فانواتو.. مصورة تعود للاحتفال بذكرياتها القديمة مع السكان الأصليين

ذات يوم كانت المصورة الألمانية “أولا لومان” تبحث في جنوبي المحيط الهادئ عن البراكين، يقودها في ذلك شغفها وحبها لتصوير قوة وشدة البراكين، فنزلت على إحدى جزر أرخبيل فانواتو، والتقت بسكانها، فأحبتهم، واعتبرت بلدهم بلدها الثاني.
تروي لنا المصورة “أولا” في فيلمها الذي عرضته قناة الجزيرة الوثائقية؛ طريقة حياة سكان جزيرتين من جزر الأرخبيل الثمانين التي تتكون منها دولة فانواتو الواقعة شرق أستراليا.
عبادة العلم الأمريكي.. طقوس تعود إلى أيام الحرب العالمية
وصلت المصورة “أولا” في البداية إلى خليج بورت ريزولوشن، وهو اسم أطلقه عليه الرحالة الإنجليزي “جيمس كوك” الذي وثق وصوله إلى جزيرة تانا عام 1774، وهي ضمن منطقة لاماكارا. وتقع في منطقة أعاصير وبراكين، وفي أخدود زلزالي نشط، ويمكن في أي لحظة أن يتعرض سكان المنطقة لأي من الكوارث الطبيعية الخطيرة التي يمكن أن تغير تضاريس الجزيرة أو أن تقضي عليها.

وقد تلقت “أولا” دعوة من زعيم إحدى القريتين اسمه “بابا آي زيكوان” لحضور احتفالات القرية بـ”عيد البضائع”، فاحتفالات القبائل التي تعبد البضائع حسب عقيدة سكان جزيرة تانا توافق 15 من فبراير/ شباط من السنة الميلادية من كل عام، وقد نشأت هذه العبادة في الجزيرة خلال الحرب العالمية الثانية، عندما وصل الأمريكيون لصد هجمات اليابانيين على المنطقة.

وكانت طائرات الشحن العسكرية الأمريكية أثناء الحرب تُسقِط البضائع من الجو على الجزيرة، وحتى الآن وكجزء من الطقوس اليومية لعبادة البضائع، يقوم سكان الجزيرة كل صباح برفع علم الولايات المتحدة الأمريكية على سارية مرتفعة، فهم يُقدسون العلم الأمريكي، ويعتبرونه رمزا من الرموز التي يعبدونها، على أمل الاستمرار بالتمتع بالوفرة.

ويستعد أهل القرية جميعا للاحتفال، إذ يقفون لاستقبال عدد من الزوار، فيقوم الأطفال بتنظيف الطرقات، وتقوم النساء بعملية فرم وبرش وهرس الموز والكاسافا لتجهيز الطعام للضيوف، بينما يقوم الرجال بطلاء رماح طويلة من شجر “البامبو” باللون الأحمر، وهي من أهم أدوات الموكب في الاحتفال، وترمز رماح “البامبو” الطويلة إلى السلاح الذي يرمز إلى القوة وإلى تكريم العَلَم.
ويقومون أيضا في استعدادهم للحفل بإشعال نيران ضخمة، لتسخين الحجارة التي ستستخدم في الطبخ، فتعيش القرية حينها في أجواء ضبابية من الدخان المتصاعد من الحرائق، في أجواء احتفالية سنوية مميزة.
تجهيزات الحفل.. استعراض عسكري بأزياء الجيش الأمريكي
تتذكر المصورة “أولا” يوم وصلت إلى هذه القرية قبل 20 عاما، فقد كانت تبحث عن مأوى للمبيت، كي تستطيع تصوير البركان، فأسكنها “بابا” زعيم طائفة البضائع، وآواها في كوخ له، لذلك فعندما وصلت إلى أرض القرية توجهت إلى الزعيم “بابا” كما ينادونه هنا، وسلمت عليه، وأطلعته على بعض الصور التي التقطتها لهم في آخر احتفال شاركت فيه معهم قبل عشر سنوات.

وبينما كانت تستعرض صور الحفل وموكب القبيلة العسكري لفت انتباه “بابا” صور المشاة في الموكب بالملابس المدنية، فأبلغها بأن هذا الاستعراض قديم، لأنهم الآن يستعرضون الموكب بالزي العسكري الأمريكي الرسمي الذي كان يلبسه الجنود الأمريكيون أيام الحرب العالمية الثانية.
وعندما سألته من أين حصلوا عليها، أخبرها بأن أحد الضباط الأمريكيين منحهم مئة بدلة عسكرية أمريكية لمشاة القرية، كي يلبسوها في استعراض الحفل، وهم الآن يستعرضون الموكب بزي عسكري.

