“المنازل التي نحملها”.. عمال أفارقة شتتهم سقوط جدار برلين عن عائلاتهم

توثق المخرجة “بريندا أكيلي جوردي” في فيلمها “المنازل التي نحملها” (The Homes We Carry) مسار حياة عائلة العامل الموزمبيقي “إيليديو دانييل ننبيرو” الذي كان يعمل ويُقيم مع زوجته في ألمانيا الشرقية، لكنه فجأة بعد سقوط جدران برلين وجد نفسه مُبعدا وغير مرحب به، لا في البلد الأوروبي الذي خدمه وقضى سنوات شبابه عاملا في مصانعه، ولا في موطنه الأصلي الذي تعامل معه كغريب، فاضطر للرحيل منه إلى جنوب أفريقيا للعمل فيها.
حياته التي تغيرت بفعل تغيير سياسي غيّرت معها مسارات حياة أفراد عائلته وشتتتها، كما شتت التحول السياسي في ألمانيا حياة آلاف من العمال الموزمبيقيين الذين أُجبروا على تركها والعودة إلى بلدهم، واليوم بعد أن أضحوا كبارا في السن، يحاولون بيأس استعادة حقوقهم ولقاء أطفالهم الذين بقوا هناك بعيدين عنهم.
“إيليديو” وابنته وحفيدته.. تباعد يختصر مشهدا مؤلما
تعاين صانعة الوثائقي التشابك الحاصل بين مصير “إيليديو” وابنته الشابة “سارة” وحفيدته “لوانا”. ثلاثة أطراف يختصر تباعدها مشهدا عائليا مؤلما، يحاول الوثائقي استعادة جانب مهم منه من منظور إنساني، لكن من دون تجاهل صلته القوية بالسياسة وتحولاتها.
يتضح هذا في المشهد الأول من الوثائقي الرائع الشاعري الأسلوب، وتظهر فيه مجموعة من المتظاهرين في مدينة ماباتو الموزمبيقية وهي تحمل أعلاما ألمانية، وترفع شعارات تطالب سلطات البلدين (ألمانيا وموزمبيق) بالمساعدة في لمّ شملهم بعوائلهم التي بقيت بعيدة عنهم لسنوات طويلة، كما يطالبونها باسترجاع مستحقاتهم المالية التي لم يحصلوا عليها، رغم كدحهم لسنوات في المصانع والشركات الألمانية التي سرقت منهم جهد عقود من العمل في سن الشباب، ثم تركتهم بعدها من دون أي اعتراف منها بأي حق لهم عندها.
من ذلك المشهد ينتقل الوثائقي إلى مدينة سبرينغر الجنوب أفريقية، حيث يعمل “إيليديو دانييل” عاملا في مطعم صغير، أثناء فترة الاستراحة يتحدث مع زميل له مغترب مثله عن الحنين للوطن وللعائلة، وذلك بلغة مشحونة بالعاطفة والحسرة على ضياع أجمل سنوات شبابه، بسبب مواقف سلطات دول لا يهمها مصير الأفراد، بقدر ما تهتم بمصالحها السياسية والاقتصادية.
أيام الشباب.. ذكريات الاغتراب الإجباري في ألمانيا
يتحدث “إيليدو” عن تجربته في ألمانيا الشرقية التي ذهب إليها في إطار التعاون الكبير الذي كان قائما بين البلدين في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، فقد ذهب إليها شابا قويا مثل آلاف من الشباب الموزمبيقيين الذين التحقوا هناك بدورات تدريبية، وعمل قسم كبير منهم في المصانع الألمانية بعقود مؤقتة وبأجور منخفضة.
وقد تعرف هناك على شابة تُدعى “أنغريد” أحبها وتزوجها، لكن قبل أن تلد طفلتها “سارة” بأشهر، وجراء التغيير الذي حصل في ألمانيا، وانتهى إثره النظام الاشتراكي المتعاون مع الحكومة الموزمبيقية؛ وجد “إيليدو” نفسه في النظام الجديد عاطلا عن العمل، ومن دون إقامة رسمية، مما اضطره للعودة إلى بلده بعد رفض السلطات تجديد إقامته القديمة، وامتناعها عن توفير فرصة عمل له، فقد ترك مجبرا زوجته وطفلته “سارة” التي ولدت بعيدا عنه.
ويحكي عن الوضع الذي وجد نفسه فيه عاطلا عن العمل في بلده موزمبيق أيضا، فما تعلمه من تقنيات صناعية أوروبية متطورة لا يوجد في بلده مثيل له، إلى جانب رؤية المسؤولين الحكوميين لتجربة العمل السابقة في ألمانيا كنوع من الامتياز عن الغير حصلوا عليه، ولا يريدون هم اليوم إعطاءهم فرصة أخرى.

