“المطبخ التراثي”.. أطعمة صامدة في ثقافات الشعوب منذ مئات السنين

طبق طعام من التراث البيروفي

يعتبر الشيف “أندريه تشيانغ” مالِكُ سلسلة مطاعم أندريه في سنغافورة، واحدا من ألمع الأسماء في عالم الطهي، فقد حصل مطعمه عام 2016 على نجمتَيْ “ميشلان”. لكنه قرر إغلاق المطعم في 2018 ليخوض تجربة مختلفة تماما، يسافر فيها عبر القارات، ويرسي دعائم نظريته التي تعتبر الطعام صبغة تتميز بها الشعوب، وجزءا لا يتجزأ من هويتها وثقافتها.

في هذه الحلقة من سلسلة “طعامنا اليوم”، التي تعرضها الجزيرة الوثائقية بعنوان “المطبخ التراثي” سوف نرافق “أندريه تشيانغ” في رحلة فريدة عبر ثلاث قارات، يلتقي مع ثلاثة من أشهر الطهاة فيها، ويسجل طرقهم وأساليبهم في الحفاظ على تراث الأجداد في الطعام الذي تتوارثه مجتمعاتهم، ويتعرف إلى رؤاهم المستقبلية، التي تمزج بين الأصالة والمعاصرة في إعداد الطعام.

“أعادني المذاق إلى حين ابتكارها قبل ألف عام”

سندع الشيف “تشيانغ” يحدثنا عن رحلته الفريدة هذه، ولقائه بثلاثة طهاة في قارات مختلفة من نفس عمره تقريبا، ويتحدث كلٌّ منهم عن مفهومه للمطبخ التراثي، ورؤيته المتميزة التي صاغها من أجل الحفاظ على التراث والهوية، وتعريف الأجيال المختلفة عليها.

سازاكي كينسوكي طباخ ياباني من محافظة شيغا

اللقاء الأول مع “سازاكي كينسوكي”، وهو طباخ ياباني من محافظة شيغا. يقول: يعود تاريخ طبق الفونازوشي الذي تصنعه عائلتي إلى 240 سنة خلت، وأنا الآن أدير هذا العمل، وكان قد تأسس في 1784، وقد بدأنا متجر سمك، في عصر لم يكن فيه كهرباء ولا ثلاجات، والفونازوشي كان مجرد وسيلة لحفظ السمك، وهو عبارة عن سوشي مخمر يُحضّر من سمك الشبّوط والأرز على مدى عدة مواسم.

طبق المعكرونة المخمّر ذو المذاق الشبيه بالجبنة

يقول “أندريه”: نكهتها عميقة للغاية، فهذه رائحة بكتيريا حمض اللبنيك المتخمرة، ويأتي مذاق الحموضة أولا، ثم تصبح نكهة السمك حلوة، وعندما تذوقت أول شريحة منها، أعادني المذاق إلى حين ابتكارها قبل ألف عام مضى، كيف عاش الناس حينها، ولماذا ابتكروا هذا الطبق؟

أسماك الشبوط.. وجبة معتقة تخمّر في الأرز مدة عامين

يقدم طبق الفونازوشي مع طبق الأوشزوكي، وهو الأرز المطبوخ في الماء الساخن، ويقدم أيضا طبق المعكرونة المخمّر الشهي، إنها تشبه الأنشوفة في طبق المعكرونة، ومذاقها يشبه الجبنة. لكن العادات الغذائية تتغير، وحتى نورث هذا الطبق إلى الأجيال المقبلة فعلينا أن نعمل بجدّ من أجل تكييفه مع نمط الحياة المعاصرة.

بعد اصطياد أسماك الشبوط في الربيع، تُزال الحراشف والخياشيم وتحفظ في الملح مباشرة لغاية يوليو/تموز

في اليوم التالي ذهبنا إلى مكتب كينسوكي، وهو نفس المكان الذي بدأت عائلته تصنع فيه الفونازوشي قبل أكثر من قرنين، فوجدنا هنالك حاويات فيها أسماك مخمرة مضى عليها 4 أشهر، والكثير من صلصة الصويا. فبعد اصطياد أسماك الشبوط في الربيع، تُزال الحراشف والخياشيم، وتحفظ في الملح مباشرة لغاية يوليو/ تموز، وهو أكثر المواسم حرارة في اليابان.

يقول “كينسوكي”: نغسلها من الملح ونحفظها بعده في الأرز، ونتركها تتعتق لمدة عامين، وندع البكتيريا تخمر السمك، ويصبح الأرز بقوام معجوني بعد تخمّره، وتضغط الحاويات بحجارة ثقيلة لإخراج الهواء أثناء عملية التخمير، وهكذا على مدى سبعة أجيال ظلت عائلتي تستخدم الأسلوب نفسه.

