“تولياتي الهائمة”.. أحلام ثلاثة شبان روس على أنقاض مدينة محتضرة

خلال سنوات طويلة ظلت مدينة تولياتي الروسية رافدا رئيسيا في صناعة السيارات، وذلك في أعقاب إنشاء مصنع “أوتوفاز” في عام 1968، أثناء فترة المد الاشتراكي والصراع مع القوى الرأسمالية الغربية، حينها انطلقت النسخ الأولى من سيارات “لادا” الشهيرة بالتعاون مع شركة “فيات” الإيطالية، فقد بدت هذه المدينة كخلية صناعية لا يكاد أزيز محركاتها يتوقف عن الطنين. تُرى هل استمرت هذه المدينة في مسيرتها الصناعية، أم أن غبار الزمن أصابها بالوهن؟

يُجيب التاريخ على هذه التساؤلات، فقد صمدت الشركة العتيقة ردحا من الزمن، وقاومت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بدايات التسعينيات حتى عام 1998، عندما بدأت المبيعات في التراجع عن الهامش المتوقع، وصولا لهيمنة شركة “رينو” الفرنسية عليها.

تلك المُقدمة السابقة تبدو أساسية للوصول لمفتاح الفيلم الوثائقي الإسباني الفرنسي الروسي المشترك “تولياتي الهائمة” (Tolyatti Adrift) الذي أنتج عام 2022، وكتبت له السيناريو وأخرجته “لورا سيستيرو”، وهو أول أفلامها الوثائقية الطويلة بعد رحلة طويلة من العمل في مجال الفنون البصرية والتصوير الفوتوغرافي والإنتاج السينمائي، فقد أخرجت للسينما حوالي ثلاثة أفلام قصيرة تنوعت موضوعاتها، فنحن أمام مخرجة تبحث عن ما يستدعي التأمل والتفكير، وعندها تنطلق الكاميرا في التعبير عن ما يؤرقها من هموم وأفكار.

ولا يوجد ما هو أعمق من قضايا الشباب وتحقيق الذات للبوح بها، وفي هذا الإطار يبدو الفيلم مهموما بما يدور في عقول الشباب الروسي من أحلام وأفكار تسعى للوصول لمرفأها الآمن، وفي مقابل هذه الأحلام، تقف صخور الواقع والمجتمع صلدة مُتحجرة أمام تحقيق ما يسعون إليه من حقوق مشروعة، هكذا يقتحم الفيلم عالما مُغايرا في مجتمع يوصف بالانغلاق تجاه كل ما هو بعيد عن قوميتهم الزاعقة، وهنا تكمن أهمية الفيلم في الوصول إلى غير ما هو مألوف، وقدرته على التماس مع المتفرج في ذات الآن.

أبطال الفيلم.. شذرات من ثلاث قصص متشابكة

تُتابع الكاميرا على مدار سبعين دقيقة (مدة عرض الفيلم) حياة ثلاثة أشخاص ينتمون جميعا لفئة عمرية واحدة تقريبا، وهي ما قبل العشرين أو بدايات العشرينيات على أقصى تقدير، شابان وفتاة يجمع بينهم هم واحد، ألا وهو الرغبة في تحقيق أحلامهم التي أوشكت على الجفاف.

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه أحد هؤلاء الشباب وهو يفحص التربة الثلجية بإحدى المناطق قرب الغابات، ثم يُباغته أحد السكان بالسؤال عن ما يفعله، ليأتي جواب الشاب بأنه يرغب في تجربة قيادة سيارته على هذه الأرض الرطبة المُعرضة للسقوط بفعل الكتل الثلجية، ويستمر الحوار بينهما، إلى أن نصل للمشهد الأبرز والمتكرر على مدار الفيلم، والذي يكشف عن تجمع عدد لا بأس به من الشباب بسياراتهم في هذه البقعة المنحدرة أثناء ممارستهم للتسابق بينهم، في إشارة ضمنية للجموح والطموح المُتأجج داخلهم، والتوق للحرية والانطلاق.

ثم ننتقل للمشهد التالي مع شاب آخر وهو يُلقي محاضرة في إحدى المدارس الثانوية عن تجربة سفره للخارج، وتدربه في إحدى مصانع السيارات السويسرية، تتدفق الأسئلة تجاهه وهو يُجيب عليها بحماس، بعدها ننتقل للمشهد الثالث، فنرى فتاة تستيقظ من النوم على هاتف صديقها الذي يؤدي الخدمة العسكرية.

