“خبز وزهور”.. مطالبات النساء الشجاعة بالحياة والحرية بعد عودة طالبان

الشجاعة لا تنقص المرأة أو المخرجة الأفغانية سارا ماني، رغم كل القيود المفروضة على النساء في أفغانستان، فقد نجحت في تصوير فيلمها الوثائقي الجديد “خبز وزهور” (Bread and Roses) عام 2023، وذهبت لتقديمه في مهرجان كان السينمائي مدعومة من طرف النجمة الأمريكية “جنيفر لورانس” التي ساهمت من خلال شركتها في إنتاج الفيلم.
عُرض الفيلم ضمن برنامج “العروض الخاصة” في مهرجان كان الماضي، على خلفية ما صدر قبل شهرين من مجلس الأمن بإدانة قمع طالبان للمرأة، ومطالبتها بفتح المجال كاملا أمام النساء، وبالمساواة التامة مع الرجال للمشاركة بحرّية في المجتمع الأفغاني.
وقد حضرت المخرجة إلى المهرجان وقدمت فيلمها للجمهور مطالبة الجميع بالانتباه لما تتعرض له النساء في بلادها، وقد اختارت لفيلمها هذا الشعار البديع “الخبز والورود” رمزا للحياة والحرية.
“خبز، حرية، عمل”.. هتافات المرأة في وجه طالبان
صوّرت مقاطع كثيرة من الفيلم بواسطة الهاتف المحمول تصويرا سريا، فالمخرجة وغيرها من الشخصيات التي تظهر في الفيلم خاطروا بحياتهم، ويبدأ الفيلم بمقطع يُصوّر دخول قوات طالبان إلى العاصمة الأفغانية كابول في أغسطس/ آب عام 2021، بعد رحيل القوات الأمريكية عنها، مع أصوات طلقات الرصاص في الهواء ابتهاجا، وتصاعد أصوات التكبير.
أما النساء فقد آثرن الاحتجاب خلف النوافذ، وعلى الفور فُرض عليهن ارتداء البرقع، وحُظر الاشتغال بالأعمال، وأغلقت مدارس تعليم الفتيات، ومنع تجول النساء من دون الرجال في الشوارع، وغير ذلك.
رغم كل تلك القيود، كان هناك من النساء من رفضن الانصياع لهذه القيود، وخرجن كما نشاهد في مقطع آخر في مظاهرة يهتفن ضد الإرهاب وضد نظام طالبان، ويطالبن بالحرية، ومن بين الشعارات التي رفعنها في المظاهرة “خبز، حرية، عمل”.
ثم تدخلت قوات الأمن واعتدت على النساء واعتقلت كثيرا منهن، وزجت بهن في السجون، وأغلقت المتاجر التي تديرها نساء، وحرمت المرأة من التجول بحرية، واعتدت على عدد من الصحفيين الغربيين والمصورين الذين كانوا يصورون المظاهرة.
وفي مقطع آخر نسمع صوت رجل من الواضح أنه من قوات أمن طالبان يهدد ويتوعد النساء المتظاهرات بالإعدام الفوري، لكن امرأة شجاعة تتصدى له، وتتهمه بالرغبة الشرسة في السيطرة على السلطة بأي ثمن، ولو على جثث الجميع.
زهرة محمدي.. طبيبة أسنان تواجه تسلط الأب وطالبان
اختارت مخرجة الفيلم ثلاثة نماذج للمرأة الأفغانية التي انقلبت حياتها رأسا على عقب بعد عودة طالبان إلى السلطة والتسلط في أفغانستان. أولى هذه النماذج هي زهرة محمدي، وهي طبيبة أسنان أرغمت على إغلاق عيادتها، لكنها أبقت عليها سرا مكانا مفتوحا لتجمع الناشطات النسويات.
تصور المخرجة جانبا من اجتماعات تضم عددا من النساء، وهن يتناقشن في كيفية الخلاص من تلك المحنة، والخروج إلى العالم عبر تسجيل شهادتهن على ما يجري في البلاد بواسطة كاميرات المحمول، واختيار الشعارات التي يرددنها في مظاهرات الاحتجاج التي يخططن لها، مع استمرار الحلم بعودة الحرية مرة أخرى.