طبق الفونازوشي.. تركة تتوارثها العائلة منذ عدة أجيال

يقول “كينسوكي”: لا أعلم هل يمكن استبدال هذه العمليات بواسطة التكنولوجيا، ولكنني متأكد أننا إذا كسبنا شيئا فسنخسر شيئا مقابله، وأنا أُعلِّم ابني ليسير على نفس الخطوات، وهو يستمتع بمصاحبتي في مخزن التحضير. تماما مثلما كانت أمي تعقد مسابقات التذوق أثناء تناولنا الطعام، ربما كانت تعدّني طاهيا منذ ذلك الوقت.

طبق الفونازوشي.. وجبة تستغرق عامين من التحضير

هنا كان يقع مطعم “كينسوكي سان” قبل أن يدمره إعصار “تيفون” العام الماضي 2021، شعرت بحرقة كبيرة، لقد دمّر الإعصار قلبي قبل أن يدمّر المطعم، وأصبح كل شيء في ظلام دامس، كان هذا أكثر الأحداث تدميرا في حياتي، فالمطعم يربط الناس ببعضهم، ويربطهم بتقاليدهم وتراثهم ومكونات طبيعتهم.

كنتُ ابن 28 عاما عندما توفي والدي، لم يطلب مني شخصيا أن أتسلم العمل بعده، ولكنه قال لي إنه كان لديه حلم أن يستمر في الفونازوشي ويطورها، وأنا اليوم أصنع الفونازوشي من أجلي أولا، لأعرف كيف تكون الأشياء التي أصنعها أنا، وكيف يستمتع الناس بها، هذا هو النجاح الذي أحلم به، والذي سيقود إلى الحفاظ على الصنعة.

توريث الصنعة.. تراث ياباني صامد في وجه التحديات

عندما يهطل المطر في مايو/ أيار ويونيو/ حزيران يجتمع كثير من أسماك الشبوط القادمة من بحيرة بيوا، وتقفز من النهر إلى مزارع الأرز لتضع بيضها، فكان الناس في الماضي يمسكون هذه الأسماك مع الأرز ويحفظونها معه، لكن الأسماك اليوم أقل من المعتاد، ولذا سينخفض إنتاجنا من الفونازوشي، وإذا ما استمرت الظروف البيئية في التغير، فلا ضمان للاستمرار في صنع الفونازوشي مستقبلا.

مصنع الفونازوشي، حيث يخمر السمك في حاويات لمدة 4 أشهر

يقول “كينسوكي”: صناعة الفونازوشي تجعلني متوترا في بعض الأحيان، لأنني أفكر في كيفية توريثها لأجيال المستقبل، إذ يجب أن نردّ للفونازوشي عطاءه لأسرتنا على مر الزمن، وذلك بالحفاظ عليه ونشره على نطاق أوسع. وسأبذل قصارى جهدي لمنع اختفاء هذا الطبق التراثي من اليابان.

مطعم “كينسوكي سان” قبل أن يدمره إعصار “تيفون”

بعد إعصار “تيفون” أصبح “كينسوكي” يدير مطعمه من مكان مؤقت، وهو يطمح لإعادة بنائه في موقعه الأصلي خلال العام المقبل. وقد يتغير المذاق وقد تتطور وسائل الصنعة، ولكن الشيء الذي لن يتغير هو أصل الحكاية وكيف بدأ هذا الطبق.

“عدت إلى أرضي لأعرف أكثر عن موطني”

تستمر رحلة الشيف “أندريه تشيانغ” عبر المحيط الهادئ، محاولا اكتشاف كيفية محافظة الطهاة على إرث بلادهم في الأطعمة، وهذه المرة إلى البيرو التي كانت موطن حضارة “الإنكا” قبل أن يغزوها الأوروبيون، ومنذ ذلك الحين ابتكر مهاجرون من آسيا وأفريقيا خليطا فريدا من العادات في هذه الأمة المتنوعة.

لقاء أندريه تشيانغ مع الطباخ البيروفي فيرخيليو مارتنيز

ويتحدث “فيرخيليو” عن تجربته في تعلم الطبخ قائلا: وأنا كذلك غادرت موطني بحثا عن هويتي، ففي ليما لم نكن نفتخر بثقافتنا ولا بمطبخنا، والمطاعم الفاخرة فقط للطهاة الإيطاليين والفرنسيين، وليس هنالك تصور لمهنة الطهي ولا مدارس لتعليمه، لذا غادرت البيرو لدراسة الطهي، ولكن عانيت تشوُّشَ الهوية في الخارج، فعدتُ إلى البيرو لأصنع طعاما يمثل بلدي.

