“الخلفية”.. مخرج يستنطق ذاكرة أبيه المبتعث إلى ألمانيا قبل 60 عاما
ليس غريبا أن يحصد المخرج السوري خالد عبد الواحد جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان مرسيليا السينمائي في فرنسا عن فيلمه “الخلفية” (Backyard) (64 دقيقة)، وقد قدّم فيه حياة مستعادة لوالده المهندس الذي درس في لايبزيغ قبل 60 عاما، معتمدا على تقنيتيّ التذكر والاسترجاع الذهنيين، ولعل التدفق السردي السلس وانسيابية الأحداث والأفكار المتشظية التي لا تراهن على موضوع بحد ذاته، هما ما منحا الفيلم هذا التألق، فظل يتوهج ويجذب المتلقي إلى مداراته السردية الحساسة من دون أن يصيبه الملل أو التذمر أو الفتور.
تنبغي الإشارة إلى تعويل المخرج على تقنية التدمير والصيانة كعادته في أفلامه السابقة وخاصة “الفِناء الخلفي”، فيفكّك ويعيد بناء صورة حقل صبّار سوري بكثير من الدقة والتأني والعفوية، من دون السقوط في فخ الرتابة أو الأداء التقريري الذي لا يلامس إلا القشور أو السطوح الواضحة للعيان، ومع أن هذه البساطة المقرونة بالعمق هي سلاح ذو حدين، فإن المخرج سيطر عليها جيدا، ووجهها نحو الأهداف المجازية التي تقول الكثير بكلمات قليلة ومقتضبة جدا.
تتمحور قصة الفيلم على عدد من المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت بين الابن المخرج خالد المقيم في لايبزيغ حاليا، ووالده المهندس سعد الله الذي أجبرته ظروف الحرب على البقاء في سوريا، ويُعيد الابن المغترب بناء رحلة والده الذي كان طالبا يدرس اللغة الألمانية في لايبزيغ، ويدرس الهندسة الكيميائية والنفط في درسدن وميرسبورغ قبل 60 عاما، فهل يتذكر الوالد كل شيء، أم أن غربال الزمن أسقط منه الكثير، ولم يُبقِ إلا علامات فارقة لا يمكن أن تتلاشى من شاشة الذاكرة القوية الصافية التي لا يقوّضها التشوش، ولا ينخرها التآكل أو الانهيار.
يمتد زمن الفيلم من عام 1956 حتى الوقت الراهن، ذلك الوقت الذي حدثت فيه الهوة بعد الحرب السورية التي لا تزال تلقي بظلالها وتداعياتها على المواطنين السوريين في الداخل، أولئك الذين يعانون من نقص الغذاء والدواء وشحّ الماء والكهرباء وانقطاع الإنترنت بين آونة وأخرى، كما يحصل للمهندس سعد الله.
أسند المخرج الابن لوالده المهندس سعد الله دور الشخصية الرئيسية في هذا الفيلم التأملي الشائق الذي يوثق أحداثا ووقائع كثيرة تبدأ من الذات، وتمر بالأسرة والوطن، وتنتهي بالعالم الأرحب، وإن كانت على شكل ومَضات ولمحات وإشارات خاطفة شديدة الدلالة والوضوح.
تقنيات التصوير.. لغة احترافية لحكاية ذكريات الأب وابنه
يركز الفيلم على كاميرا التصوير التي ينظفها ويعتني بها كشيء ثمين، فهي المعادل الموضوعي للقلم، وحروفها هي الصور واللقطات والمشاهد، وقد يذهب إلى أبعد من ذلك حينما نراه يرمم بعض الصور القديمة التي تكسرت أوراقها الصقيلة، ويقص حافاتها بمقص القطع اليدوي، إشارة لتقنية التدمير والصيانة التي ذكرناها آنفا.
يتألف الفيلم من ست مكالمات رئيسية بين الأب وابنه قبل أن يتشوّش الصوت وينقطع نهائيا، وتشكّل هذه المكالمات سردية الفيلم، أو مروية سمعية تمثل قصة الفيلم المهشمة التي رُممت بواسطة لمسات الأب الاستذكارية، ولكي نكون أمناء في نقل هذه القصة فلا بدّ من تتبّع أحداثها منذ الاستهلال وحتى الجملة الختامية.
