“السيدة تشاترجي ضد النرويج”.. أمٌّ هندية شجاعة تهزم قوانين الرعاية الفاسدة

تنقل المخرجة “أشيما تشِبر” في فيلمها “السيدة تشاترجي ضد النرويج” (Mrs. Chatterjee vs Norway) القصة الحقيقية لأم هندية واجهت النرويج، من أجل استعادة طفليها من دار رعاية اجتماعية للأطفال أُخذا إليها بحجة عدم كفاءتها في تربيتهم، وبما لا ينسجم مع قوانين البلد وثقافته.
وقد سار إصرارها على استرجاع ولديها في دروب قانونية معقدة، وتدخلت دول فيها، ومع ذلك فإنها لم تستسلم، وقاومت بمفردها كل الضغوطات التي مورست ضدها من أجل إظهارها كشخص انفعالي ومتوتر وغير متوازن نفسيا.
كل تلك الصفات التي ألصقت بها زورا لم تصمد أمام عزيمتها وقوة شكيمتها لإثبات أنها أم هندية شجاعة، لا تتردد في مواجهة العالم كله من أجل حماية أطفالها.
هنود النرويج.. خلافات زوجية واختلافات ثقافية
في سياق السرد تظهر الأم “ديبيكا” (الممثلة الهندية راني موخرجي) كشخصية عفوية سوية، تتصرف وفق تربيتها الهندية التي نشأت عليها، فلم تحسب أن كل كلمة وحركة عفوية ستُستغل لاحقا ضدها وضد أطفالها.
يتجسد ذلك السلوك في عدة مشاهد تنقل الزيارات المتكررة التي كانت تقوم بها موظفات “دار فيلفريد” للرعاية الاجتماعية لبيتها في النرويج، كنوع من المراقبة والتقييم لحالة الأطفال الذين يعيشون فيه، من دون أن تدرك الأم أن كل كلمة عفوية تتفوه بها أمامهم، وكل سلوك غريزي يصدر عنها في تعاملها مع أطفالها سيُسجل ضدها، ويكون سببا في استصدار قرارات لإسقاط حق رعايتها لهما، وفقا للقوانين النرويجية الصماء التي لا تُراعي الفوارق الثقافية بين المهاجر، وبين البيئة الجديدة التي ينتقل إليها.
نص الفيلم السينمائي منقول بتصرف من كتاب “رحلة الأم” الذي سطرت فيه “ساغاريكا تشاكرابورتي” تجربتها الحقيقية، وهو لا يخفي وجود خلافات بين الزوجين ناتجة عن تباعد أفكار الزوج “أنيرود تشاترجي” (الممثل أنيربان باتاتشارا)، واختلاف قيمه الأخلاقية عن قيم الزوجة وتربيتها.
الزوج الذي رتبت له عائلته زواجا تقليديا منها، وعليه انتقلت “دبيكا” معه إلى النرويج، وأنجبت منه طفلين هما “شوب” (5 سنوات) و”توتشي” (5 أشهر)؛ لم يكن متعاونا معها في تربيتهما، فقد كان همه الأول والأخير هو الحفاظ على وظيفته في الميناء، والحصول على الجنسية النرويجية.

بعفويتها كانت تنقل لصديقتها الهندية بعض المشاكل العائلية التي تحدث بينهما، حيث أنه يستخدم فيها أحيانا العنف، كما أنها لم تخفِ أمام موظفات رعاية فيلفريد للأطفال طريقتها التقليدية في إطعام طفليها بيدها، بدلا من الشوكة والسكين أو الملعقة، ولم تنكر أمامهم نوم أطفالها أحيانا معها في نفس سريرها.
كل تلك العبارات والبوح العفوي كانت الموظفات يثبتنها في دفتر الملاحظات، والابتسامة الكاذبة لا تغادر محياهن، والزوج بدوره لا ينفك عن لوم زوجته على سلوكها الطبيعي الذي في الواقع لا يسيء لطفليهما، بل إنها على العكس كانت به تعبر عن حبها واستعدادها لتكريس كل وقتها ووجودها لهما.
دار الرعاية.. خطف المؤسسة الماكرة وتوسلات الأم البريئة
من دون مقدمات وبطريقة مخادعة هي أقرب إلى الخطف، تقوم الموظفات بأخذ الطفلين من المنزل، ولم تنفع توسلات الأم المنكوبة لهن، فقد اتُخذ القرار، وبات عليها الخضوع له بالكامل.

