“حديث النساء”.. الأختية التي أنقذت مستعمرة النساء من الدنس

كانت مستعمرة “مانيتوبا” بعيدة عن أنظار المجتمع بأمريكا الجنوبية، تسكن في الظل تماما، إلى أن استيقظت نساء المستعمرة ذات نهار فوجدن أجسادهن مصابة وملطخة بالأوساخ، وقد هوجمن واعتُدي عليهن جنسيا، لا يعرفن ماذا حدث لهن في الليل، ولا من اعتدى على أجسادهن، فهن لا يتذكرن شيئا ولم يبقَ سوى أجسادهن دليلاً على الجرم الواقع عليهن.
لم تكن حادثة فردية بل اعتداءات ممنهجة من رجال يقتحمون المستعمرة ويخدرون البيوت وطعام النساء ليسهل الاعتداء عليهن في الليل. وصل عدد الضحايا إلى ما يزيد عن مئة امرأة من أعمار مختلفة، من الطفولة وحتى سن الستين. تلك الحادثة لم تكن في القرون الوسطى أو قبل مئات من السنين، بل في صيف عام 2009.
“مانيتوبا”.. مس شيطاني يصيب طائفة دينية بدائية
تنتمي “مانيتوبا” إلى طائفة المينونايت المسيحية البروتستانتية التي أسسها القس “مينو سيمونز” في سويسرا في القرن السادس عشر، بنت”المينونايت” أفكارها وقوام عقيدتها على العزلة التامة عن العالم والعيش البدائي، فالمهن اليدوية والحرفية هي مصدر الدخل والعيش، والاهتمام بالتعليم محدود وقاصر على الرجال دون النساء، في عالم أحادي كهذا يمكننا أن نتلمس طبيعة الأفكار الإنسانية والاجتماعية والجنسية التي تحكمه، والعقيدة المسيحية المتشددة هي القانون والعرف في الأرض والمفتاح الذي يقود إلى فردوس السماء.
عام 2018 صدرت رواية “حديث النساء” للكاتبة الكندية “ميريام تيفز”، وهي مستوحاة من الحكاية الواقعية التي حدثت في مستعمرة “مانيتوبا”، والفيلم مقتبس من الرواية، ويمتلئ بأحاديث نسائية متصلة بين بطلات الفيلم من نساء المستعمرة، وقد حصل على جائزة أوسكار عن فئة أفضل سيناريو مقتبس.
يبدأ الفيلم من اللحظة التي تقرر فيها النساء أن يشكلن دائرة حماية، ليتحدثن ويتشاركن الأفكار من العقل والقلب، لينجين بأنفسهن من هذا التهديد المتلاحق، وقد وضعن خيارات ثلاثة وصوتن عليها: إما السكوت، أو البقاء في المستعمرة ومقاتلة الرجال، أو مغادرة المستعمرة في سلام دون رجعة.
اختار الفيلم أن يمنح النساء صوتا، أن ينتصر لهن في الواقع الدرامي، لأنهن في الحقيقة لم يأخذن موقفا بالمواجهة أو القتال ولم يخرج لهن صوت. قبضت الشرطة على الرجال المعتدين وحوكموا، لكن البعض في المستعمرة لا يزال مستسلمًا لأكذوبة تبرر أن ما حدث ليس اعتداءات من الرجال، بل مجرد مس شيطاني.
“لا مبرر لأي عنف”.. إيمان في القلوب وندوب على الأجساد
يرفض الفيلم خرافات المس الشيطاني، يفكك مفردة النجاة، فالهروب من المستعمرة مختلف عن مغادرتها، الهروب ضعف، والمغادرة قوة ونجاة. ينتصر الفيلم للمغادرة في سلام لا القتال لأن “الخير يكمن في ما يدعو إلى السلم، ولا مبرر لأي عنف” كما تقول إحدى شخصيات الفيلم، وهذه هي العقيدة الروحانية التي تحرك النساء في المستعمرة، العنف لا يقابل بعنف، بل بالسلام وترك الأذى دون رجوع.
