“ثقة كاملة”.. جريمة أن تكون صحفيا أو محاميا في الصين
كاميرات مراقبة في كل ميدان كبير تدون جميع أفعال البشر المارين، رجال شرطة يجلسون فعليا على أبواب شقق ناشطين صينيين ليعيقوا حركتهم ويعكروا حياتهم، أنظمة إلكترونية معقدة تسجل كل ما يقوم به الصينيون على شبكة الإنترنت، وتعاقب من لا يروقها سلوكه. سجن واعتقال غير مبرر قانونيا لصينيين معارضين للنظام. هكذا بدت الصين في الفيلم التسجيلي “ثقة كاملة” (Total Trust) للمخرجة الصينية المقيمة في الولايات المتحدة “يالينغ تشانغ”.
لم يكن باستطاعة المخرجة أن تكون مع شخصياتها وتصورهم في حياتهم اليومية في الصين، إذ أنها ممنوعة من دخول بلدها، عقوبةً لها على فيلمها الوثائقي السابق “أمة الطفل الواحد” (One Child Nation)، ويُقارب سياسة الطفل الواحد في الصين التي فرضت لعقود عديدة. دَربت المخرجة شخصياتها على تصوير أنفسهم، وتابعت عن بُعد عمليات التصوير، ثم جمعت المادة وأعادت توليفها في مقر إقامتها في الولايات المتحدة.
“كلما عرفت المزيد عن بلدي زاد رعبي”
يسجّل الفيلم التغييرات الجمة التي مَرَّ بها البلد بشكل عام، على الشخصيات التي لا يزال بعضها يعيش محنا حقيقية، لأن هذه الشخصيات تجرأت وفقأت فقاعة البلد الناجح السعيد الذي تحاول الدولة الشيوعية تصديره إلى العالم.
تلخّص الصحفية الصينية “صوفيا إكسكيون هوانغ” حالها بعد سنوات من المضايقات الأمنية التي تعرضت لها، لطبيعة ما تكتب من تحقيقيات؛ قائلة: “كلما عرفت المزيد عن بلدي زاد رعبي”. ينقل الفيلم الروتين الذي تبدأ به الشابة يومها، إذ تفتش شقتها عن أجهزة مراقبة سريّة، ربما كانت الأجهزة الأمنية قد نصبتها في شقتها خلال غيبتها عنها.
ويخيم الهاجس الأمني على حياة الشخصيات الأخرى في الفيلم بسبب التجارب التي مرَّت بها، فعائلة المحامي الصيني “كونزاهنغ وانغ” الذي أطلق سراحه بعد سنوات من السجن، وضعت كاميرات في باب شقته لمراقبة ما يجري في الممر، هذا رغم أن الأمن الصيني وضع حراس أمن على باب الشقة.
اجتماع المحامين.. جريمة تؤدي إلى الحرمان من العائلة
يتنقل الفيلم بين شخصياته الثلاث مركزا على المحامين، ويركز بالخصوص على عوائلهم التي تعاني منذ سنوات بسبب غياب الأب، وهو الأمر الذي أدخل هذه العوائل النشاط العام عنوة، على أمل أن يساعد هذا في إطلاق سراح الآباء المعتقلين.
يسترجع الفيلم عبر مشاهد مؤثرة كثيرا أثر فترة سجن “هوانغ” على عائلته الصغيرة، وبالخصوص على ابنه الذي كان يحبو حين اعتقاله.
ضايقت الأجهزة الأمنية الصينية عائلة المحامي المعتقل كثيرا، وهذا سيكون له تأثير على سلوك الابن، إذ يميل إلى طرق العنف، ولا غرابة في ذلك، إذ أن العنف في كل مكان من حوله، وهو أمر يواجهه مع أمّه كل يوم. يفسد الطفل الفيديو الذي كانت والدته تنوي تصويره وتدعو فيه لإطلاق سراح زوجها، إذ أنه يخفي وجهه بقطعة الورق التي تحمل دعوى لإطلاق سراح والده، وهذا سيغضب والدته المتعبة.
وإلى جانب “هوانغ” يرافق الفيلم عائلة صينية أخرى اعتقل الأب المحامي فيها، واسمه “ويبنغ شانغ”، وتعيش الكابوس نفسه للعائلة الأخرى. شارك المحامي الشاب “شانغ” في تجمع عام مع زملاء مهنة له لمناقشة الحقوق القانونية العامة في الصين، وهذا سيكون كافيا لاعتقاله مع جميع المحامين الذين كانوا في التجمع العام.
