“تلك الظهيرة”.. لاجئة إيرانية تُسدّ في وجهها الأبواب في فردوس أمستردام
لا تهدف المخرجة الهولندية “نفيس نيّا” المنحدرة من أصول إيرانية لأن تروي قصة تقليدية محبوكة، فرغم مراهنتها على الخطاب البصري وجمالية الصورة السينمائية، فإنها تسعى للتعاطي مع الموضوع الرئيسي بطريقة سردية مختلفة لا تخلو من الحِرفية العالية والمعالجة المُغايرة والإبداع الرصين.
ولكي نمهّد للقارئ الإحاطة بمتن القصة السينمائية أو رسم هيكلها المعماري، لا بد لنا من تلخيص هذه القصة التي تدور أحداثها حول “رويا” اللاجئة الإيرانية الشابة التي استنفدت جميع السُبل القانونية لكي تحصل على حق اللجوء في هولندا، لكن دائرة الهجرة واللجوء ترفض طلبها، وتقرر ترحيلها إلى إيران، فتهرب من مركز طالبي اللجوء في أمستردام.
حينها تجد نفسها مضطرة للجوء إلى شخص إيراني يدعى “نسيم” عُرف بتقديم المساعدة والملاذ الآمن للاجئين الإيرانيين المرفوضين، فتخرج ورقة مطوية فيها عنوانه، وتلتجئ إليه، لكنه يدّعي أنه غير قادر على فتح الباب.
على هذا المنوال المتذبذب بين مواضيع الهجرة والاغتراب في الفردوس المزعوم، تدور أحداث قصة الفيلم “تلك الظهيرة” (That Afternoon)، وهو من إخراج “نفيس نيّا”، وهي نفسها كاتبة السيناريو أيضا.
نبش الماضي.. لاجئان من نفس الجحيم الإيراني
لم يكن لدى “رويا” مكان آخر تذهب إليه بعد أن تلقت أمر الترحيل، لذا فقد صمّمت على البقاء في الرواق المقابل لباب شقة “نسيم” بصبر كبير يفوق صبر الجبال الراسخة التي لا تتزحزح عن مكانها، ثم بدأت بإثارة أسئلة بريئة ومتواضعة، لكنها تضرب في الصميم.
يتطور هذا الحوار إلى نبش في ماضيهما كلاجئَين اضطرتهما الظروف التي يُفترض أن تكون سياسية أو اقتصادية أو ثقافية في أضعف الأحوال للهروب من قمع السلطات الإيرانية، وطلب اللجوء في الفردوس الهولندي الذي يقدّم لأبنائه واللاجئين إليه أنهارا من اللبن والعسل.
يقف الباب المقفل حاجزا بين الاثنين، لكنه لا يُعيق الحوار والتواصل بين الطرفين المُتناقضين اللذين يضطران للبوح بكل ما يدور في ذهنيهما المُتوقدين، وذاكرتيهما القويتين اللتين لم يتسرّب إليهما النسيان بعد.
“هاتان الشخصيتان كلتاهما أنا”
رغم أن هذه القصة هي قصة آلاف الناس الذين يعيشون خارج أوطانهم الطاردة لأبنائهم بشكل أو بآخر، فإن المخرجة “نفيس نيّا” تعترف بأن هذه القصة بالذات هي قصتها الشخصية، وتقول بالحرف الواحد: هاتان الشخصيتان “رويا” و”نسيم” كلتاهما أنا، لقد اختبرت خوف وأمل ورغبة “رويا”، وكذلك اليأس والظلام وخيبات أمل “نسيم”.
وهي تعتبرهما مصدر إلهام لفيلمها الروائي الذي يحمل عنوان “تلك الظهيرة”، فكليهما يبحث عن مَخرج، ويمكن أن يجد أحدهما خلاصهُ في الآخر رغم وجود الحاجز والباب المُقفل، وما تريده المخرجة هو أن تروي قصتين في آن معا، من دون أن تقدّم هيكلا لقصة درامية واحدة لا تخرج عن أطرها التقليدية المتعارف عليها.
وأكثر من ذلك فالمخرجة تتلاقح ميتاسرديا مع حادثة حقيقية مروّعة، حيث أقدَم مواطن إيراني على إحراق نفسه في ساحة “الدام” الشهيرة بوسط أمستردام، لأنه لم يُمنح حق اللجوء في البلد الذي يتمنّاه ويحلم به، ويعتبره أيقونة للحرية والديمقراطية والرفاه الاقتصادي.