تصف المخرجة “سالي بولي” فيلمها قائلة: “الفيلم عن هدم عالم وصنع فأس”. يبدو الهروب سهلا والانسلاخ عن الرجال أمرًا يسيرًا على نساء المدينة المتعلمات المثقفات اللواتي سيبحثن عن حياة موازية بعيدًا عن تلك السلطوية، لكن واقع نساء المستعمرة ليس كما نظن، فهن لا يعرفن شيئا عن حدود الحياة خارج المستعمرة، لا يملكن خريطة، لا يقرأن ولا يكتبن، لا يعرفن كيف يعشن بعيدا عن سطوة الرجال.
لكنهن يملكن إيمانا في قلوبهن ويحملن ندوبا وجروحا كالخرائط على أجسادهن، نضالهن النجاة بحياتهن وأجسادهن التي استنزفت في اغتصابات وأطفال جاؤوا من رحم تلك الاعتداءات، والأهم أن ما يفعلنه ينطوي على مخاطرة كبرى قد تغضب تعاليم الرب الذي لم يلقنهن سوى الطاعة والمغفرة.

“نغادر لأن رابطة عقيدتنا أوثق من رابطة القوانين”
يحسم الفيلم في البداية أن الاستسلام لخرافة المس الشيطاني والرضا بالواقع ليس خيارا محل نقاش، فانقسمت رغبة أغلبية النساء بين المغادرة أو مواجهة الرجال وقتالهم، تلك هي المحادثة الممتدة على مدار زمن الفيلم، وهو يوم بأكمله من النهار إلى الليل، ليصلن إلى حل حاسم في اليوم التالي. وكأننا أمام مسرحية من ثلاثة فصول، المكان لا يتغير، والزمان محكوم، والتصاعد الدرامي ينجرف بين الكفتين “قتال أو مغادرة”.
ينتمي “حديث النساء” إلى الأفلام الحوارية بامتياز، بناء مسرحي، كُتب من مخيلة جمعية أنثوية، كما ذكر في مقدمة الفيلم، فنحن إذن في سياق درامي يخط سطورا لأفكار وأصوات نسوية تشارك في التفكير الجمعي، تجعل النساء يقررن، لا أن يقرر لهن، وكأننا على الطاولة التي يكتب عليها السيناريو لا التي يمثلونها في موقع التصوير، نشارك في كتابة النص بصوت مسموع.
في المنتصف تتبدل الأدوار، تختلط الأفكار، وتتجلى التناقضات أيضا، بعض النساء يتحملنها والبعض يغضبن منها، لكن النساء الكبيرات في السن يمسكن أطراف الحديث ليعدن من جديد إلى أن التسامح هو الذي يقود، لا الغضب. “لن تكون مغادرتنا عملا جبانا أو تنازلا، بل ستكون أرفع فعل عقائدي، وخطوة نحو المحبة والتسامح. في مغادرتنا إثبات لعقيدتنا، إننا نغادر لأن رابطة عقيدتنا أوثق من رابطة القوانين، وأكبر من حياتنا.
اعتذارات الأجيال.. صوت مفتقد في مجتمع صامت
في واحد من مشاهد الفيلم يحتدم الجدال بين شخصيتي “جيسي باكلي” و”روني مارا”، فتصفها “روني” بتخاذلها وعدم تصديها لاعتداءات زوجها، فكيف تطالبهن الآن بقتال الرجال؟ فتعترض شخصية “جيسي باكلي” على كلماتها، ثم تصفها بالعاهرة، لأنها حملت سفاحا من واحد من هؤلاء المغتصبين.
تقول المخرجة “سالي بولي” إن المشهد حدثت فيه ارتجالات لم تكن مكتوبة في السيناريو، والارتجالات كانت في سياق الاعتذارات، فالأم تعتذر لابنتها أنها علمتها أن تسكت وتغفر لزوجها اعتداءه عليها، والبنت تعتذر بعد أن فهمت الغضب الذي تحمله أمها المعنفة.