يروي الأب مُستذكرا: عندما تخرجت سنة 1956 كانت سوريا بحاجة إلى اختصاصات كثيرة، وكانت الدولة تبعث الطلاب إلى الخارج، فكان هدفي أن أدرس في بلد متقدم مثل ألمانيا، فقدمت طلبا إلى القنصلية الألمانية في الشام، ثم أخبروني بأنني قد قُبلت وعليّ التهيؤ للسفر إلى ألمانيا.
لم يعتمد المخرج على تقنية الاستذكار فقط، بل كان يطعِّمها بمشاهد أخرى يرمم فيها الصور القديمة التي يبعثها له الوالد، ويعيد إليها الحياة من جديد.
سرديتا الأب وابنه.. حوار متقطع يجرّ حبل ذكريات ألمانيا
يواصل الأب سرديته ويقول: ذهبتُ لوحدي من محطة بغداد في حلب، وأخذت قطار الشرق السريع إلى إسطنبول، ثم البلقان وبلغاريا واليونان ويوغوسلافيا وفيينا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا، وحصلت على تأشيرة عبور لكل البلدان التي مررتُ بها.
ثم ينقطع الخط مع ابنه لبعض الوقت، وكأن المخرج يريد أن يقدم لنا هذه الحكاية على جرعات عدة، ثم يقول سعد الله: إن الخطوط القادمة من أوروبا إلى حلب تذهب إلى بغداد، وكان الألمان يشتغلون في سكة حديد بغداد، فنزلتُ في محطة “فريدريش شتراسه” الرئيسية.
لا يسمع المتلقي الأسئلة، بل يتعرف على مضمونها من خلال أجوبة الأب، ويبدو أن خالد قد سأله عن الصور القديمة التي التقطها في بعض المدن الألمانية، فيجيب الأب: لم أرتبها في ألبوم، لكن وضعتها في مغلف واحد، وأنا أعرف بأن الفيلم الوثائقي يحتاج إلى توثيق، وهذا مفروغ منه.
يكمل الابن سرديته أيضا من الطرف الآخر، فيستفسر منه عما إذا كانت الصور التي عالجها وأرسلها قد وصلت إليه أم لا، فيقول خالد مستذكرا: لم أتذكر من هذه الصور شيئا، وكأنني لم أرها ألف مرة وأنا صغير، أُعجبت بقَصة شعرك، وأرى كاتدرائية قوطية في الصورة، لا شك أنها في أوروبا، لكن لم أتعود على العمارة القوطية، فما زالت تخيفني حتى الآن، وأنتَ تبدو واقفا في مركز المدينة.
“قضينا أياما جميلة جدا في لايبزيغ”
يكمل خالد حديثه: تعرّف “غوغل” على موقع الصورة الثانية، إنها سانت بطرسبرغ أو لينينغراد مثلما تسمّيها، ومبنى هيئة الأركان خلفك في الصورة، ويُفترض أن يكون متحف الأرميتاج أمامك، فهل خرجت للسياحة أم كنت في سفر جامعي؟
يرد الأب باقتضاب أحيانا مجيبا على قدر السؤال: الأرميتاج -يا بني- هو أكبر متحف بالعالم وليس اللوفر، بدأ الثلج يتساقط في لايبزيغ، وهي مدينة جميلة، أجواؤها تشبه برلين التي مكثتُ فيها يومين، ثم ركبتُ القطار إلى لايبزيغ. فيسأله خالد مستغربا: لماذا لايبزيغ؟
تأتي إجابة الأب عفوية سلسة فيقول: لأن الطالب الذي يدرس في ألمانيا يجب أن يتعلّم اللغة الألمانية، وبعدها يستطيع دخول الجامعة، فكنا ندرس ونأكل ونشرب في نفس المكان، ولا أزال أتذكر العنوان “دونلستر شتراسه رقم 5″، لقد قضينا أياما جميلة جدا في لايبزيغ، فهناك فرق كبير بين الجو المُحافظ المغلق في سوريا، وبين الفضاء الحر المنفتح في ألمانيا، وكان الطلاب الأجانب يمثلون 40-50 دولة من كل أنحاء العالم.
ينقطع الاتصال مرة ثانية فيسأل الابن أباه: هل عثرت على وقود لمولّد الكهرباء؟ فيُحيلنا سؤاله إلى الأجواء السورية الحالية في ظل الحرب التي ينقطع فيها الماء والكهرباء وتشح المواد الغذائية وتعاني الغالبية العظمى من ضيق ذات اليد.