يُشرف زعيم القبيلة “بابا” وأبناؤه على سير العمل للتجهيز للحفل، كي يتأكد من أن الاستعدادات تجري بشكل سليم. إنهم جميعا منشغلون في التجهيز للاحتفال بشكل جماعي قبل أيام قليلة من موعده. وليس هذا من أجل الاحتفال فقط، بل إن من تقاليدهم الأصيلة القيام بالأعمال بشكل جماعي.
تعليم الأطفال.. نقل العادات والتقاليد إلى أجيال الغد
وصلت “أولا” في يوم ثلاثاء، وهو يعتبر يوم عمل جماعي من كل أسبوع، بحسب عاداتهم التي توارثوها عن الأجداد، لذا وجدتهم يبنون بشكل جماعي كوخا للشاب “لوف” ابن الزعيم السابق، ويتعاون الجميع هنا على تنفيذ المهمات الكبرى، وحتى الأطفال يشاركون في العمل التعاوني. بينما يقوم “صاحب العمل” أي من ينفذون له العمل الجماعي بتوفير الطعام والشراب للجميع مجانا، وعند انتهاء العمل يقيم مأدبة عشاء لهم.

وهم يصنعون سقف الكوخ من سعف البندان وعيدان القصب، بينما كل مكونات البناء هي من إنتاج محلي، فيقوم الرجال بجلب المواد المستعملة في البناء من مسافات بعيدة.
وبينما يتعاون الجميع في إنشاء الكوخ، يعلم “كاولاكا” ابنُ الزعيم الكبير أبناءَ القرية العادات والتقاليد، في زاوية بعيدة عن الموقع، ويختار يومين من الأسبوع لذلك. وقد حضرت المصورة “أولا” درس اليوم، وهو درس من دروس تعليم الأناشيد والأهازيج والرقصات المحلية المتداولة في المناسبات.
يحرص “كاولاكا” على تدريس صغار السن والإشراف على دروسهم، للمحافظة على تقاليد القبيلة، حتى تستمر الأجيال بالسير على طريقة الآباء.

ويبعد موقع الاحتفال كيلومترا واحدا فقط عن فوهة بركان “ياسور” الذي يعتقد سكان القرية البالغ عددهم 200 نسمة بأنه إله، ويعتبرونه رمزا بالغ الأهمية للقبيلة، فهو يمثل لهم رمز الحياة، وهم في العادة يأتون إلى البركان كي يخاطبوه، ويُصلّون له لتلبية حاجاتهم، ويأتون إليه لمخاطبة أرواح أسلافهم، وهم يؤمنون أن جميع البشر أتوا من البركان.
زيارة “آنا”.. عالم مختلف على سفح البركان الآخر
انتهزت المصورة “أولا” أيام استعدادات ما قبل الاحتفال، وذهبت لزيارة صديقة لها من السكان المحليين تُدعى “آنا”، وتقطن في تلال إيمايو على بضعة كيلومترات من لاماكارا في الجانب الآخر من السهل البركاني، وللوصول إليها يجب أن تقطع سفح البركان مشيا على الأقدام، وعليها المرور بالقرب من فوهته، وهو ما كانت تحبه “أولا” وتعتبره شبيها بتضاريس القمر.

ورغم وجود قبيلة صديقتها “آنا” على نفس الجزيرة، وبجانب نفس البركان، فإنهم يمارسون عادات مختلفة عن قبيلة لاماكارا، ويلبسون لباسا مختلفا، فسكان لاماكارا يلبسون الثياب الحديثة، بينما هؤلاء جميعا يلبسون تنانير من القش ذات طبقات متراكبة، كل طبقة تنسدل فوق التي تحتها، أما ما فوق التنورة من الجسد فيبقى مكشوفا، فتنانير الرجال والأطفال تبدأ من الخصر إلى القدمين، أما تنانير النساء فتبدأ من فوق الصدر إلى القدمين.
كما أن اللغة التي يستخدمونها أيضا مختلفة، وكأن القبيلتين تعيشان في عصرين مختلفين.
طلبت “أولا” من “آنا” تنظيم رقصة خاصة بوجودها لتصويرهم وتصوير العائلة للذكريات، فكان لها ما طلبت، وبدأ الجميع بتلوين وجوههم استعدادا للرقص، وكذلك فعلوا بوجه “أولا” الأبيض. فكان ما يمكن أن نسميه رقصا تصويريا، أو تصويرا راقصا.
بعد ذلك قدمت “آنا” لها وجبة من اليرقات الحية التي يستخرجونها من جذوع الأشجار اليابسة، ويقارب حجم الواحدة منها حجم إصبع يد الإنسان، وهي تسكن الخشب الميت فقط وتتغذى عليه، فهي لا تستطيع العيش في جذوع الأشجار الطرية أو الحية، وهم يعلَمون بوجود اليرقة في جذع الشجرة من ثقب النفق التي تحفره فيه، فيقصون الجذع طوليا مع مسار النفق؛ ويستخرجونها منه.

