“الحلم الأمريكي”.. حفيدة المؤسس تكشف الوجه المظلم لمدينة ديزني الساحرة

ورثت ثروة طائلة عن عائلتها التي شاركت في تأسيس أكثر حدائق الملاهي نجاحا وشهرة في العالم، لكنها اكتشفت كم كانت تجهل ما يختفي وراء تلك الواجهة البراقة اللامعة من أمور ترقى إلى مستوى المأساة في حق عشرات الآلاف من العاملين، فقررت أن تكشف الحقيقة في فيلم وثائقي بالصوت والصورة والشهادات، اشتركت في إخراجه مع المخرجة “كاثلين هيوز”.

يحمل الفيلم عنوان “الحلم الأمريكي وحكايات خرافية أخرى” (The American Dream and Other Fairy Tales)، وقد أنتج عام 2022، أما المخرجة التي كتبت المادة وأعدتها مع “كاثلين هيوز” فهي “أبيغال ديزني”، وتفتتح فيلمها بالقول إن “حمل اسم ديزني هو مثل قوة عظمى عجيبة لم تطلبها أصلا”. أي أن الاسم نفسه يمثل عبئا على صاحبته.

فمن الصحيح أنها استفادت كثيرا من انتمائها لتلك العائلة، وورثت ثروة كبيرة كفلت لها الاستقرار والعيش الرغيد، لكنها تبدو طوال الفيلم كأنما تئن تحت وطأة هذا الاسم الذي لم تختره لنفسها، وتعاني من الشعور بالذنب لما وقع من انتهاكات متواصلة ومستمرة لآلاف الأبرياء، ممن أفنوا حياتهم في خدمة تلك المؤسسة العملاقة التي أصبحت علامة مسجلة ترتبط بصورة أمريكا نفسها، وبفكرة “الحلم الأمريكي”، والنجاح الفردي الذي صنعه جدها وأخوه.

“أبيغال ديزني”.. ثورة الحفيدة على مملكة الجد المؤسس

“أبيغال ديزني” هي ناشطة اجتماعية وفاعلة في العمل الخيري، لكنها معروفة باعتبارها حفيدة “روي ديزني” أخي “والت ديزني”، وقد أسس معه شركة “ديزني لاند” الأسطورية الشهيرة التي أنشئت في العشرينيات بكاليفورنيا، وهي أشهر حديقة للملاهي في العالم، كما أنتجت وما زالت تنتج سلسلة من الأفلام الشهيرة أفلام الرسوم (التحريك) التي حفرت في وجدان ملايين الأطفال في العالم من خلال شخصيات شهيرة، مثل “ميكي ماوس” و”دونالد داك” و”سيمبا” و”أولاف” وغيرهم.

تطلعنا “أبيغال” في البداية من خلال مقاطع من الأفلام المنزلية على مشاهد من طفولتها السعيدة مع أسرتها، ثم تأخذ في استعراض تاريخ الأسرة، وكيف حققت الثراء، ليس فقط من خلال العمل الشاق في تأسيس “ديزني لاند”، بل من خلال ما حصلت عليه من تسهيلات من جانب الدولة في وقت كانت الدولة تشجع الاستثمارات وتدعمها، لتحقيق التوازن بين طبقة المديرين وطبقة العاملين.

تقول لنا “أبيغال” إن هذه السياسة التي كانت قائمة في الماضي، هي التي وضعت أسس الطبقة الوسطى في أمريكا، أما الآن فقد انهار هذا التوازن، وانهارت الطبقة الوسطى.

عمال ديزني.. جانب قبيح تحت السطح البراق

هذا الفيلم الوثائقي ليس عن سحر مدينة ديزني، بل عن الجانب الآخر الشرير الذي يكمن تحت السطح اللامع المصقول البراق. والمدخل إلى الفيلم رسالة تلقتها “أبيغال” من عاملة بسيطة في مدينة ملاهي ديزني، تشكو فيها حصولها على أقل من نصف ما يجب لها، مقابل العمل الشاق الذي تقوم به في حراسة الحديقة الشاسعة (مع زملائها)، مقارنة بما يحصل عليه أقرانها في أماكن عمل أخرى في نفس الولاية.