يرغب الابن في العودة إلى مكتب الهجرة، عسى أن تكون بعض القوانين قد تغيرت، ويحث والده على طلب التأشيرة ومحاولة السفر إلى ألمانيا في هذا الظرف العصيب، فيروي الأب لابنه قصة الحلاّقة الشابّة التي ذهب إلى صالونها لقص شعره، ثم وجدها إلى جواره في دار الأوبرا، فالفتيات والنساء عموما يتمتعن بحرية كبيرة في ألمانيا، وتستطيع إحداهن أن تذهب إلى مختلف الأنشطة الفنية والثقافية والاجتماعية من دون اعتراض أحد على ذهابها، وما زلت أتذكر اسم الأوبرا، إنها “الاختطاف من القصر العثماني”. ثم ينقطع الاتصال للمرة الثالثة.
شارع “باتريك لومومبا”.. استحضار ذكريات دراسة الأب
يذهب الابن إلى مدرسة والده، ويخبر الإدارة بأنّ أباه قد درس هنا قبل 60 عاما، فتُعطي الإدارة الموضوعَ كثيرا من الاهتمام وترشده إلى الأرشيف، فيقابل في ممرات المدرسة طلابا سوريين من مختلف أنحاء البلاد، ويُذكِّر والده بأن شارع المدرسة التي درس فيها قد سُمّي الآن “باتريك لومومبا” على اسم أول رئيس للوزراء في الكونغو المستقلة، وقد وضعت منظمة الشبيبة الألمانية نصبا تذكاريا له في سنة اغتياله، ووضعته في حديقة المدرسة.
قرأ الابن عن هذه الشخصية العظيمة وأُعجب بها أيما إعجاب، ويتساءل عن الصور المرممة التي أرسلها لوالده، ويريد أن يعرف إن كانت وصلت إليه أم لا، ويحث والده على إرسال الوثائق والأوراق الرسمية التي طلبها، ويحيطه علما بأنه وجد في أرشيف جامعة لايبزيغ سجلا مُدونا فيه اسم الطالب ورقمه وجنسيته وتاريخ الدخول والنقل.
يحوي السجل تاريخ تسجيل الوالد في 16 يناير/كانون الثاني 1957، وكان معه عشرون طالبا سوريا، وأول الطلاب العرب الذين وصلوا إلى هناك كانوا من العراق.
ألبوم الصور.. تاريخ وحكايات وأسئلة متزاحمة
يذكّر الابن أباه بأخذ الأدوية بانتظام، ثم يحيطه علما بمواعيده الجديدة مع مكتب الهجرة علّه يجد طريقة يستقدمه بها إلى ألمانيا، ولا ينفكّ الوالد يتحدث عن جمال المدن الألمانية وخصوصيتها، ومدينة درسدن مدينة أرستقراطية وجميلة وألمانية قُح تشبه إلى حدّ كبير الشعب الألماني، فلا غرابة أن يقتني كاميرا فاخرة ليصوّر بها جمال المدينة وسحر طبيعتها الخلابة التي تحيط بها من الجهات الأربع.
يعثر الابن في أرشيف الجامعة المحفوظ منذ القرن العشرين على ملف الوالد، ويتمنى من المدارس والجامعات السورية أن تحذو حذو الألمان في المستقبل، كما عثر على صورة للوالد وهو في سن العشرين أو أصغر قليلا، يظهر فيها بابتسامة خجولة ونظرة حالمة وطلّة جميلة، ويسأله هل صورها هنا في درسدن، أو في دمشق بجانب السفارة الألمانية، أو في حلب؟
ثم يذكّر الابن أباه بمقولته المهمة عن أنّ الأرمن هم الذين جلبوا التصوير للمنطقة، ويلفت انتباهه إلى ورقة تذكير مكتوبة بخط اليد وباللغة العربية عن أشياء يجب أن ينجزها مثل التقاط صورة وأختام وتواقيع وطوابع وتصديق من السفارة السورية، وهي نفس الطلبات ذات البيروقراطية التي لم تتغير بعد.