أطباق البيرو.. وجبات تجسد التاريخ والتنوع في أعالي الأنديز

عاد “فرخيليو” إلى بلده وافتتح مطعم “سنترال”، وهو أحد أفضل المطاعم في العالم، وتضم قائمة التذوق لديه أكثر من 300 مكوِّن حصل عليها من مواقع على ارتفاع 4000 متر. يقول “فيرخيليو”: وضعنا قائمة طعامنا بناءً على النظم البيئية المختلفة في البيرو، بحيث يكون لكل ارتفاع عن سطح البحر طبق موحد خاص به، فهذا طبق من جبال الأنديز، وهذا من حوض الأمازون، وهذا طبق بحريّ، وقد انتقدت لأنني لم أضع في القائمة أطباقا تقليدية، وتحملت النقد لأنني حاولت تقديم شيء جديد، ولكنه من صميم بيئتي البيروفية.

لاقت القائمة استحسانا دوليا ونفورا محليّا، وتحقيق التوازن يمثل تحديا، فالمسألة ليست اختيارا بين التقليد والابتكار، بل تتعلق بالأمرين معا، فنحن نملك ملايين المكونات والقليل جدا من طرق الطهي، والزمن يتغير، فعلينا ابتكار أشياء جديدة.

قائمة التذوق الخاصة بمطعم “سنترال” تضم أكثر من 300 مكوِّن

يقول “أندريه”: تذوقت مطبخه، وشعرت بالمذاق البيروفي أكثر بكثير من الأطباق التقليدية في بيرو، إنه يحاول إرساء تقاليد جديدة للبيرو، لقد استخدم المكونات بذكاء شديد.

ربط الماضي بالحاضر.. حبل إنقاذ التراث من الاندثار

اصطحب “فيرخيليو” مقدم الفيلم “أندريه” إلى منطقة الوادي المقدس في كوسكو، وأطلعه على أنواع من النبات يتوارثها الأحفاد عن الأجداد على أنها نباتات طبية، لعلاج الكثير من الأمراض، فهذه نبتة “ماركو” لآلام المعدة، والاغتسال بمنقوعها يشفي من أمراض جلدية، وهذه “نبتة الموياسكا” يستخدمونها في أمراض خطيرة مثل التهابات الكبد وغيرها.

“نبتة الموياسكا” من الوادي المقدس في كوسكو يستخدمها الناس في علاج بعض الأمراض الخطيرة

يقول “أندريه”: وكما تتحدد الأجيال من خلال الآداب والموسيقى والمطبخ، فمن الجميل أن نكون الرواد الذين يحاولون فكّ شيفرة الأجداد في كل قارة، ففي مطبخنا في المدينة نعيد اكتشاف مكونات يعرفها الناس هنا في البريّة جيدا، وكما تلاحظون فنحن نأخذ المعلومات من المزارعين والشعوب البدائية في كل منطقة، ونعيد صياغتها في المطبخ الحديث.

ويعلق “فيرخيليو” على حديث “أندريه” قائلا: أستكشف البيرو لأجد مكونات جديدة، فأنا أشعر بفضول حيال الإرث والثقافة والتقاليد، ولا يقتصر الأمر على عرض مهاراتنا الشخصية في الطهي بقدر ما هو ربط للماضي بالحاضر والمستقبل والحفاظ على تراث أسلافنا.

متحف للمكونات الطبيعية والثقافة المحلية يجمع أنواع النباتات وأصناف البذور في البيرو

وقد أنشأ فيرخيليو وأخته “مالينا” متحفا للمكونات والثقافة المحلية، فجمع أنواع النباتات وأصناف البذور، وخصوصا المعرضة للنسيان، وهو يحتفظ بها من أجل الإنتاج المستقبلي، وذلك في إطار مشروع “ماتر” المبنيّ على التبادل المعرفي مع سكان المناطق الأصليين، لخلق آثار إيجابية على المستوى البيئي والحيوي والاجتماعي.

“هناك اكتشفت هويتي الحقيقية”.. عودة إلى مطبخ الوطن

كانت المحطة الأخيرة في القارة السمراء، وتحديدا في أكرا عاصمة غانا، حيث التقى “أندريه” بالطاهية “سيلاسي أتاديكا”، وتقدم نفسها قائلة: ما يمنحني الإلهام هو أنني أعطي المنزلة والاحترام اللذين يستحقهما المطبخ الأفريقي، حتى يفتخر به هؤلاء الذين يعرفونه، ويتذوقه الذين لا يعرفونه ولم يكونوا ليتخيلوه من قبل.