“بيتنا في الجانب الآخر من النهر”.. أحاديث اللاجئين
قبل الخوض في تفاصيل الحوار الذي سيدور بين “رويا” و”نسيم”، لا بد من الإشارة إلى أن “نسيم” اسم عربي يُستعمل في الفارسية لكلا الجنسين، وقد لعبت المخرجة على هذا الاسم الذي يمكن أن يكون لـ”نسيم” نفسه؛ المصور الفوتوغرافي الذي يساعد اللاجئين المرفوضين، أو هو اسم لشقيقته التي خرجت من المنزل وأغلقت الباب، وأخذت معها المفتاح لتتركه رهين الشقة التي أصبحت جزءا من مسرح الأحداث.
ثمة شخصية أخرى نسمع بها ولا نراها وهي شخصية “شيرين” التي كانت تسكن مع “رويا بوريان” في غرفة واحدة، وهي التي زوّدتها بعنوان نسيم الذي بدا لنا محبوسا بشقّته على حد زعمه.
تبدأ المحادثة من خلف الباب بالسؤال عن “نسيم” التي تحتاجها في مسألة شخصية، لكنها خرجت ولن تعود إلا في وقت متأخر، وحينما تُسأل عن هُوية المتحدث يقول إنه أخوها، فيُوقع المتلقي في لعبة انشطار الشخصية.
وبما أنها لاجئة جديدة، فلا بد أن تكون لغتها الهولندية ضعيفة، ولا تستطيع التعبير عن نفسها بسهولة، فتطلب منه الحديث باللغة الفارسية. تحاول أن تشعل سيجارة، لكنه يخبرها بأن التدخين ممنوع في البناية، فهو يراها بواسطة شاشة الزوار التي تُتيح له الرؤية والتكلم في آن معا.
يتوسع النقاش حينما يراها تقرأ في قاموس يتيح لها تعلّم اللغة الهولندية بشكل أفضل، حيث يمكن اشتقاق عدة أفعال من كلمة واحدة. لا شك في أن الحوار مدروس بعناية، فعندما تسأله إن كان يتحدث الفارسية أحيانا أم الهولندية بشكل دائم، فهي تقصد بأن اللغة الأم تذكِّره بالماضي، وتستحضر ذكرياته البعيدة التي يظن أنها تلاشت أو اختبأت في مكان ما.
ومن بين الأشياء الطريفة أنه يسألها عن الكلمة الهولندية الأولى التي تعلّمتها، فتخبره بأنها “وداعا” (Tot ziens)، ثم تسأله هي عن الكلمة الأصعب التي تعلمها، فيقول بأنها “دبلجة الأفلام” (Nasynchronisatie) التي تعني “دبلجة الأفلام”، ومن الواضح أن ذكاء نسيم هو الذي جعله يتكلّم اللغة الهولندية بشكل جيد، بينما تجد “رويا” أن ضمائر المذكّر والمؤنث هي الموضوع الأصعب بالنسبة إليها، وأن كلمتها الهولندية المفضلة هي “مع ذلك” (Desalniettemin).
تورد المخرجة كلمات أغنية جميلة ومعبرة لها علاقة وطيدة بقصة الفيلم تقول “بيتنا بعيد، بعيد جدا، وراء الجبال الصابرة، خلف الحقول الذهبية، وراء الصحراء الخالية، بيتنا في الجانب الآخر من النهر، وراء الأمواج المضطربة”.
شخوص البناية.. رمزية عابرة بين ثنايا النص
تقوم “شيرين” بتحذير “رويا” من أن الشرطة تبحث عنها في كل مكان، وتنصحها بأن لا ترد على أي مكالمة هاتفية، وفي داخل الشقة نرى “نسيم” وهو يعنون رسائله بطريقة مريبة توحي بأنه مُقْدِم على أمر جلل، حيث يكتب على ثلاثة ظروف “إلى عائلتي”، “إلى أصدقائي”، “إلى أي أحد يجدني”.
تطلب “رويا” منه أن تدخل وتنتظر “نسيم” حتى تعود فينفعل مُجددا، ويدعّي بأنه محبوس داخل الشقة لأن “نسيم” أخذت المفاتيح معها، ولعلها موجودة في العمل أو في مكان آخر، وحينما ترجوه أن يتصل بها يتذرع بأنه لا يمتلك هاتفا نقالا، ثم تلتمسه أن يعطيها رقمها وهي تتصل بها، فيقول إنه لا يستطيع أن يعطي رقمها لأي شخص، وبينما يتصاعد النقاش كان “نسيم” ينشغل بحاجياته، ويطلب منها ألا تضيّع وقتهما معا.