تتوفر اليرقات في هذه المنطقة بكميات وفيرة، ومن السهل تناولها أثناء العمل في الحقول؛ فهي لا تحتاج أدوات لأكلها، كل ما عليهم فعله هو شواؤها على النار وربطها بخيط مصفوف كالقلادة، وحملها معهم أينما تنقلوا.
شكرت “أولا” صديقتها “آنا” وغادرت منطقتها عائدة إلى لاماكارا، حيث يقع الاحتفال.
عيد البضائع.. استعراضات وراقصون وأجواء حماسية
حل يوم الاحتفال 15 فبراير/ شباط، وبدأ توافد الضيوف الذين سار بعضهم أياما مشيا للوصول إلى مكان الحفل، وحضر مع كل قبيلة راقصوها، ويقدمونهم في افتتاح الحفل، ويلبس “بابا” زعيم القبيلة وأبناؤه لباس الضباط.

في المناطق الجانبية يمكنك أن تلاحظ المشاة والراقصين والمواكب وهم يجرون التدريبات النهائية قبل الدخول إلى الميدان أمام الجمهور، وتلاحظ الحماس والسرور على وجوه جميع المشاركين وعلى الجمهور. ثم انطلق الحفل ودخل الراقصون والمشاة، واستعرضت القبائل مواكبها، وسار كل شيء على ما يرام.
من المؤكد أن لا أحد من “عُبَّاد البضائع” يتوقع سقوط البضائع من السماء عليهم أثناء الحفل ولا بعده، لكنها عادة استقرت في حياتهم، بسبب جهود القائد “بابا” وأبنائه في الحفاظ على العادات والتقاليد.
قرية إندو.. رحلة للاحتفال بسَمِية المصورة الصغيرة
بعد انتهاء الحفل غادرت “أولا” المنطقة متجهة بالطائرة إلى قرية إندو بجزيرة آمبريم الواقعة في شمال فانواتو، وبعد ساعتين من الطيران حطت الطائرة على الرمال السوداء في آمبريم، حيث التقت بمرافقها “جيديان” الذي رافقها في زيارتها السابقة للبركان المشتعل في الجزيرة.

لكن زيارة “أولا” هذه المرة للجزيرة ليست من أجل البركان، بل من أجل ابنة “جيديان” التي رزق بها وأسماها “أولا” على اسم المصورة الألمانية التي تروي لنا قصة هذا الفيلم. وسوف يقيم احتفالا لإضفاء الصبغة الرسمية على صداقتهما. ولكي تصبح “أولا” بمثابة أم لها.
يتحدث سكان جزيرة آمبريم خمس لغات مختلفة، ولا توجد لغة واحدة مشتركة بينهم، ولا يستطيعون فهم لغة غيرهم من القبائل، لذلك فقد أوجدوا طريقة للتفاهم فيما بينهم هي طريقة بالرسم، وتتلخص في أنهم ينثرون على الأرض رماد الخشب، ويرسمون بأصابعهم الأشكال التي يريدونها أو الرسومات التي تعبر عن مبتغاهم.
وتُعتبر هذه الطريقة التقليدية من أقدم الطرق للتفاهم والتواصل بين البشر، وما زالت مستعملة إلى يومنا هذا في جزيرة آمبريم.

ويعيش في قرية إندو التي لا تتوفر فيها الكهرباء حوالي 300 شخص يعمل أغلبهم في الزراعة، وقد حافظوا على عادات وتقاليد يتمسكون بها بشكل صارم، بما في ذلك زعامة القائد الذي يطيعونه بشكل كامل، ويشكل رمزا حقيقيا للسلطة. وتقتضي التقاليد أنه على من يزور قرية “إندو” الذهاب إلى الزعيم “موزاس” وإعلامه بوصوله. وهذا ما فعلته “أولا”، ثم استأذنته بإقامة الاحتفال، فأذن لها.
“جيديان”.. صانع الطبول وصاحب الحفل
يتمتع “جيديان” بميزة خاصة بين أهل القرية، فقد منحه كبار السن حق صناعة طبول “التامتام” المجوفة الصاخبة، وكلمة طبول هي مجازية بسبب ارتفاع صوت هذه الأداة، وإنما هي عبارة عن عصا غليظة مجوفة، وتصنع من أنواع معينة من الشجر الذي يشبه البوص أو الخوص إلى حد كبير، لكنه سميك القشرة، بحيث يمكن أن يمارس فن النحت عليه، ويبلغ قطرها حوالي 3 بوصات، وعند الضرب عليها بعصا أخرى تصدر صوتا مرتفعا.