بأخذ الأطفال بعيدا عن أنظار والديهما ينتقل السرد الدرامي إلى مستوى آخر، فتشغل قاعات المحاكم والمرافعات القضائية الجزء الأكبر منه، وأيضا تزداد معه جرعة المبالغة التي عرفت بها السينما الهندية التقليدية، وهي تميل إلى التراجيدي والبكائي، وإلى التقسيم الحاد والصارخ بين الشر والخير.
يظهر هذا جليا في رسم الشخصيات النرويجية التي تبدو أقرب إلى الكاريكاتورية منها إلى شخصيات واقعية، كان ينبغي العمل على نقلها بمحمولاتها الثقافية، وعرض رؤيتها للآخر بدلا من تقديمها كنماذج جاهزة تجسد المعادلة الدرامية التقليدية “المكر مقابل البراءة”.
إهمال الأم.. شكاوى تلغي فرحة قرار المحكمة
ظاهرا تبدو خطوة نقل الأطفال من منزلهم إلى رعاية فيلفريد إجراء وظيفيا وقانونيا سليما، لكن في باطنه كان يخفي تشابكا خطيرا بين المؤسسات الحكومية الرسمية، وبين موظفين لهم مصلحة في نقل أكبر عدد من الأطفال تحت رعايتهم، من أجل الاستحواذ على القسم الأكبر من الموارد المالية المخصصة لهم.
إعفاء المحامي المكلف من قبل المؤسسات الاجتماعية للدفاع عن العائلة يكشف جانبا من ذلك التشابك، فبعد مرافعات مقنعة أمام مسؤولي الشؤون الاجتماعية النرويجية ركز فيها على أهمية التنوع الثقافي وعدم تناقضه مع فكرة الاندماج؛ تقرر المحكمة إعادة الأطفال لذويهم، بشرط التكيف أكثر مع المجتمع وقوانينه.
لكن القرار لم يأخذ طريقه للتنفيذ، وقد أُبعد المحامي الأول، وأوكلت مهمة الدفاع عن العائلة إلى محام آخر.

يكشف تطور السرد أن إلغاء القرار جاء بفعل تدخل موظفات فيلفريد ثانية في القضية، وهذه المرة بحجة وجود شكاوى أخرى تدّعي إهمال الأم لطفليها، كانت مُقدمة من معلمي الروضة والمدرسة التمهيدية، وعليه ووفق القرار القضائي الجديد سيبقى الأطفال تحت رعاية دار فيلفريد حتى بلوغهم سن الـ18.
غريزة الأم.. صرخة بين زوج انتهازي ومحام غامض
لم تستكن الأم، وظلت تطالب الجهات الرسمية باستعادة أطفالها منهم. هذا الاندفاع الغريزي كان يصاحبه أحيانا سلوك متهور وعصبي، وكان كل ذلك يسجل ضدها، وتستغله الجهات الرسمية لوصمها بصفات شخصية تقلل من سلامة قواها العقلية والنفسية.
توبيخ المحامي البديل “دانييل سينغ” (الممثل جيم سارب) لها، وإحالة فشل عمله في الدفاع عنها وعن عائلتها إلى توترها وعدم قدرتها على التحكم بأعصابها، سيزيد من خلافاتها مع زوجها الذي يظهر طيلة الوقت متخاذلا منحازا للمؤسسات الرسمية ضدها، طمعا منه في الاحتفاظ بعمله والحصول على الجنسية النرويجية، رغم كل ما كانت تعانيه من آلام وعذاب.