تصادف “رويا” في البناية ستة أشخاص، منهم الطفلة التي كانت تعدّ من واحد إلى عشرة لأنها تعتقد أنّ من يعدّ من 1-10 عشر مرات فستأتي أمه. وثمة رجل يتطلع إليها بفضول، وفتاة شابة سألتها “رويا” عن عنوان “نسيم”، فأكدت لها بأنه شاب إيراني يقيم في نفس الشقة التي تجلس بقربها، وأنها واثقة من ذلك، الأمر الذي يكشف لنا بأنه رجل وحيد، وليست لديه أخت تسكن معه.
وهناك اثنان من الشرطة يبحثان في البناية عن شخص ما، ثم تصل والدة الطفلة التي تنتظر مجيء أمها. وعبر هذه الحوارية نعرف بأن حصوله على رخصة السكن قد استغرق سبع سنوات، وطوال هذه المدة كان يتعلّم اللغة، ثم التحق بالجامعة، لكنه لا يزال منتظرا لشيء ما، ومع ذلك فإنها تحثّه على مساعدة اللاجئين المرفوضين، لكنه بدأ يشعر باليأس والإحباط، وحينما تلحّ عليه يخبرها بأن دحرجة الحجر لأعلى الجبل لا جدوى لها.
“البحث عن السعادة ليس جريمة”
يسأل “نسيم” أحيانا أسئلة استفزازية من قبيل “لماذا هربتِ، وهل كانت حياتك في خطر حقا؟” فترد “رويا” مستغربة كيف يسألها هذا السؤال؟
لكنه يقدّم لها معطيات غريبة مفادها أنّ اللاجئين يبحثون عن السعادة، وأنّ هذا النزوع الشخصي ليس حالة طارئة تستدعي الهروب واللجوء إلى بلد آخر. فترد عليه بغضب: البحث عن السعادة ليس جريمة، والجميع يلهثون خلفها، ويتوقون لتحقيقها.
لكن “نسيم” يرى أن السعادة تقترن بالناس السُذّج الذين يرون كل شيء إيجابيا، وأنّ هذا التفاؤل الكبير لا يوصلها إلى أي مكان تريد الذهاب إليه، ذلك لأن على الأجنبي أن يركض أسرع من الهولندي بعشر مرات ليحصل على ما يريد.
ثم يمضي إلى القول إنّ الإيرانيين يظنون بأنهم سيسعدون إذا عاشوا في الخارج، لكنهم واهمون، فهم ليسوا إلا مواطنين من الدرجة الثانية، وأحلامهم يجب أن تكون صغيرة جدا، ولا تتطاول على أحلام المواطنين الأصليين الذين يرون بأن اللاجئين قد جاؤوا إلى هنا ليؤرقوا رفاهية الغرب الذي يوفر لهم الفتات، ولا يسمح لهم بتذوّق الكعكة، وإذا ما احتجّت أو تذمّرت فإنهم سيصفونها بناكرة الجميل أو مثيرة الشغب.
“كلما زادت قوة الجناح، كانت الرحلة أعلى وأبعد”
يرى “نسيم” بأن “رويا” سوف تبقى صغيرة، بينما هي تغرق في أحلامها الكبيرة، وسوف ترسل صورا جميلة لعائلتها وتكذب على نفسها وعليهم أيضا، لكن الجميع يعرفون ما يحدث خارج إطار الصورة.
ترى “رويا” بأن الحرية أثمن شيء، وهناك كثير من الناس يضحون بكل ما يملكون من أجل الحرية التي يتمتع بها “نسيم”، لكنه بالمقابل يرى أنّ الحرية وهم لا يختلف عن وهم السعادة التي أشار إليها سابقا. ويذكِّرها بأنهم إذا ما استمروا في رفض طلبها للجوء بسبب لون بشرتها وخلفيتها الفكرية ولهجتها ونبرة صوتها، أو بسبب آرائها التي لا تتناسب مع طريقة تفكيرهم، فإنها أيضا سوف تتكلم بطريقة مختلفة.
لكنها تفاجئه حينما تستذكر ما قاله الشاعر جلال الدين الرومي إن “الأمل جناح.. فكلما زادت قوة الجناح، كانت الرحلة أعلى وأبعد”. فهذه الشابة لا تستطيع أن تتوقف عن المحاولة، لأنها وعدت نفسها بذلك، وهي تعرف بأنه يستطيع أن ينسى الماضي، لكن الماضي لا ينسى أحدا.