أبيغال ديزني هي وريثة الثروة التي صارت على طبقتها

هنا تتوقف “أبيغال” وتكتشف أن هذه ليست حالة منفردة، بل تشمل آلافا من العمال والموظفين الصغار الذين قضى بعضهم أكثر من 40 عاما في خدمة مؤسسة ديزني، من دون أن تتحسن أحوالهم، رغم التراكم الكبير في أرباح المؤسسة.

إنها تكشف بالوثائق والصور، ومن خلال المقابلات التي تجريها مع عدد من الضحايا والمعلقين والمحللين الاقتصاديين وخبراء المال، أن المدير التنفيذي لديزني “بوب إيغر” يحصل على 65 مليون دولار في السنة، وحين نقارنه مع موظف صغير في الشركة، فهذا الرقم يوازي ما يمكن أن يكسبه في 2000 سنة من العمل. فهل كان هذا هو “العهد” الذي قطعته ديزني على نفسها في بداية تأسيسها كنموذج للمؤسسة الرأسمالية ذات الوجه الإنساني؟

“الجشع أمر جيد”.. منعطف غيّر تاريخ الرأسمالية المعاصرة

يستعرض الفيلم بعض الصور الخلابة للمدينة السحرية التي أسسها الأخوان “ديزني”، ثم صور التدهور والبطالة، والأسر التي أصبحت تعيش في الحدائق وتقضي الليل داخل السيارات، تكافح من أجل البقاء، ثم تظهر “أبيغال” على شاشات التلفزيون، تتحدث وتكشف وتفضح الفروق الطبقية الهائلة، ويصبح ما كشفته من أمر مدير ديزني صاحب الـ65 مليون دولار سنويا حديث الساعة.

ينتقل الفيلم من مشكلة التفاوت الكبير في الأجور والرواتب في ديزني إلى طبيعة ديزني التي قامت في البداية على أساس المشاركة، وأن الجميع جزء من “الحلم” المشترك؛ إلى البحث في تطور النظام الرأسمالي الأمريكي في القرن العشرين، وتحوله من الرأسمالية التي تحقق الربح بطريقة “معقولة ومقبولة”، إلى تلك التي تضع “الربح” قبل كل قيمة أخرى.

وهي مدرسة يمثلها الاقتصادي الأمريكي “ميلتون فريدمان” الذي يظهر في الفيلم في لقطات من الأرشيف، يتحدث بمنتهى الجرأة، ويروج لمبدأ الكسب والربح بأي طريقة، أو المبدأ الذي يختصر في شعار أن “الجشع أمر جيد”.

تهميش الطبقة الوسطى.. قضية أخلاقية أمام الكونغرس

تستخدم “أبيغال” وزميلتها “كاثلين هيوز” التعليق الصوتي الذي يشرح ويحلل ويتوقف أمام الأجزاء المختلفة من الفيلم في أسلوب سلس ولغة بسيطة، ومن دون لجوء للمصطلحات المعقدة، ويتخذ مونتاج الفيلم نهج الانتقال من الخاص إلى العام، أي من وضعية ديزني وتاريخها وتطورها ومشاكلها مع موظفيها وعمالها، إلى الوضع الاقتصادي الأمريكي الأشمل الذي قام بتهميش الطبقة الوسطى.

فقد كانت الحكومة في الماضي تدعم الطبقات الصغيرة عن طريق ما كانت تقدمه لهم من خدمات مختلفة في مجالات الصحة والتعليم والسكن والطرق والمنشآت الحضرية، ثم تقلص دور الدولة تدريجيا بفعل ضغوط كبيرة مارسها كبار المستفيدين من أصحاب الشركات والاحتكارات التجارية والصناعية، فاختل توازن الثروة، وتكدست في طبقة المديرين ورجال المصارف في أعلى السلم الرأسمالي بعد إطلاق مبدأ “حرية السوق”.