الشباب يتابعون حريق سيارة لادا تعبيرا عن حريتهم

هكذا يستمر السرد مُعتمدا على تقديم شذرة من هذه القصة مع أخرى من تلك، حتى تكتمل قصص الأبطال الثلاثة، نُتابع حياتهم اليومية على مدار عام، تصاحبهم الكاميرا وترافقهم، كأنها عين أخرى نطل من خلالها على حيواتهم وأحلامهم، حتى تجتمع الحكايات سويا في مصفوفة واحدة، وكأنها قطعة فسيفساء، كلما توغلنا في السرد أوشك الشكل العام على الاكتمال، في لجوء لتقنيات السينما الروائية، حيث الارتكاز على العناصر الثلاثة (البداية والوسط والنهاية)، وبالتالي تخلق الأحداث سردا دراميا مُكتمل الأركان، يُفصح عن ما خفي من رغباتهم الممزوجة بالمعاناة.

تولياتي.. أطلال المدينة التي تطرد أبناءها

يبحث الشاب الأول عن إحدى الجامعات المرموقة في الخارج، حتى يتسنى له استكمال دراسته في علوم ميكانيكا السيارات، تُخبره أمه أنها تحب تولياتي، وترجوه أن لا ينسى أن تاريخ عائلته بدأ من هذه المدينة، وعندما تسعى البطلة الثالثة الفتاة العشرينية للبحث عن فرصة للدراسة، تطلب منها أمها أن تبحث عن فرصة خارج الحدود، وفي مشهد آخر نرى أحد الشباب عائدا من العاصمة الروسية موسكو، والانبهار يعلو ملامح وجهه أثناء انسيابه في رواية تفاصيل زيارته السريعة لتلك المدينة البعيدة فكرا ومسافة.

هكذا يُبطن السرد بنبرة خافتة قوامها أن تولياتي لا تملك من الفرص ما يكفي لشبابها، لذا فإن عليهم البحث عن انطلاقة جديدة من مكان آخر. تتحرك الكاميرا في أرجاء المدينة كاشفة عن فراغ مُريب في الشوارع والأحياء، مما يشي بتفشي جو مُقبض في الأجواء، تُرى هل هي ذات المدينة التي شهدت طفرات اقتصادية وصناعية في القرن الماضي؟

أثناء حضور البطل الأول محاضرة تكريمه بعد عودته من بعثه الدراسية في أوروبا، يكشف عن اختلاف الوضع العام في بلاده عن الغرب، فأسلوب العمل يختلف، والتطور في الخارج ملحوظ، أما الوضع في الداخل فمُعقد، ونظم التعليم تتسم بالتخلف عن مثيلاتها الغربية، هذا ما يقوله الطالب بحرية وجرأة تخفي بين سطورها نقدا لاذعا للسياسة والسلطة الروسية التي يظهر رئيسها الحالي “فلاديمير بوتين” في وسائل الإعلام، وتقتنص الكاميرا مشاهده وهو يُهنئ الشعب الروسي بحلول العام الميلادي الجديد، مُتعهدا بالعمل الأكثر دأبا لتحقيق المرجو من النظام الحاكم تجاه الشعب.

الشاب الأول يتحدث عن تجربة سفره إلى سويسرا وإحساسه بالحرية

طوال مدة الفيلم نشعر برفض هؤلاء الشباب ليس لواقعهم فحسب، بل للبيئة المحيطة، للمدينة ذاتها التي يبدو مستقبلها في ماضيها، فاليوم يختلف عن الحاضر، وكأن المدينة تعيش على أرواح أبنائها التي تتآكل دوريا، بفعل ندرة فرص الترقي والحياة اللائقة.

بين الماضي والحاضر.. صراع الأجيال على أحلام مكبوتة

ينسج الفيلم سرديته الخاصة ويُقدمها عبر تضمين الحكاية ذاتها مقارنةً دائمة، بين الزمن الحاضر الذي يقبع فيه هؤلاء الشباب بأحلامهم المكبوتة، وبين الزمن الماضي الذي شهد بدايات ازدهار المدينة وبزوغ تقدمها الاقتصادي، فكلما بادر أحدهم بالتعبير عن رغبته في المغادرة، يطفو على السطح رأي الآباء والأمهات نحو الوضع العام في العقود السابقة، وكيف أن هذا الزمن الفائت كانت الحياة فيه تتسم بالراحة والسلاسة، في تعبير خفي عن اختلاف الأجيال وتصارعها الدائم.