هذه الاعتذارات بين الأجيال هي الصوت الذي تفتقده النساء في الواقع اللواتي تربين على الصمت والسكوت عن الأذى، وكأن الحديث والمواجهة عقاب لا يرضى عنه الرجال ولا يغفره الرب. لكن هل دائرة الحماية التي تحتمي فيها النساء ببعضهن تشكل غضبا إلهيا في عقيدتهن الدينية المتشددة؟
“لا رئيسة فيها ولا مرؤوسة”.. حركة أثارت تخوفات الكنيسة
في كتابتها عن الأختية تقول الكاتبة الفرنسية ذات الأصول اللبنانية “كلوي ديلوم” إن جذور الأختية تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي وهي “جماعة نسائية دينية، تجمع عضواتها روابط قوية، لا رئيسة فيها ولا مرؤوسة، فقط أختيّة صافية”[1].
وقد أثارت الأختية تخوفات الكنيسة، فأي محاولة لاستقلال النساء الفكري أو الجسدي أو المادي وانضمامهن إلى عصبة ورابطة ينطوي على اللعب أمام فوهة النار التي قد تحاصر النظام الأبوي وتهدد قوامه. تمامًا كما تثير النسوية الآن تحفظات البعض وغضب الكثيرين.
تلك الأختية التي لا رئيسة فيها ولا مرئوسة، لها مقابل بصري في فيلم حديث النساء، يتجسد في مشاهد عدة، ربما اللافت منها المشهد الذي تغسل فيه النساء الكبيرات أقدام الفتيات الصغيرات بالمياه بعد يوم عمل طويل، وتقول البطلة راوية الفيلم: أخبرتنا جدتكم “أغاتا” أنه يجب علينا تكريم خدمتنا لبعضنا، مثلما غسّل يسوع أتباعه في العشاء الأخير.
“هدم عالم وبناء فأس”.. غطاء معاكس للأبوية الحاكمة
في المشهد السابق، وكأغلب مشاهد الفيلم، ما من تراتبية بين النساء، ما من طرف يحكم ويقود، ولا أفضلية لواحدة على أخرى، الكل في حالة تساوٍ، ألم مشترك، تعافٍ جماعي، أمومة واحدة، أجساد أنثوية تحمل الجروح ذاتها والمستقبل المشترك عينه. ما يسري على واحدة يسري على البقية.
إلى جانب الأختية فإن الأمومية هي الغطاء الحاكم لعالم الفيلم، كغطاء معاكس للأبوية الحاكمة، ما من سلطة هنا، بل مساحة متساوية من المشاعر الأنثوية الرائعة.

ينتهي الفيلم إلى القناعة بأن المغادرة هي الحل السلمي الملائم، هي النجاة بأقل خسائر ممكنة؛ تأمل هذا الاختيار الدرامي يعيدنا إلى مقولة مخرجة الفيلم عن “هدم عالم وبناء فأس”، هذا هو الخيار النسوي إذن، لن نخلف الحرائق في أرضنا، ثمة أراضٍ كثيرة يمكننا الارتحال لها والبدء من جديد.
حاجة النساء للنساء.. مجتمع يتطلع إلى أرض ميلاد جديدة
يطرح فيلم “حديث النساء” صوت النساء على طاولة النقاش في القضايا التي تخصهن، لأن النساء يجاهدن منذ سنوات للمطالبة بقوانين لحفظ حقوقهن، والامتثال إلى مجتمع متوافق وعادل بين الجنسين، في الأغلب يسلب منهن صوتهن، بل يتوهمن أحيانًا أنهن فاعلات بأصواتهن الخفيضة.
يسرد لنا الفيلم واقعة من الماضي بينما صوت الراوية يحكي لنا من المستقبل، في إشارة ضمنية أن المستقبل كان أفضل لهؤلاء النسوة بطلات الفيلم الناجيات، لأنهن غادرن المستعمرة.
ما تحتاجه النساء هو الاستماع إلى تلك الأصوات المستقبلية التي تسري في تيار من التعاطف المحب الذي يطوي الماضي لا يدمره، لكنه يتطلع إلى أرض ميلاد جديدة، قوامها الدعم الكامل من النساء للنساء. لعل هذه الأصوات تنقذ مجتمعات مغلقة من إساءات لا نعلم عنها شيئا، قد لا تحتاج المرأة رجلا مخلصا، بل امرأة مثلها معنفة ومخلّصة.
[1] في البحث عن أختية ما
https://aljumhuriya.net/ar/2022/11/18/%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%ad%d8%ab-%d8%b9%d9%86-%d8%a3%d8%ae%d8%aa%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d9%85%d8%a7/