ورغم هذا التحليل المبسط في الفيلم الذي نراه عبر مئات اللقطات الوثائقية، ورسوم التحريك التي تحاكي على نحو بديع رسوم ديزني الشهيرة، من أجل تقريب الموضوع من المشاهدين؛ يتميز الفيلم بالإيقاع السريع والحركة والمَشاهد الكثيرة الممتعة التي لا تثقل على المشاهدين، ويكشف عن أن القضية بالنسبة لصانعي الفيلم أو لـ”أبيغال ديزني” نفسها ليست قضية سياسية أو اقتصادية.

فرغم وجود هذين البُعدين بين ثنايا الموضوع، فإنها تعتبر الأمر أساسا “قضية أخلاقية”، وهو التعبير الذي تستخدمه عندما تحمل القضية وتصعد بها إلى العاصمة واشنطن، إلى الكونغرس الأمريكي الذي يشكل لجنة لمناقشة موضوع ديزني، وذلك التفاوت وتراكم الثروة، أو بالأحرى تكديسها، مع حرمان الآلاف من نصيبهم فيها، رغم أنهم هم الذين صنعوا تلك الثروة وحافظوا عبر عشرات السنين على الصورة التي تتمتع بها ديزني في العالم.

وأمام ممثلي هذه اللجنة البرلمانية توجه لها الاتهامات بالتطرف الاشتراكي والماركسية، وأنها تروج لقيم تتعارض مع “قيم ومبادئ مجتمعنا الذي قام على حرية السوق” كما يقول أحد أعضاء الكونغرس.

“أي شخص يمكنه أن يصبح ثريا”.. وهم الحلم الأمريكي

يتطرق الفيلم أيضا إلى فكرة “الحلم الأمريكي” الذي أغرى الملايين عبر العصور، ووعدهم بأن “أي شخص يمكنه أن يصبح ثريا”، ليجدوا أنفسهم في نهاية المطاف، يلهثون في أسفل السلم الاجتماعي. تقول “أبيغال” في الفيلم إن المسألة لا تتعلق فقط بديزني، “بل بنصف العمال الأمريكيين الذين يعانون من الفقر والفاقة”. وأمام لجنة الكونغرس تقول إن “الحلم الأمريكي يعلمنا أننا إذا عملنا بجدية أكثر، لأصبح كل شيء ممكنا”. ولكن ليس هو الحال.

تقابل المخرجة نماذج من هؤلاء الذين سقطوا خارج الحلم الأمريكي من موظفي ديزني، ومنهم “سالي” التي أصبحت تقيم في سيارة، بعد عجزها عن دفع إيجار المنزل ذي الغرفة الواحدة الذي يستهلك 80% من راتبها الشهري، ثم اضطرت بعد فترة طويلة من الخروج خارج المدينة إلى العيش مع والديها.

ميكي ماوس رمز السعادة يخفي الحقيقة

وهناك آخرون أصبحوا يعتمدون الآن على بنك الطعام للحصول على بعض المواد الغذائية التي تقيهم شر الجوع، خصوصا ونحن نرى أن الشركة تحتفظ بـ100% من أرباحها لنفسها ولكبار المديرين، وأنها استغنت عن 28 ألف موظف، حين أغلقت أبوابها مع انتشار وباء كورونا في 2020، لكنها أعادت فيما بعد عددا قليلا من هؤلاء للعمل.

هناك أيضا “راف” و”ترينا”، وهما زوجان يعولان ثلاثة أطفال، وقد اضطروا جميعا للانتقال للعيش مع والدة “ترينا”. وهناك “سامنتا” التي استلمت خمس ميداليات من ديزني تقديرا لما بذلته من جهد عبر 45 عاما من العمل، قبل أن يتخلصوا منها، فتذهب إلى البطالة.