الطاهية سيلاسي أتاديكا من غانا

ولدتُ في غانا، وانتقلت إلى الولايات المتحدة حين بلغت عامي الخامس، إثر انقلاب عسكري حصل في غانا. فدرست هناك الجغرافيا؛ الدراسات البيئية. وفي 2014 عدت إلى غانا لأفتتح مطعما مؤقتا في بيتي كطاهية ذاتية التعلم. أسمع كثيرا عن الأفكار المسبقة فيما يخص المطبخ الغانيّ، فقررت كأول نشاط أن أصطحب “أندريه” إلى سوق “نيما” للتوابل، لأريه العناصر التي تكوّن اللبنة الأساسية في مطبخي.

هذا قَرن “براكاسيه”، رائحته تشبه الكاراميل، فنحن نستخدم النكهات القوية، وهي أساسٌ لكثير مما نأكل، وكثير منها له خواص طبية تجعل الناس يتحمسون لها، وهنالك الكثير من المكونات التي لم نكتشفها بعد، حتى نحن الغانيين أنفسنا، وهذا تقصير منا في تقرير ما هو منا ويمثلنا حقيقة.

سافرتُ عبر أفريقيا في مهمة مهنية مع الأمم المتحدة، وهناك اكتشفت هويتي الحقيقية، وكنت أعمل على أزمة التغذية في منطقة الساحل، وعندما عدت إلى غانا وجدت أن جميع الناس يتناولون عددا محدودا من الأطباق، أربعة أو خمسة، وعلى مدار العام، وعندما كنت أقوم بأي تغيير ينزعجون، فهم يحبون أن يتناولوه كما كانوا دائما.

“أطباقي تجذب شريحة معينة من الزبائن”

تواجه “سيلاسي” في مطعمها نفس المشكلة التي كانت تواجه “أندريه” عندما افتتح مطعمه قبل خمس سنوات. وتتحدث عنها قائلة: لديّ مشكلة التكلفة، فالطعام المحلي في أكثر الأحيان ضعف تكلفة المستورد، ولذا فأطباقي تجذب شريحة معينة من الزبائن، وليس هذا هو الانتشار الذي أريده، والذين يستطيعون الدفع لن يغامروا بالدفع أكثر على طبق يعتبرونه محليا.

التجفيف والتمليح والتدخين هي تقنيات لحفظ الطعام في غانا

في بيئة حارة مثل بيئتنا يتلف كثير من أنواع الأطعمة عندنا، ولذا ستجد كثيرا من تقنيات الحفظ المستخدمة، كالتجفيف والتمليح والتدخين، مثل هذه الـ”كنكي”، وهي عجينة ذرة مخمّرة تُطهى ثم تغلى وتغلَّف بأوراق الذرة، فتحميها فترة طويلة دون الحاجة لتجميدها، وقد تناقلها الناس عبر الأجيال.

أُعد كثيرا من الأطباق التي تعتمد على النباتات بشكل أساسي، فهذا طبق من الفطر أجمعه من البراري، وينمو على جحور النمل الأبيض، وأنا أحمّصه حتى يبدو كاللحم على سيخ الكباب، وهذا الطبق الثاني يدعى “آتال”، ويستخدم فيه الأفوكادو، وأصنع نسخة منه باستخدام موز الطهي مع الفول السوداني.

“أنا فخور بكوني طباخا”.. مهنة تحفظ التراث وتصنع الهوية

يختم “أندريه” هذه الحلقة بالقول: نحن نحافظ على التقاليد ولكن بلمسة عصرية، ومن بين مئات الأطباق التي نقدمها يمكن أن يصبح واحدٌ منها طبقا كلاسيكيا تراثيا، فتحديد الهوية لا يعني النظر إلى الوراء فحسب، ولكن أيضا أن نحدد أين سنكون بعد 20 سنة، وعندما نصنع طبقا ينصبُّ نصف تفكيرنا على حفظ النكهة التقليدية وحرصنا على أن لا ينساها الناس، بينما ينصبُّ النصف الثاني على التفكير إلى أيّ مستقبل نحن ذاهبون.

الفطر المحمص يبدو كاللحم على سيخ الكباب

هذه الرحلة بين القارات جعلتي أحب مهنتنا معشر الطهاة أكثر بكثير من ذي قبل، فـ”كينسوكي” فخور بالدور الذي يلعبه في حفظ تراث أجداده، و”فرخيليو” يعمل على إضفاء صبغة جديدة، أو إعطاء هوية جديدة للمكونات التراثية، غير منسلخة عن القديم، بينما “سيلاسي” تجمع الأجزاء من مختلف أنحاء غانا، وكأنها تجمع قطع “أحجية”، وتعيد ترتيبها في لوحة تراثية ومعاصرة في آن معا، نحن الجزء الأخير في البشرية الذي لا يمكن استبداله بروبوتات أو آلات، أنا فخور بكوني طبّاخا.


إعلان