من الواضح أن زهرة تنتمي لعائلة تقليدية متشددة، فنرى والدها يعترض على ما تقوم به من نشاط، مفضلا المهادنة مع الأمر الواقع، وهو يوبخها بصوت مرتفع كما يشكو من أنه لم يعد قادرا على مواجهة المجتمع والخروج من البيت، بسبب ما تقوم به زهرة من أفعال علنية مناهضة للسلطة.
لن يطول الأمر كثيرا، فسرعان ما تعتقل زهرة وتختفي من الفيلم، مع شعور صديقاتها وأفراد عائلتها بالحيرة والأسى، وبعضهم يرى أنها اختفت إلى الأبد، إلا أنها تغادر المعتقل وتعود في ظروف لا تتضح تماما في الفيلم، لكن يمكن الاستنتاج بأن اعتقالها كاد أن يتسبب في أزمة إعلامية ضد نظام طالبان في الغرب، بسبب ما تقوم به الناشطات من حملات سواء عبر الإنترنت أو التداول الشخصي مع الأفراد، أو التظاهر الشجاع رغم كل الأخطار.
تخرج زهرة لتروي لزميلاتها أنها شاهدت بعينيها اعتداء الأمن بقسوة على امرأة أخرى كانت محتجزة معها، لدرجة أنها لم تستطع التعرف عليها فيما بعد.
تسجيل اليوميات.. شجاعة نساء الفيلم الثائرات على الوضع
من النماذج التي يعرضها الفيلم أيضا شريفة، وكانت تعمل في وظيفة مستقرة بإحدى الإدارات الحكومية، لكنها أصبحت الآن من دون عمل، بعد أن أرغمت على البقاء في المنزل، وقد انضمت لزميلاتها في حركة الاحتجاج.
وهناك أخيرا “تارانوم” التي تعرضت لمطاردة السلطات بسبب نشاطها المعارض، واضطرت بالتالي للفرار إلى باكستان، وقامت المخرجة بتصويرها هناك.
نتعرف على هذه النماذج، ليس فقط من خلال ما ترويه المخرجة أو التعليق الصوتي الذي يصاحب الصور، بل أيضا من خلال اليوميات المصورة التي يقمن بتسجيلها، وقد حصلت عليها المخرجة الشجاعة، وقامت بعمل مونتاج الفيلم، بحيث ينتقل بين هذه الشخصيات الثلاث، لكن في سياق أشمل، هو السياق العام للشارع، فمن المدهش أن نشاهد نساء يتحدين بكل شجاعة ذلك الوضع القائم، ويتجولن في شوارع المدينة الساكنة ليلا.
“المرأة في أفغانستان مجرد جارية”
ليست هذه الرغبة في استعادة الحرية غريبة على تاريخ المرأة في أفغانستان، وتذكرنا المخرجة بأن المرأة الأفغانية نالت حق التصويت في عام 1919، أي قبل أن تحصل عليه المرأة الأمريكية.

لا يظهر في الفيلم رجال كثيرون، لكننا نرى مثلا حميد زوج زهرة، وهما يحتفلان في أحد المشاهد بزواجهما، كما يظهر رجل آخر يقول إن “المرأة في أفغانستان مجرد جارية”، وتظهر امرأة تواجه الكاميرا وتقول “إن في منزلها رجلا من طالبان”، تقصد أنها متزوجة من أحد هؤلاء المنتمين للحركة، وتتحدث عن ضربه لها باستمرار من دون أي رادع.
يبدو غياب الشخصيات الرسمية التي تمثل نظام طالبان مفهوما في سياق فيلم من إخراج امرأة أفغانية أولا، كما أنه يعد أيضا عملا من أعمال الاحتجاج، وعلى أي حال فطالبان موجودة في الفيلم من خلال الممارسات العامة التي تجري في الشارع وفي المجتمع عموما. إنها قائمة في الخلفية وفي المقدمة.
“ألف فتاة مثلي”.. آلام وآمال في ما قبل وبعد طالبان
فيلم “خبز وزهور” هو العمل الثاني لمخرجته سارا ماني، وقد أخرجت فيلمها الوثائقي الأول “ألف فتاة مثلي” (A Thousand Girls Like Me) عام 2018، وكانت تروي فيه قصة امرأة أفغانية شابة تكافح لكشف ما تعرضت له داخل محيط عائلتها من اعتداءات جنسية.
لكن القضاء في أفغانستان حينها وقف عاجزا عن محاكمة وعقاب المعتدين من رجال العائلة، ورغم أن الموضوع كان يتعلق بحالة خاصة، فإنه كان يشير إلى الوضع العام القائم بالنسبة للنساء هناك، سواء قبل طالبان أو بعدها.
ورغم الصورة القاتمة التي تشوب الفيلم، فإنه يحمل في طياته شعورا بديعا بالأمل في التغيير مستقبلا، فنحن نرى عشرات الفتيات والفتيان من الجيل الجديد يعبرون عن رغبتهم في رؤية نهاية لسيطرة طالبان على الحكم قريبا، ونرى إحدى الفتيات تردد بأنها تتمنى لو كان كل ما يجري أمام عينيها مجرد حلم.
تجلس شريفة بجوار نافذة منزلها مكشوفة الوجه، تتطلع إلى ضوء النهار، في مجازفة يمكن أن تكلفها حياتها إن لمحها أحدهم، فالتحدي هو السمة الأكثر بروزا على شخصيات الفيلم، لكن نظراتها تفوح أيضا بالأمل وانتظار التغيير.