“لا تحسب أنك أفضل مني”.. ندية تقلب مسار الفيلم
تسعى “رويا” بكل الطرق لإغراء “نسيم”، وقد خلعت الآن سوارها الذهبي الثمين مقابل البقاء عدة ليال لا غير، لكن جوابه كان قاسيا كالعادة، وفيه كثير من الجفاء حينما يخبرها بأنه ليس للبيع.
عندها تخاطبه بلغة ندّية موازية حينما تقول “لا تحسب أنك أفضل مني، ولا فرق بيننا نحن الاثنين”، وذلك في إشارة واضحة إلى أن كليهما لاجئ وأنهما هاربان من جحيم واحد، وإن خفّف “نسيم” من نبرته الانتقادية لبلده الذي أجبره على الهروب من الأفعى ليقع في فم التنّين.
ما يلفت الانتباه أنّ أحداث الفيلم كلها تقريبا تجري في موقع واحد، وأنّ الباب المغلق يرمز من دون شك إلى الوضع المعقد الذي يعيشه “نسيم”، وكأنه مُحاصر في متاهة لا مَخرج فيها. تماما كما هو حال “رويا” التي ضاقت بها هولندا، ولم يبق أمامها من ملاذ سوى الشقة رقم 243 ذات الباب المُوصد.
يتكرر ظهور الرسائل التي كتبها لأهله وأصدقائه أو من يعثر عليه، ويحضّر أنشوطة موته من قماش متين، بينما تستذكر “رويا” مشهد زفافها لرجل متوسط العمر لعلها هربت بسببه، وتركت كل الأشياء التي تحبها والتي تبغضها في الوقت ذاته، وعندها فقط تخبر نسيم بأن له الحق في أن لا يفتح الباب، كما أنها تمتلك الحق في أن لا تستسلم أبدا في بحثها الدؤوب عن السعادة والحرية، وتأكيد الذات الإنسانية المتعالية التي لا تقبل بمصادرة الحريات الشخصية والعامة.
خرافة القفل.. أمل إيجاد الحمام يومَ لا تقفل الأبواب
ثمة مشاعر مُحبِطة تحاصر “نسيم” الذي لم يعد يستجب لأصدقائه ومعارفه واللائذين به، لأنه منشغل بتعاسته بعد أن تعب من تعاسة الآخرين.
تعيد “رويا” ما سمعتهُ من الطفلة التي كانت تنتظر أمها بأن من يعدّ من 1-10 عشر مرات فسيأتي يوم جديد، ورغم أنها غيّرت نهاية الحكاية، فإنها لم تخرجها عن سياقها المألوف، فبدأت تفكّ ما حاكتهُ لشعورها بالعبث وعدم الجدوى، أما نسيم الذي فقد أعصابه وشعر باليأس أيضا، فقد صبّ جام غضبه على الصور التي التقطها وأزاحها من الجدار كليا.
وفيما يشبه اللازمة تُكرر “رويا” بأنها ستجد حماماتها في اليوم الذي لا يقفل فيه أحدٌ بابه، لأن القفل هو مجرد حكاية خرافية لا غير.
تترك “رويا” كرة الصوف وتُطفئ سيجارتها، وتنزل من السلّم، بينما نرى شرطيين يفتشان عن شخص هارب، وفي هذه اللحظة كان “نسيم” يضع لمساته الأخيرة على الأنشوطة التي يُدخل رأسه فيها ليوحي لنا بما يقطع الشك باليقين بأنه سينتحر خلال لحظات قليلة.
نتابع في الوقت ذاته وصول “رويا” إلى موقف الحافلات، حيث يفاجئنا قدوم “نسيم” إلى الموقف نفسه والجلوس إلى جوار “رويا”، وهو يردد ما استذكرته من أبيات شعرية لجلال الدين الرومي التي يقول فيها “الأمل جناح، فكلما زادت قوة الجناح، كانت الرحلة أعلى وأبعد”.
حينها ندرك أن هذا اللاجئ قد تغيّرت أفكاره بشكل جذري، وأنه قد عاد إلى طبعه الإنساني الأول الذي يتوق فيه إلى الحرية، ويسعى إلى تحقيق سعادته على أرض الواقع كحقيقة دامغة وليس كحلم بعيد.
صناعة الفيلم.. أداء مبهر وموقع يعكس تيه الفيلم
لا بد من التنويه بأهمية المُمثلَين اللذَين تناصفا دور البطولة، وهما هدى نيكو التي جسدت دور “رويا” وتألقت فيه، وهي عارضة أزياء إيرانية تقيم في كوريا الجنوبية، وقد اكتشفتها المخرجة “نفيس نيّا” على إنستغرام وأُعجبت بملامحها الخارجية وقالت “عندما رأيت صورتها؛ رأيت العزم والبراءة، والأمل المموّه بالخوف”. وقد أدّت دورها بذكاء شديد يوحي بممثلة محترفة، كثيرة التجارب.