والمتفرج لا يرى هذا الزمن الماضي إلا عبر شقين، الأول عندما يلجأ السيناريو إلى المشاهد الأرشيفية عن مصانع السيارات المُنشأة حديثا على ضفاف نهر الفولغا، ومشاهد المدينة وقد سيطر عليها الزحام، وحركة السكان والعمال تتداول في الشوارع، مما يُضفي حيوية على الأمكنة. ورغم أن هذه المشاهد لا يتعدى زمنها على الشاشة دقائق معدودة، فإنها كافية لبيان الفرق بين هذا الزمن وذاك، والشق الثاني يتعلق بحكايات الآباء والأجداد عن زمنهم، زمن الفرص الملقاة في انتظار من ينتشلها.

هكذا يعيش الشباب في هذه المدينة مُحاصرا بين أطلال الماضي وطغيان الحاضر، فقد عبّرت الكاميرا عن زمنهم الحالي بحرفية، حيث الشوارع الخالية والمصانع المُهدمة، والسيارات القديمة المتهالكة المكوّمة فوق بعضها، وكأنها مقبرة لزمن ولّى بكل ما فيه من سطوة وقوة، فالمدينة نفسها خاوية على عروشها، لتبدو وكأنها لا تزال تعيش بين أمجاد الماضي، حيث التطور الاقتصادي في أيام ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وأبرز ما بقي من هذه المرحلة سيارة لادا التي يقتنيها الشباب، لكن أين اندثرت مظاهر التقدم والزهو الاقتصادي؟

السيارات القديمة المكومة مع بعضها البعض كالأموات

يكشف الفيلم عن الإحساس الطاغي بالخيبة والهزيمة لدى هؤلاء الشباب، فكلما سعوا للفرار من مصائرهم تمسكت بهم الأرض في تناسب طردي ينعكس على رغباتهم، فالحياة في تولياتي يحفها الماضي من ناحية، والمستقبل المجهول من ناحية أخرى.

يوميات الشباب.. كفاح في مجتمع لا مناص من أسره

يُعبر الفيلم عن قضيته وأفكاره عبر سرد قصص ثلاثة نماذج من الشباب الروسي، وتدعيما لهذه الفكرة، ومن مبدأ أن الحكي يمس قضية عامة وإنسانية فإن الفيلم لا يذكر أسماء الشخصيات، فلا نكاد نعرف من هم على وجه الدقة، صحيح أنهم يتناوبون على الكاميرا التي تُسجل تفاصيل حياتهم اليومية بصورة دقيقة، لكننا لا نعرف سوى سماتهم الشكلية وأسلوب ونمط حيواتهم، والأهم هو أحلامهم التي يُطلعنا عليها الفيلم، فالمعني هنا هو هذه الأحلام، وكيفية الوصول إليها وتحقيقها، وبالتالي لا تبدو الأسماء جديرة بالاهتمام، لأن هؤلاء الشباب ما هم إلا رمز ودلالة لشريحة الشباب من هذه الفئة العمرية.

لكل شخصية من الشخصيات الثلاث حياتها الخاصة التي تتقاطع مع الشخصيات الأخرى، ولكل شخصية قوس حياتها الذي ينفتح مع بداية الأحداث وينغلق بعد ذلك، بما تحقق في حياتهم التي يرصدها الفيلم، فالشخصية الأولى تسعى للعمل بالخارج واستكمال دراسة هندسة السيارات، ونُتابعها يوما بعد يوم أثناء البحث الدؤوب عن فرصة لائقة للعمل، ووصولا للعمل في أحد مصانع السيارات، وترافقه الكاميرا في اختبارات القبول وأثناء مراسم استلام العمل الذي يبدو وكأنه استكمالا لحياته السابقة، فلا شيء من أحلامه تحقق، سواء الدراسة أو العمل بالخارج.