ومن غرائب هذه القرية أنه لا يُسمح لأحد بممارسة النحت على الخشب، إلا بإذن من كبار السن، وقد لجؤوا لاستخدام “التامتام” قديما لأول مرة، بسبب عدم وجود وسائل تواصل في القرية لإيصال الأصوات إلى الأماكن البعيدة.
جلست “أولّا” مع “جيديان” يستذكران أول زيارة لهم لفوهة البركان، وكيف استطاعت إقناعه بالاقتراب من الحمم الملتهبة، فاعترف لها بخوفه عند تجربته الأولى تلك، بسبب انتشار الأساطير والخرافات حول الأرواح والأشباح الشريرة التي تسكن البركان.
ولما رجع إلى رجال القرية أخبرهم بأنه اقترب من فوهة البركان، وأنه لا صحة لتلك الأساطير، وصار الجميع يتجرأ على الاقتراب من الفوهة، ويشاهد الحمم عن قرب، فلقد أثّر مسلكُه في طريقة تفكيرهم، وساهم في تغيير بعض المفاهيم المنتشرة حول تلك الأساطير.
وفي لحظات الفراغ التجأت “أولا” إلى جزء صخري من الشاطئ مرتفع، ذي أمواج متلاطمة، للتفكر في حال هذه القرية وفي أناسها وفي مدى سعادتها بهم، كأنه نوع من الراحة والخلوة والابتعاد عن الناس.
وجبات الاحتفال.. قرية تأكل مما تزرع أيادي أبنائها
عشية يوم الاحتفال انشغلت النساء في القرية بإعداد الطعام المكون من اللحم والخضار والبطاطا الحلوة والموز، وهي وليمة سيجتمع عليها كل أفراد القرية، وأما الطبق الرئيسي في الوليمة فيسمى “اللابلاب”، وهي وجبة تقليدية من “الكاسافا” أو الموز المبشور مع اللحم وحليب جوز الهند، وتطهى الوجبة على الفحم والحجر، ويُغلفونها بأوراق الموز المتينة التي تستطيع حمايتها من الاحتراق مع المحافظة عليها طرية.

وقد انتهز “جيديان” وزوجته وابنتهما “أولا” الفرصة قبل الاحتفال، وذهبوا إلى حديقتهم للحصاد الأسبوعي، حيث يملك كل واحد من سكان القرية أرضا يزرع فيها ما يسد رمق أسرته. وبسبب خصوبة الأرض، فإن المزروعات في الحديقة تنمو بسرعة، وتحتاج العناية بها إلى مجهود مضاعف، ويزرع “جيديان” الخضراوات والموز وعددا من الأشجار المثمرة.
وفي المساء أعدت والدة “جيديان” عشاء مكونا من البطاطا والموز والملفوف، وكل هذه المنتجات هي من ثمار حديقتهم، فهذه هي طبيعة هذه القرية التي تأكل مما تنتج، كدقيق النشا والفاكهة والخضراوات. ثم التفوا جميعا حول النار، إذ يلف الظلام المكان، إلا من ضوء مصباح يعمل على الطاقة الشمسية يعود للمصورة “أولا” بطبيعة الحال.
حفل الأدغال.. رقص رجالي خاص يسبق الوداع الأخير
في الصباح انطلق الراقصون من الرجال إلى مكان الحفل، وهو مكان مقدس يقع في الأدغال على بعد مسافة 15 دقيقة مشيا على الأقدام، يسمى “ناسيرا”.

ويقتصر الحفل في العادة على الرجال ولا تدعى النساء إليه، ويكون الراقصون فيه شبه عراة، فهم تقريبا لا يضعون على أجسادهم شيئا سوى قليل من الأعشاب لا تكفي لستر سوآتهم، ويضعون جزءا منها على رؤوسهم، على شكل إكليل من العشب، ويرقصون ويقفزون مع ترديد الأهازيج جماعيا.

وبانتهاء الحفل، شكرتهم “أولا” على احتفائهم بها
وبـ”أولا” الصغيرة، وعلى اعتبارها جزءا من عائلة “جيديان”.
وفي القرية اجتمع كل أفراد القرية على الوليمة يحتفلون “بأولا” الصغيرة و”أولا” الكبيرة. ثم غادرت “أولا” الكبيرة القرية، وهي سعيدة بأنها صارت إحدى نساء جزيرة آمبريم.