كُتب تقرير عام 1958 عن اجتماع مع طلاب من الشرق الأوسط، وكان والده حينها مُعيّنا من قبل الشبيبة الألمانية لكي يتكلم مع الشركات في درسدن. فيتساءل خالد: هل كنت تتحدث عن الوحدة بين مصر وسوريا، أم تناقش نقابات العمّال، أم تتكلّم عن التعاون والاكتفاء الذاتي؟ كيف كنت تتابع الأخبار في الصحف والمجلات والراديو؟ هل كانت أخبار الشرق الأوسط؟ أم أنّ رفاقك في حلب كانوا يبعثون لك الرسائل؟
سُمح لخالد بالدخول إلى مبنى كلية الكيمياء القديمة الذي يخضع للترميم حاليا، على الرغم من اصطياد الحارس له متلبسا بهذه المخالفة، لكنه غضّ الطرف عنها بعد أن اعترف أن والده قد درس هنا قبل ستة عقود، فدخل ووجد في أرشيف الكلية ملصقات سوفياتية لبرنامج الفضاء “سبوتنيك”، وهم أول من غزا الفضاء بفضل السوفيات! لكنه يتساءل ساخرا: هل ما يزالون يغلقون الإنترنت في سوريا؟
“لماذا لا تردّ على الرسائل الصوتية يا أبي؟”
لا يكلّ الابن من مواعيده مع المحامية علّها تجد اختيارات أخرى، مثل دعوة من كفيل أو شركة أو منظمة إنسانية، أو على الأقل تأشيرة زيارة، عسى أن يلتقي بوالده مرة ثانية.
يواصل الأب استذكاراته، فبعد إقامته في درسدن ينتقل إلى ميرسبورغ، لكنه يسعل بقوة وبطريقة مُقلقة فينقطع الاتصال للمرة الخامسة، وعلى الرغم من مرض الأب فإنه يتواصل مع ابنه ويطلب منه الذهاب إلى جامعة “ميرسبورغ” ويخبرهم بنفس اللازمة التي تقول إنّ أباه كان يدرس هنا قبل 60 سنة أو أكثر قليلا، فالألمان يحبون هذه الحكاية ويرونها ممتعة.
على الرغم من تعب الأب فإنه يسرد لابنه قصة المرشد الألماني الذي رافق الطلبة الأجانب، حين دعاه ذات مرة إلى قريته الجميلة في تورينغن، وأمضى معه ليلة عيد الميلاد، لكن لا أحد يعرف هل هذا الصديق الآن حي أم ميت؟
لم يعد الوالد قادرا على سماع الصوت بشكل جيد، فهو مشوش وضعيف ومتقطع، ولا غرابة في طلبه من ابنه أن يبعث له رسالة صوتية، لكن الاتصال انقطع للمرة السادسة، وعندها ظل الابن يتساءل: لماذا لا ترد على الرسائل الصوتية يا أبي؟
خالد عبد الواحد.. منافسة في المحافل السينمائية الدولية
يمكن القول إن هذا الفيلم يتجاوز حدود التوثيق، ويندرج في الإطار التجريبي على صعيد الشكل والأنساق السردية، وهذا الأمر انطبق على فيلمه الوثائقي السابق “الفِناء الخلفي”، ويغوص في مفاهيم الذاكرة الفردية التي تتعالق مع الذاكرة الجمعية للشعب السوري الذي يسعى بشكل قوي لترميم ما قوّضته الحرب في ذاكرة الإنسان، قبل أن تقوّض بنيته الفوقية والتحتية.
بقي أن نقول إن خالد عبد الواحد من مواليد مدينة حمص، ولد عام 1975 في سوريا، درس الفنون الجميلة والتصميم الغرافيكي في مدرسة أدهم إسماعيل للفنون في دمشق وجامعة “فريدريك” في نيقوسيا بين عامي 1996-2000.
وقد قدّم عددا من أعمال فن الفيديو وعرضها في مهرجانات عالمية متعددة أبرزها “رصاصة” و”توج” (Tuj) و”شق في الذاكرة”، كما أنجز عددا من الأفلام الوثائقية من بينها “قنديل البحر” (2016)، و”الفِناء الخلفي” (2018)، والفيلم الوثائقي الطويل “البحر الأرجواني” (2020)، بالاشتراك مع المخرجة أمل الزقّوت، إضافة إلى فيلم “الخلفية” (2023) الحائز على الجائزة الكبرى لمهرجان مارسيليا السينمائي في فرنسا.