أما “ألين ويشكا” الذي لعب دور “نسيم” فهو ممثل هولندي معروف ذو أصول إيرانية، وقد جسّد عددا من الأدوار ونجح فيها، فلا غرابة أن يتألق أيضا في تجسيد دور المصور الفوتوغرافي المُحاصر في شقة لا مَخرج فيها، بينما تنتظره في الرواق شابة جميلة تبحث عن السعادة، وتسعى لتحقيق أحلامها المُرتقبة في بلد يتمرّغ أبناؤه بالبحبوحة والرفاه الاقتصادي.
ولو تأملنا مكان التصوير أو الموقع الواحد تقريبا لوجدناه بناية مهجورة في هارلم، وكأنّ المُخرجة تُوحي من طرف خفي بأن “رويا” لا تنتمي إلى المكان المُوحش، وأن “نسيم” لم يجد فيه غير الأنشوطة مكانا لكي يدسّ رأسه فيها.
لا بد من الإشارة إلى أن فيلم “تلك الظهيرة” مستوحى من فيلم “الرقص على الطريقة الإيرانية”، وهو فيلم يجمع بين التقنيتين الوثائقية والروائية، ويدور حول “رويا” التي رفضت دائرة الهجرة الهولندية طلب لجوئها، مما أجبرها على خوض حياة غير شرعية في شوارع أمستردام.
كان طاقم الفيلم الوثائقي “الرقص على الطريقة الإيرانية” يرصد “رويا” من مسافة بعيدة، لكنهم تدخلوا حينما تعرّضت لمساءلة عناصر الشرطة، ورغم ارتجالية التصوير، فإن العناصر الوثائقية والخيالية كانت تتشابك بطريقة سلسة، وهي تؤسس لسرد القصة الواقعية داخل الفيلم الذي يحاول أن يخرج عن الأنماط التقليدية للتقنية الوثائقية والروائية في آن معا.
“نفيس نيا”.. شاعرة ومخرجة تنطق بأوجاع الإنسان
بقي أن نقول إن “نفيس نيّا” هي صانعة أفلام هولندية ذات أصول إيرانية، وشاعرة معروفة، ومتعهدة برامج ثقافية، وهي أيضا مديرة “مؤسسة غرانيت” في أمستردام التي قدّمت برامج ثقافية مرموقة مثل “الكلمات المهمة” و”الشعر على الرصيف” و”كيف ترقِّص قصيدة؟”.
أصدرت “نفيس نيّا” خمس مجموعات شعرية باللغة الهولندية، وهي “أصفهان أملي” (2005)، و”اللحظات التي تنتظرنا” (2012)، و”كلمات للجمال” (2019)، إضافة إلى “أزقة الصمت” (2007)، وهي ترجمة لمئة سنة من الشعر الفارسي بالاشتراك مع “ر. بوس”، و”ثلاث قطرات من الدم وأكثر”، وهي ترجمة لمئة سنة من الشعر الفارسي الحديث والقصص القصيرة.
كما أنجزت أربعة أفلام وهي على التوالي “أي، بي، سي” (A,B,C) عام 2011، وهو وثائقي عن تعلّمها اللغة الهولندية بواسطة ثلاثة متطوعين في غرفة خلفية بكنيسة في أمرسفورت، وفيلم “لذا” (Dus) الذي أخرجته عام 2015، وهو فيلم وثائقي قصير للغاية يتمحور حول ثلاثة أطفال يتحدثون بصراحة عن الحرية والحرب والسلام.
إضافة إلى فيلم “الكلمات التي تعني” الذي أخرجته عام 2022، وهو وثائقي يتطرق فيه الشعراء في كل مرة إلى موضوع اجتماعي من زاوية فنية وشخصية، و”تلك الظهيرة” الذي عُرض عام 2023، وهو أول فيلم روائي طويل لها.
كما شاركت “نفيس” في كتابة وإنتاج فيلمين آخرين وهما “الرقص على الطريقة الإيرانية” (Dance Iranian Style) من إخراج “فرشاد أريا” (2015) وهو “وثائقي روائي” مؤثر للغاية عن “رويا”، طالبة لجوء فاشلة يتعيّن عليها أن تعيش في شوارع أمستردام. والآخر فيلم “ضائع بينهما” (Lost in Between) الذي عُرض عام 2007، وهو وثائقي قصير، وأول فيلم هولندي يتكون من طاقم إيراني كامل.