يصف “إيليديو” الحزين المُجبر على الاغتراب موقفهم بالانتقامي والحاسد، والناكر ظلما لحقه في العيش والعمل في بلده مثل غيره.
رحلة الموزمبيق.. طفلة تركض إلى أحضان أبيها الحزين
تسود الوثائقي أجواء حزينة متأتية من الأحزان التي تلف أطرافه، ومن بين الذين يهتم بنقل مشاعرهم وهمومهم الشابة “سارة”، فهي لا تريد لابنتها أن تعيش مقطوعة الصلة عن جذور عائلتها الموزمبيقية، وتحرص على التواصل مع أبيها، ورغم طول عيشها في كنف والدتها الألمانية، فإنها بسبب لون بشرتها كانت تشعر بالاختلاف، وبأن جزءا من عائلتها ما زال غائبا من حياتها، لهذا تحرص على التواصل معه والارتباط به ثانية.
تقرر الصبية حين تبلغ 11 عاما السفر إلى موزمبيق لمقابلة والدها، لكنها لم تقابل هناك نفس الرجل القوي النحيل الذي كانت تراه في الصور، بل قابلت رجلا ضخما حزينا طيبا وعطوفا، يحظى بحب واحترام جميع من يعاشرهم.
وقد أشعرتها تجربة سفرها إلى بلدها الأصلي لأول مرة بأنها موجودة بين أناس يمتدحون جمالها الأفريقي، ويجدون في سمرة بشرتها وخشونة شعرها جمالا، يقابل نفورا من بعض العنصريين الألمان الذين يشيرون إلى اختلافها عنهم من خلال لون بشرتها وطبيعة شعرها، إنها نظرة دونية تجسد العنصرية التي تمقتها وبشجاعة تقف ضدها.
“لوانا”.. ثمرة الزيارات المتتالية إلى موطن الجذور
واصلت “سارة” رحلاتها المتقطعة إلى بلدها، وفي إحداها تعرفت على شاب يدعى “أدواردو”، فاقترنت به رغم قصر فترة تعارفهما، مما أثمر ولادة طفلتها “لوانا”، لكن صعوبة حصوله على تأشيرة سفر إلى ألمانيا منعه من الاجتماع بعائلته، وحرم الطفلة من العيش مع والدها، تماما كما حرمت قوانين الإقامة الألمانية المجحفة الأم “سارة” من رؤية أبيها “إيليدو” لسنوات.
تتسع دائرة الحرمان والأطراف المسببة لها ما زالت غير مهتمة، ففي زيارتها الأخيرة لموزمبيق، تقترب “سارة” ومعها ابنتها التي بلغت عامين من العمر من بعض المشاركين فيها، وجُلّهم يعرفون والدها، وعملوا معه في ألمانيا، ويقدر الوثائقي عددهم بحوالي 20 ألف موزمبيقي.