“مقياس لاتساع الفجوة الاقتصادية”.. مدينة العمال

يعود بنا الفيلم من خلال مشاهد وثائقية من الأرشيف مختارة بعناية شديدة، إلى بداية تدمير الطبقة الوسطى الأمريكية، مع بداية عهد الرئيس “رونالد ريغان” الذي أعلن الحرب على “الدولة”، فيما أطلق عليه الثورة الجديدة، أي كف يد الدولة عن التدخل فيما يكسبه رجال الأعمال، عن طريق منحهم الإعفاءات الضريبية الكبيرة، والتلويح للبسطاء بإمكانية تحقيق الثراء بطريقة فردية، في حين أن سياسته الحقيقية كانت تعتمد على تقليص عدد العمال ودفعهم للبطالة، وتقليص الخدمات التي يحصل عليها العمال.

تتابع “أبيغال” من خلال الصور العصر الذهبي لديزني لاند التي أصبح يتوافد عليها ملايين الزائرين من شتى أنحاء العالم، وأصبحت بالتالي “مدينة السعادة”، في حين أصبحت مدينة أنهايم الملتصقة بها -حيث توجد مساكن العاملين بديزني- مدينةً تعاني من التدهور الذي لحق بجميع المنشآت والخدمات، كما أصبحت مدينة طاردة لسكانها بسبب ارتفاع أسعار السكن كثيرا. وتصفها “أبيغال” في الفيلم بأنها “مقياس لاتساع الفجوة الاقتصادية في أمريكا”.

يصور الفيلم الإضرابات والاحتجاجات التي نظمها العاملون من خلال العمل النقابي المنظم، وتستمع “أبيغال” إلى شهادات بعض العاملات من الأقلية السوداء، وهن يشرحن أن الظلم الذي وقع عليهن كان الأكثر قسوة، مع تهميش عائلاتهم، وحرمانهم من مزايا كثيرة يتمتع بها البيض، في ظل سياسة “ريغان” ذات الاتجاهات العنصرية.

ديزني لاند في كاليفورنيا والترويج لها وكأنها كائنات الأسطورية

لا تصبح مؤسسة “ديزني” هنا سوى نموذج واحد يعبر عن اختلال التوازن الاقتصادي في المجتمع الأمريكي، وغياب مبدأ تقاسم الثروة، والتخلي عن دعم الطبقة الوسطى والحفاظ على تماسك الطبقة العاملة، كما أنها مثال واحد على ما تقود إليه سياسة الجشع.

تعرية نظام الجشع المتوحش.. وجه أمريكا الآخر

هذا الفيلم عمل وثائقي شديد القوة والتأثير، يُصوّر الوجه الآخر لأمريكا الحلم، أمريكا الثراء، والصورة البراقة التي تروج لها الأفلام الدعائية ومسلسلات التلفزيون. وتكمن قوته من كونه يأتي من شخصية مثل “أبيغال ديزني”، فهي تنتمي لتلك الطبقة نفسها، لكنها قررت مواجهة تاريخ عائلتها، وخيانتها لما قامت عليه من مبدأ أن الكل شركاء في التجربة والحصاد.

تقول لنا “أبيغال” في بداية الفيلم إنها أرسلت رسالة إلى مدير ديزني “بوب إيغر” تشرح له الوضع المأساوي للعاملين، وتطالب بإنصافهم، لكنه أحالها إلى قسم شؤون الموظفين والموارد البشرية، فوجدت نفسها داخل متاهة بيروقراطية لا تحمل جوابا عن أسئلتها الحيوية.

لذا فقد فكرت ووجدت أن أفضل وسيلة لكشف الأمر برمته هو أن تصنع هذا الفيلم الذي يعتبر “مقالة سينمائية” ومرافعة وثائقية ممتازة بالصوت والصورة، بالرسوم والشروح الغرافيكية المبسطة والخرائط وصور الأرشيف الفوتوغرافية والحية، في سبيل الدفاع عن البسطاء، وفي تعرية نظام الجشع المتوحش.


إعلان