أما الشاب الآخر، فلا يُدرك ما يريده على وجه التحديد، كل ما يرغب فيه هو ترك المدينة والهرب من أداء الخدمة العسكرية، لذا نراه أثناء مراحل الكشف الطبي يبحث عن علة ما تُعيق التحاقه بالواجب الوطني، ونصل للذروة، عندما تقتنص الكاميرا مشاهده وهو مُقبل ويستعد للحياة الجديدة، بعد قبوله جنديا في الجيش الروسي.

مصنع أوتوفاز للسيارات قديماً أثناء فترة المد الاشتراكي

وعلى الناحية الأخرى، نُشاهد الفتاة في بحثها عن جامعة مرموقة لدراسة الإدارة، سعيا للوصول لمنصب مدير المطعم الذي تعمل به، لكن أحلامها تصطدم بالواقع، وتُقبل في جامعة محلية، فالجميع يسعى للهرب، بينما الشِباك مُحكمة جيدا، فصراع الشباب هنا ليس ضد حياتهم القاسية، بقدر ما هو ضد الزمن الحالي الذي يكبت حريتهم في الحياة وفق إطار مغاير عن الماضي، ذلك الزمن الذي كلما فروا من أسره، عاد إليهم في ثياب أكثر قسوة.

جدران الماضي.. أمجاد غابرة تحبس الوجدان الروسي

يقول المخرج الروسي “آندريه تاركوفسكي” في معرض حديثه عن الزمن: الزمن والذاكرة يندمجان في بعضهما، إنهما أشبه بوجهي العملة، وواضح تماما أنه بدون الزمن فإن الذاكرة أيضا لا يمكن أن توجد، فالذاكرة مفهوم حي.

وبالنظر إلى فيلمنا نجد أنه يستند على هذه الثنائية المعقدة، الزمن والذاكرة، الزمن الماضي والباقية آثاره، والذاكرة المُدججة بالذكريات والأحداث السابقة، ولكل منها دلالته وقراءته الخاصة.

ومن هنا يملك الفيلم حسا حميميا لا يخلو من شاعرية وعذوبة، لا يُخطئهما حس المتفرج، فالتماسُّ والتقارب مع الشخصيات ومع الأوضاع المُحيطة بهم تخلق اتجاها عاما بالتعاطف اتجاههم، ومن ثم بدا الفيلم طموحا على المستوى الفني بأسلوبه الإخراجي الرفيع المستوى، فلا لقطة زائدة ولا لقطة ناقصة، في تحكم كامل في الإيقاع والمونتاج، مع تقديم صورة شديدة الرهافة والجودة تتناسب مع المضمون والطرح الفكري للفيلم الذي يشتبك مع الواقع العالمي، ويبعث على التفكير والتأمل، وهذا حال السينما الحقيقية.

الآباء والأجداد العاملون القدامي في مصنع السيارات يغنون للمصنع والصناعة الروسية

فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في بدايات التسعينيات اتجهت الأنظار نحو الولايات المتحدة؛ الشق الآخر من الكرة الأرضية، في انتظار بزوغ نظام كوني جديد لا يحكمه سوى قطب أوحد، ومن ثم أصبحت روسيا تعيش بين جدران الماضي، هذا الزمن الذي يُحاصر شخصيات الفيلم وتسعى للفكاك منه، لكنهم في الوقت نفسه يكنون ناحيته تقديرا خفيا، قد لا يُفصحون عنه، لكن سيارة لادا المرافقة للشخصيات ولا تكاد تتركهم طوال الفيلم، تشي بهذا الإحساس، لتبدو هذه السيارة العتيقة في رمزيتها بطلا يُشاركهم ما يكنون به وما يبوحون، وحتى يكتمل عبورهم نحو زمنهم الآني، فإن هذا يستدعي بعض التضحية.

لذا عندما يكتمل قوس حياة الشباب الثلاثة، نراهم في المشهد الأيقوني للفيلم وهم يُشعلون النيران في إحدى سيارات لادا، ويلتفون حولها في بهجة ممزوجة بالخوف، في إشارة لتحررهم من الماضي بكل ما به من ثِقل، واستقبالهم لزمن جديد، بالتأكيد يملك رمزيته وقوته، لكن البحث لا يزال جاريا، تُرى هل سيعثر هؤلاء الشباب يوما ما على حلمهم؟ أم أن سطوة الواقع ستكبل حريتهم؟


إعلان