين من السلطة الجديدة، ومن بينهم والده القائد الذي يتمتع بمكانة سياسية خاصة تنعكس امتيازاتها على حياة ابنه، وقد ضمه إلى وحدة حمايته الخاصة رغم صغر سنه.

يظهر الطفل في مشاهد كثيرة وهو يحمل السلاح، ويردد طيلة الوقت عبارات يسمعها من معلميه ومن والده عن أفضلية المجاهدين على بقية الأفغان، وعن قيم طالبان الأخلاقية، وعن إحساسه بالتوفق على بقية أقرانه. ويلازمه طيلة الوقت قرينه إحسان ابن أحد مقاتلي طالبان، لكن مكانة والده السياسية أقل من مكانة والد صديقه، لهذا لا تتوفر لديه إمكانية الدخول إلى “مدرسة”، لكن والده يريد له مستقبلا أفضل، لهذا يصر على إدخاله مدرسة خاصة مستفيدا من الامتيازات التي يحصل عليها كونه مقاتلا.

بطالة النساء.. أمّية وإحساس بالعجز وانتظار للصدقات

يحرص صانعا الوثائقي على توسيع دائرة البحث عن أحوال الأطفال الأفغان من خلال توثيق الجوانب المحيطة بها. ويلاحظ أن ثمة تراجعا في مستويات عيش النساء الأفغانيات، وعلى وجه الخصوص بعد وصول طالبان إلى الحكم، وهو ينسحب على حياة أطفالهن أيضا، فقلة فرص العمل وازدياد نسب البطالة بين النساء يضطر كثيرا منهن للاعتماد على أطفالهن اقتصاديا، وبشكل خاص في الحالات التي يغيب فيها الزوج المُعيل.

غياب المعيل له آثار مدمرة على العائلة والأطفال

ينقل الوثائقي مشاهد تظهر فيها نساء أفغانيات يجلسن قبالة مخبز، في انتظار أن يتصدق صاحبه عليهن بالخبر مجانا. إلى جانب ضيق اليد هناك إحساس بالعجز سائد بين أغلب الأمهات الأفغانيات الفقيرات، منبعه عدم قدرتهن على توفير حياة جيدة لأطفالهن، واضطرارهن لإرسال فلذات أكبادهن للعمل في الشوارع، بدلا من الذهاب إلى المدارس.

يوثق الفيلم ظاهرة ارتفاع نسب الأمية بين النساء الأفغانيات من خلال أُمية والدتي الطفلتين، ويشخص معه أيضا طموحا مغايرا ظاهرا عند البنات لتلقي العِلم والمعرفة، فـ”شكرية” لم يمت أملها يوما في تكملة تعليمها، وفي السياق ذاته تتركز مساعي والد “إحسان” لإدخاله مدرسة خاصة.

ورغم كونه مقاتلا يحصل على التخفيضات المقدمة لأبناء طالبان الراغبين في تسجيل أبنائهم في مدارس خاصة، وتصل أحيانا إلى 50% من تكلفتها، فإنه يعجز عن توفير كلفتها الشهرية، مما يدفعه للبحث عن مدرسة خاصة بديلة أرخص، تؤمن لولده في كل الأحوال تعليما أفضل من التعليم المدرسي العام.

إدمان المخدرات.. وباء يجتاح المجتمع الأفغاني المنهار

تكشف الإحاطة بظروف عيش عوائل الأطفال الفقراء عن معاناة كبيرة تعيشها عائلة “أريزو”، بسبب إدمان أخيها الأكبر الذي لم يتحمل غياب والده، فلجأ هربا من التفكير فيه إلى المخدرات وهو ابن 13 عاما.

لم يرجع إلى منزله منذ غادره، ولم تكف الأم عن بحثها عنه في كل مكان دون جدوى. وبمرافقته لوالدته خلال بحثها عنه، وطلبها مساعدة الشؤون الاجتماعية بالعثور عليه، ينتقل الوثائقي إلى جانب آخر من الحياة في كابل، يخص قطاعا واسعا من المجتمع الأفغاني يعاني من مشكلة الإدمان على المخدرات المنتشر حتى بين صغار السن.

تدخل الأم برفقة موظفات من دائرة الشؤون الاجتماعية إلى أمكنة يتعاطى فيها المدمنون مخدراتهم، وتشير كثرة أعداد المدمنين حسب الإحصاءات الرسمية تشير إلى انتشار كبير لوباء المخدرات في البلد، وهو ما لم تجد حكومة طالبان له حلا.

المخدرات في أفغانستان أضحت وباء من دون علاج

مرافقة الطفلة “أريزو” لوالدتها ورؤيتها للمشهد المنفر وتورط أخيها فيه، يكشف جانبا من الحزن الذي يكتنف دواخلها، ويفسر بعض ترددها والاستعانة الدائمة بصديقتها المخلصة، لتجاوز بعض الصعاب اليومية التي تواجهها. لكن المساعدة الأكبر التي ستصلها من صديقتها ستغير حياتها، كما غيرت حياة “شكرية” على غير انتظار.

نجمة اليوتيوب.. مقدمة البرامج الشهيرة تودع عمل الشارع

يغير الحدث غير المتوقع مسار الوثائقي أيضا ومزاجه، فبعد مسار درامي ساده الحزن، ينتقل في القسم الأخير منه إلى حالة من الفرح لنجاح حققته الطفلتان، وقد جاء بفضل ظهور مفاجئ لشاب سينمائي يشرف على برنامج يوتيوب تلفزيوني، وقد شاهد يوما “شكرية” في الشارع فراح يراقب تصرفاتها، وبعد التأكيد من عثوره على ما يبحث عنه فيها، عرض عليها أن تعمل مقدمة برامج ومعدة تقارير تدور حول الأطفال العاملين في شوارع كابل.

وقد شرعت بالعمل من دون أي تحضير، وكأن الموهوبة الكامنة فيها قد حان أوان ظهورها، وأخذت برامجها تحقق نسب مشاهدة كبيرة، حتى غدت شخصية مشهورة بين سكان المناطق التي يعرفونها.

نجمة الأحياء الفقيرة شكرية وموهبتها في التعلم على استخدام كاميرا التصوير

لم تكتفِ “النجمة” بذلك، بل أشركت صديقتها معها في التعلم على استخدام كاميرا التصوير (الفيديو)، وقد ساعدهن الدخل الذي حصلتا عليه -رغم بساطته- على اتخاذ قرار ترك صباغة الأحذية، ثم دخلت “شكرية” مدرسة خاصة بالمعونة المقدمة لها من فاعل خير، بعد مشاهدته لها على يوتيوب.

من الشارع إلى حقل الإعلام.. أحلام غد أفضل

يلتقط الوثائقي لحظات الفرح التي اجتاحت دواخل والدتي الطفلتين لرؤيتهن وهن ينتقلن من العمل في الشارع إلى العمل في حقل الإعلام، ولإكمال المشهد يسجل صانعاه بعض الحوارات الجارية بين “شكرية” وصديقتها حول المستقبل.

كل واحدة منهن تتشبث به من خلال الإصرار على تعلم العمل الإعلامي، وأيضا الحرص في الوقت نفسه على مواصلة الدراسة، إذ يجدن فيها السبيل الأفضل لتحقيق أمنياتهن في عيش حياة أفضل من تلك التي يعشنها الآن.

ولأن الأحلام مشروعة للجميع، فقد تصورتا ذلك اليوم الذي سيصبحن فيه ثريات، بل أثرى الأفغان جميعا، وعندها سيشرعن بالعمل على مساعدة كل فقراء البلد للتخلص من فقرهم.


إعلان