ومثل عائلة المحامي الصيني الآخر في الفيلم، تعاني عائلة “شانغ” من غياب الأب، وهو الغياب الذي سيقلب حياة العائلة، إذ ستتحول الزوجة البعيدة عن الشؤون العامة إلى ناشطة سياسية، وسيرافقها الفيلم وهي تقود تظاهرات صغيرة، ثم يرافقها وهي تذهب إلى مكان الإقامة الجبرية لزوجها، لكنها تمنع من الدخول فيه، كما تصور الزوجة أفلاما عن حياتها ومكابدتها وتنشرها على الإنترنت.
كاميرات الأمن.. عيون تراقب التفاصيل وتكرم وتعاقب
في خط يكاد يكون منفصلا، ولا يوطد على نحو مرضي الخط الدرامي والنفسي لقصص الناشطين الصينيين، تستعرض المخرجة هوس مراقبة كل شيء في الصين، إذ تنتشر كاميرات المراقبة في كل ناصية وشارع لتراقب كل زاوية، وتسجل بحرص كل تفصيلة تغيب عن رجال الأمن المنتشرين أيضا في كل مكان.
يقدم الفيلم في مونتاج سريع تغطيات إعلامية صينية رسمية بدت فخورة كثيرا بنظم المراقبة الجديدة في الصين وتوابعها على الحياة الاجتماعية اليومية، إذ سنّت الصين قانونا اجتماعيا يعاقب أو يكافئ الصينيين على حسب ما يقومون به في حياتهم اليومية، فمخالفة إشارة المرور ربما تستدعي الحرمان من استخدام وسائل النقل العام لفترة قد تطول أو تقصر، ورمي الأوساخ في الشارع لها عقوبة مناسبة، أما المساعدة في بيت المسنين فلها ما يجازيها، مثل هدايا من الطعام والشراب.
لا تقتصر المراقبة على الحيز العام في الصين، فالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي مُراقبة بالكامل كما تزعم الشخصيات التي مرت في الفيلم، إذ تدعي زوجة “وانغ” بأن حسابها على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي الصينية قد أغلق بعد ساعة من نشر صورة قديمة لزوجها، وأنها طلبت من صديقة لها فتح حساب جديد على نفس الموقع ونشر الصورة ذاتها، وأن حساب الصديقة أغلق أيضا مباشرة.
واجهت شخصيات الفيلم العزل المجتمعي الذي مارسته السلطات الصينية ذاتها، عبر لجان الأحياء السكنية التي تعيش فيها الشخصيات. ولم تكتفِ السلطات الأمنية بذلك، بل إنها حوّلت حياة الشخصيات إلى جحيم فعلي.
يصور الفيلم عبر مشاهد صورتها الشخصيات نفسها كيف نصبت السلطات الأمنية كاميرات في الممرات المقابلة لشقق الشخصيات، وأحيانا في الشارع، لتراقب كل حركة هناك.
سلوك الأبناء.. ثمن اجتماعي باهظ تدفعه العائلة
يرتفع مستوى الفيلم كثيرا عندما يسجل الألم الكبير الذي عاشته الشخصيات لسنوات، فاعتقال الأزواج سيترك الزوجات في مواجهة مكلفة كثيرا مع نظام أمني قوي ومنظم، وسيكون لاعتقال المحامين في الفيلم أثر نفسي واضح على سلوك أبنائهم الذين نشأوا في ظروف حياة غريبة للغاية.
يصرخ أحد الطفلين في مشهد مؤثر للغاية على الحرس الذين منعوه وأمه من زيارة الأب في حسبه الانعزالي. يبدأ الطفل الذي لم يتجاوز السادسة بالصراخ الغاضب، ثم يبكي بعدها بكاء يكسر القلوب، بينما كانت الكاميرات المنصوبة في الخارج تُصور كل شيء حولها.
وتبدلت طباع الطفل الآخر في الفيلم، وكان قد أطلق سراح والده بعد أن سجن سنوات، لأنه دافع في المحكمة عن أقلية دينية صينية، إذ نراه يرمي الماء على الكاميرا المنصوبة تحت بيت العائلة، ويستخدم الكلمات النابية وسط دهشة والديه.
ويسجل الفيلم مشهدا يلخص غرابة الوضع الذي يعيش الطفل ذاته، إذ يمنع الحراس الذين كانوا يجلسون أمام بيت العائلة الوالدين من أخذه إلى المدرسة، ويعرضون عليهم أن يقوموا بذلك، ليُهيّج هذا غضب العائلة والطفل نفسه الذي كان يصرخ من الغضب.