وجود المحامي الجديد يمهد لعرض الاختلاطات الحاصلة في المواقف والمصالح، فرغم كونه هندي الأصل، فإن سلوكه يبدو منحازا إلى مؤسسات الرعاية الخاصة بالأطفال والمستفيدة من زيادة أعدادهم، وفي الوقت نفسه يبدو في داخله متفهما لسلوك الأم الغريزي، وتشبثها في حق استعادة أطفالها.
هذا التردد بين الموقفين ينقل الفيلم إلى منطقة درامية أخرى تزيد تعقيد قصته وتوسع آفاقها.
تهريب الأطفال إلى السويد.. فشل يزيد الطين بلة
يُوصل الأمَّ بحثُها المستمر عن مكان ولديها إلى وجودهم في منزل خاص لا يستوفي شروط رعاية الطفل في مقاساتها النرويجية، مما يدلل على تلاعب موظفي الرعاية بالقوانين التي يتعكزون عليها في عملهم، وتعاملهم مع العوائل الأجنبية.
تقرر الأم في لحظة يأس أن تتسلل إلى البيت وتأخذ ولديها منه وتسافر بهما إلى السويد، وقد نجحت بالدخول إلى مدينة حدودية، لكنها فشلت في بلوغ هدفها النهائي، إثر وصول تبليغات من الشرطة النرويجية إلى السويد تفيد بخطفها لأولادها.
ورغم إلقاء القبض عليها وتسفيرها ثانية إلى النرويج فإنها لم يهدأ روعها، بل ظلت تطالب بحقها في استعادة أولادها، مستغلة كل فرصة مناسبة، مثل تلك التي ظهرت أمامها فجأة بوصول وزيرة هندية إلى أوسلو من أجل توقيع صفقة تجارية كبيرة بين البلدين.
تدخل الهند.. صفقة ذات صبغة انتقامية ومادية
أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقدته الوزيرة الهندية بعد توقيع العقد، تتسلل “ديبيكا” بين الصحفيين، ومن دون السماح لها بالحديث تقف فجأة أمام الزائرة، لتعرض حالتها وتشرح لها كيف تعاملت الجهات النرويجية باستخفاف معها ومع ثقافتها.
رد فعل الوزيرة جاء سريعا حال عودتها إلى الهند، فقد طالبت بمفاتحة الجهات النرويجية لاستعادة الأطفال، بوصفهم مواطنين من أصول هندية، مما أفضى إلى صفقة تغادر بموجبها الأم مع أطفالها إلى موطنها. ومع هذا فإن القضية لم تنته عند هذا الحد، فقد ظهر جانب آخر منها سادته الخديعة، وهذه المرة ستكون الأم هي المتضررة الأكبر فيها.

ينقل الفيلم جانبا من الحكاية له صلة بالمصالح الخاصة للأطراف الفاعلة فيها، فقد أثار موظفو دار رعاية الأطفال ومعهم زوجها مسألة عدم كفاءة الأم ذهنيا ونفسيا قبل أيام من سفرها، فاقترحوا حلا وسطا يمنح الرعاية لعائلة الزوج في مدينة كالكوتا الهندية مؤقتا.
ومن أجل تحقيق غاياتهم يعقد موظفون فاسدون صفقة مع عم الأطفال “أنوارغ تشاترجي”، وحال موافقته عليها سيحصل منهم على مبلغ مغرٍ، بينما يحصلون هم على البقية، باعتبار أن الجهات الرسمية النرويجية مُلزمة بدفع تكاليف رعاية الأطفال.
محاكم الهند.. معركة أخيرة بمساعدة محامية ماهرة
في طريقها لاستلام أطفالها تُصدَم الأم بموقف عائلة الزوج الرافض تسليمها الأطفال، بحجة أحقية العم وحده في رعايتهم، وفق الاتفاق النرويجي.
يدفع هذا الموقف الأم لرفع شكوى رسمية ضد العم، سرعان ما تصل إلى المحاكم الهندية للبت فيها، ومعها ينتقل السرد الروائي إلى أجواء القضاء الذي سيشهد صراعا قانونيا ينتهي في مصلحة الأم، بعد أن أقنعت المحكمة بمساعدة محامية ماهرة بعدالة قضيتها، وحقها الطبيعي في حضانة أطفالها.

لولا استناد فيلم “السيدة تشاترجي ضد النرويج” على قصة حقيقية لبدا نَصه خياليا لشدة ما مرت به الأم من صعاب، وما قاسته من عذاب من أجل استرداد ما هو حق لها، ولولا إفراطه في المبالغة العاطفية وزيادة جرعة الدراما فيه، لجاء أفضل فنيا بكثير مما هو عليه، ولو ركزت صانعته أكثر على المفاصل الإشكالية، لتحول إلى واحد من الأفلام الروائية الجيدة المستوى المتناولة لمشكلة جدية قائمة في الغرب اليوم، وهي بحاجة إلى دراسة وبحث سينمائيين يسلطان الضوء عليها من منظور موضوعي، تقل فيه الجرعات البكائية والحماسة القومية الزائدة.
وعلى المستوى الكتابي فإن رسم الشخصيات الغربية بما يقارب واقعها يكتسب معنى أهم بكثير من تقديمها بشكل كاريكاتوري ساذج، يعطل قبوله في الوسط الغربي الذي يوجه له جزء غير قليل من الخطاب الفكري للفيلم.