يشرح لها أحدهم الصعوبات التي تواجههم في الوصول إلى أطفالهم، أو استرجاع حقوقهم المالية، فكل محاولاتهم مع الجهات المسؤولة في البلدين تنتهي دوما من دون الوصول إلى نتيجة مرضية، لأن كل طرف منها (الحكومتين الموزمبيقية والألمانية) يرمي المسؤولية على الطرف الآخر.
يوضح لها أحد المتضررين من التغيير السياسي الذي أعقب سقوط جدار برلين، أن مصنع الورق في مدينة دريسدن الذي عمل فيه لسنوات، رفض مسؤولوه دفع الرواتب المستحقة له عندهم، وأن سبب فقدانه التواصل مع أطفاله كان جراء سرقة بعض موظفي البريد لرسائلهم، لتصورهم وجود مبالغ مالية فيها، ويُحيل عدم منحهم تأشيرة زيارة عائلية إلى مواقف عنصرية أوروبية، وإلى كراهية للأجانب وللأفارقة على وجه الخصوص.
اختلاف الثقافات.. أجنبية في وطن الميلاد ووطن الأجداد
يخالج شعور الكراهية الأوروبية للأجانب دواخل “أدواردو” الذي يواجه صعوبة في الحصول على تأشيرة دخول إلى ألمانيا، لكنه في الوقت نفسه يعاني من مشاكل أخرى تجعل الزوجة أقل حماسا للبقاء معه، وذلك لإفراطه في تناول المشروبات الكحولية، وخروجه المتكرر مع أصدقائه، وعدم اهتمامه بابنته بالشكل الجيد خلال الفترات التي تأتي مع والدتها لزيارته.
تثير الخلافات بين الزوجة والزوج أسئلة لها صلة بمفهوم اختلاف الثقافات، فرغم مساعي الشابة لأن تتواصل وتعيش مواطنة عادية في بلدها، وحرصها على تمتين شعور انتماء ابنتها إلى بلد جَدها، فإن عامة الناس كانوا يرونها غريبة طارئة عليهم، يعاملونها كألمانية، بينما يعاملها الألمان هناك كأجنبية.

هذا التعامل معها كإنسان مختلف عن الوسطين اللذين تعيش فيهما يترك أثره النفسي العميق عليها، وينسحب على علاقتها بزوجها، مثلما ينسحب على علاقة والدها بالوسط الجنوب أفريقي.
جنوب أفريقيا.. نظرة دونية بين أبناء القارة الواحدة
ينقل الوثائقي جانبا من النظرة الدونية للآخر بين الأفارقة أنفسهم، فرغم انتماء مواطني البلدين لنفس القارة، فإن بعض الجنوب أفريقيين يتعاملون مع المهاجرين الموزمبيقيين بتعال، ويتحدثون عنهم بشكل سيئ.
ينقل “إيليدو” لزميله كيف يتحدث بعض روّاد المطعم الذين يظنون أنه جنوب أفريقي مثلهم، لإجادته الحديث باللغة المحلية، وكيف يصفون الدارجة الموزمبيقيين بأوصاف عنصرية، وهو يشعر بأنهم سوف يصفونه بها حال ابتعاده عنهم.
كل تلك المشاعر والأحاسيس ينقلها الوثائقي بأسلوب هادئ يطغي عليه الجانب الإنساني لا الانتقامي، وسيتوج بخاتمة تنفتح على أمل بمستقبل أفضل يأتي عبر قرار “سارة” بالذهاب لزيارة والدها، بعد تعذر سفره لبلده ومقابلتها هناك، لفقدانه وثائق السفر الخاصة به.
“أريد أن أصبح بيضاء مثل جدتي”
في مدينة سبرينغر تقابل “سارة” والدها، وتمضي حفيدته معه أوقاتا تعزز شعور والدتها بصحة خطوتها، وحرصها على تواصل طفلتها مع عائلتها رغم الشتات.

يكتمل هذا المشهد بظهور “سارة” في ألمانيا مع طفلتها، تخبرنا بحزن أن ابنتها تشعر بمثل ما كانت تشعر في طفولتها من اختلاف عن أقرانها بسبب لون بشرتها، وأن “لوانا” رغم صغر سنها قالت لها مرة: أريد أن أصبح بيضاء مثل جدتي.
تلك الرغبة العفوية تعكس إحساسا بالاختلاف، لا تريد لابنتها العيش فيه إلى الأبد، لهذا تخطط مرة أخرى لزيارة الموزمبيق وتمتين علاقة طفلتها بجذورها الأفريقية أكثر وأكثر، وبالنسبة إليها فكل زيارة لبلدها هي بمثابة خطوة لتعزير تواصل مطلوب، وأيضا تلبية لفضول عندها لمعرفة أين وصلت مطالب المتظاهرين، فقد صارت تشعر أن كل واحد منهم مثل والدها، ترك طفله رغما عن إرادته، نتيجة لسياسات دول يحاول المتظاهرون بكل ما استطاعوا إقناع مسؤوليها بشرعية مطالبهم في العيش سوية مع أطفالهم، مثل بقية البشر.