خنق الصحافة.. مراقبة منزلية ومحاربة في العمل
يفرد الفيلم مساحة زمنية قصيرة للصحفية “صوفيا إكسكيون هوانغ” بالمقارنة مع الشخصيات الأخرى في الفيلم، بيد أن حضورها سيكون قويا، إذ تتخصص الصحفية الشابة بقضايا الرأي، وهذا سيجلب عليها غضب السلطات في بلدها، وستحاسب مرارا، وتدفع الثمن من حياتها المهنية والشخصية كما بين الفيلم.
نصبت السلطات الصينية كاميرات في الحديقة المجاورة لبيت الصحفية، وهو الأمر الذي استلزم منها أن تضع عازلا يمنع الرؤية، لكن التضييقيات لم تتوقف عند هذا الحد، إذ حوربت الصحفية في عملها، وهو ما عرّضها لأزمات مالية كبيرة، ودفعها إلى التفكير بالهجرة المؤقتة.
وقد ربطت علاقة صداقة بين واحدة من زوجات المحامين في الفيلم وبين الصحفية، إذ كتبت تحقيقات في جريدتها عما تعرض له زوج المحامية من معاملة مجحفة من قبل السلطات، وهذا سيقود لصداقة يجذرها المصير المشترك، إذ لا تترك زوجة المحامي الصحفية في محنتها.
قفزات الزمان والمكان.. تداخل غير موفق يربك سلاسة الفيلم
يقفز الفيلم بين عدة أزمنة مختلفة، وهو أمر لم يكن سلسا دائما، خاصة أنه يفعل ذلك فقط مع قصة المحامي “هوانغ”، فقد رافقه الفيلم بعد خروجه من السجن، وعاد بعد ذلك إلى فترة سجنه عبر أرشيف صوّرته زوجته. هذه الاستعادة ستكون نشازا في مواضع، عندما توضع مع يوميات الشخصيتين الأخريين، وتسير بتصاعد زمني منتظم.
كما لم تكن الانتقالات بين القصص الذاتية التي يتخللها الكثير من الوجع، وبين قضية المراقبة الإلكترونية التي تنتهجها الصين اليوم موفقة دائما، وتعثرت المخرجة مرارا وهي تحاول أن تترجمها عبر حكايات شخصيات فيلمها.
فقد طبعت قضيةَ أسلوب المراقبة الإلكترونية التفاصيلُ التكنولوجية والمونتاج السريع والاستعانة بتغطيات تلفزيونية للتلفزيون الصيني الرسمي، بينما تميزت مشاهد الشخصيات بحميميتها، وانحصار أغلب مشاهدها في الشقق، حيث تعيش الشخصيات وتقضي أغلب وقتها.
غموض المصير.. صحفية ومحامٍ تحت عباءة المجهول
يصل الفيلم إلى ذروات عاطفية مع شخصياته، ويسجل لها مشاهد شديدة القوة، مثل تلك التي يتفجر فيها غضب الشخصيات على النظام بأكمله، بسبب المعاملة غير العادلة، فزوجة المحامي التي سافرت ساعات طويلة لحضور محاكمة زوجها تمنع من دخول المدينة التي تجري فيها المحاكمة بسبب إجراءات كورونا، ويبقى معها الفيلم ساعات عدة وهي تقف عند حاجز الشرطة، بينما كان ابنها يصرخ من الجوع في السيارة.
هذه ليست القصة الوحيدة لكورونا في الفيلم، إذ تدعي الشخصيات في الفيلم أن النظام استغل وباء كورونا ليحد من حركتها، وهذا ما نراه في مشهد من الفيلم، حيث تمنع إحدى الزوجات من السفر، لأن الجهاز المختص بكشف المصابين بكورونا أصدر إشارة منع، وهذا على الرغم من أنها لم تكن مصابة، وأنها فحصت قبل يوم واحد من سفرها ذاك.
يتركنا الفيلم مع خبر صادم، فالصحفية التي كانت في طريقها إلى المطار للسفر إلى بريطانيا للدراسة تحجز لأسباب غير معروفة، وقد بقيت رهينة الاحتجاز حتى وقت انتهاء الفيلم، كما لا يزال مصير المحامي “شانغ” مجهولا وهو في السجن، رغم أن محاكمته انتهت.
عُرض فيلم “ثقة كاملة” في مهرجانات عدة منها شيفيلد البريطاني للسينما الوثائقية، ومهرجان “سي بي إتش” الوثائقي في الدنمارك، ومهرجان “الوثائقيات الساخنة” في كندا. كما عُرض أخيراً في مهرجان “أفلام تستحق” في هولندا.