“العلَم”.. ألوان فرنسية تحاصرها العنصرية وعنف الشرطة

وجد الفرنسي ذو الأصل العربي ياسر اللواتي نفسَه فجأة تحت أضواء أكبر وسائل الإعلام الغربية شعبيّة، وذلك بسبب الاعتداءات الإرهابية في نوفمبر عام 2015، ودفعه نشاطه التطوعي السابق وإجادته اللغة الإنجليزية؛ لأن يكون صوتا للفرنسيين المسلمين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بالاتهامات وسوء الظن إثر تلك الاعتداءات.
يستعرض الفيلم الوثائقي “العلَم” (The Flag) للمخرج الفرنسي “جوزيف باريس” (2022) بعضا من النشاط المتواصل للناشط ياسر اللواتي منذ سنين، وفي الوقت نفسه يتعرض للأحداث الفرنسية الكبيرة من الأعوام الأربعين الماضية، كاشفا عن ممارسات عنصرية ما زالت تتصدر المشهد الفرنسي، وقد قادت إلى انتهاكات كبيرة يمر الفيلم على بعض منها.
يفتح الفيلم نيران النقد على مفهوم الهوية الفرنسية كما يراه سياسيون كبار مروا على البلد في العقود الماضية، فيبدأ زمن الفيلم بحديث للرئيس الراحل “جاك شيراك”، الذي يصف بثقة ما يعنيه كون المرء فرنسيا، فالفرنسي -كما يقول “شيراك”- عليه أن يحمل قيم الحرية والليبرالية ويبشّر بها.
ياسر اللواتي.. وجه المسلمين الصامد أمام العنصرية
يعرض الفيلم الوثائقي في بدايته مقابلة شديدة الغرابة لمذيعَين من قناة “سي أن أن” الأمريكية مع ياسر اللواتي بعد أيام قليلة من الحوادث الإرهابية عام 2015، وكان المذيعان يدفعانه لكي يعتذر عن أمر لم يقترفه، فيذكرانه بنبرة لائمة بغياب الإدانة الرسمية من الجالية المسلمة في فرنسا، وبالعدد الكبير من الفرنسيين المسلمين الذين انضموا لداعش، وبعلاقة هذا بعمليات باريس الإرهابية.
يصوّر الفيلم الوثائقي ياسر اللواتي وهو يتفرج على المقابلة التلفزيونية، وكان يُعلق عليها والألم بادٍ على وجهه، ويشاهد ردود الأفعال المنزعجة من المذيعَين الأمريكيين اللذين فشلا في انتزاع اعتراف إعلامي رنّان بخصوص الجالية المسلمة في فرنسا.
خاطب اللواتي مذيعَي “سي أن أن” قائلا: “نحن جميع الفرنسيين من مسلمين وغيرهم في صفّ واحد، لا ترتكبوا أي خطأ بظنكم غير ذلك”. كان هذا الخطاب الذي لم يحد عنه الشاب الفرنسي، ولقد كرس حياته من أجل الذود عنه والتحذير من عواقب العنصرية ضد المسلمين، فإنها ستكون مقدمة لقمع فئات أخرى من المجتمع الفرنسي بحجج أخرى.
“ماذا تريدون منا وأنتم داخلون بأسلحتكم هكذا؟”
يستعيد الفيلم الوثائقي الزمنَ المعتم الذي أعقب تفجيرات باريس، ويفعل ذلك عبر مادة أرشيفية ضخمة تتألف من تسجيلات للحكومة الفرنسية، وفيديوهات لاقتحام قوى الأمن الفرنسي لمساكن فرنسيين من أصول مسلمة، وهو ما تكرر مئات المرات عقب تفجيرات باريس.
يصور الفيلم أُمّا فرنسية تروي كيف دخلت قوات الأمن إلى شقتها في صباح هادئ لتعتقل ابنها المراهق، فتخاطب الشرطةَ الفرنسية قائلة: ماذا تريدون منا وأنتم داخلون بأسلحتكم هكذا؟ كانت تتذكر بحزن كبير ذلك اليوم الأسود الذي تبعته أيام عدة من القلق قبل أن يطلَق سراحُ ابنها.
كان ياسر اللواتي يدير مؤسسة “لجنة الحريات والعدالة للجميع” الفرنسية، وقريبا جدا مما يجري في فرنسا، خاصة فيما يتعلق بحال الفرنسيين المسلمين، ويقول إن 1% من الاعتقالات التي تلت انفجارات باريس هي لأشخاص متورطين في الإرهاب فعلا، أما الباقون فقد كانوا أبرياء بالكامل.

أعلنت فرنسا الرسمية الحرب على الإرهاب عام 2015، فأغلقت حدودها وبدأت سياسة أمنية جديدة عُدّت الأكثر تشدّدا في تاريخ فرنسا الحديث، وكان المسلمون أبرز ضحايا تلك السياسات، وعلى الرغم من أن بعض الضحايا في تفجيرات باريس كانوا فرنسيين من أصول شرق أوسطية، فإنهم تضرروا بما حدث مثل غيرهم.
مدينة نيس.. حاوية القصص المؤلمة والنصب الكاذب
ينتقل الفيلم مع شخصيته الرئيسة ياسر اللواتي إلى مدينة نيس في جنوب فرنسا، حيث وقعت العملية الإرهابية عام 2016، ونرى اللواتي يتجول على كورنيش المدينة الشهير، وهو موقع الحادثة التي قُتل فيها 84 شخصا، ويستعرض مع المخرج المناخَ العام الذي ساد المدينة وفرنسا في ذلك الحين، ثم يظهر الفيلم مقابلة مع امرأة فرنسية فقدت فردا من عائلتها، ويتحدث عن الخوف الذي يُكبّلها حتى اليوم.
يكشف ياسر أن ثلث ضحايا عملية نيس كانوا من المسلمين، فنرى في الفيلم مقابلات مع فرنسيين من أبناء المدينة، ينقل أحدهم قصة إمام جامع دفَن جثتين من عائلة واحدة من ضحايا العملية الإرهابية، ويتحدث شخص آخر من جامع آخر عن أجواء الخوف التي سادت وقتها، ويروي أن بعض الفرنسيين الغاضبين كانوا يدخلون المسجد ويرددون عبارات مُعادية للإسلام والمسلمين.
قبل أن يغادر فريق الفيلم المدينة، يلفت انتباهَ ياسر نصبٌ تذكاري وُضع في زاوية من كورنيش المدينة الشهير، استذكارا لنهاية الاحتلال الفرنسي للجزائر، ذلك البلد العربي الذي يوصف في النصب بأنه أرض فرنسية، وقد تكلم اللواتي بمرارة على المغالطات التاريخية التي يتضمنها النصب، والذهنية التي تقف خلف بقائه، إذ أنها ما زالت ترى شمال أفريقيا أرضا فرنسية.
احتجاجات العمال العرب.. أرشيف الشيطنة في الإعلام الفرنسي
يستعرض الفيلم أول احتجاجات العرب في فرنسا، عندما قرر عمال ذوو أصول عربية الاحتجاج على أجور العمل قبل حوالي أربعين عاما، ولكنها وُوجهت بالكثير من محاولات الشيطنة من جهات رسمية وإعلامية، ورُبطت هذه الاحتجاجات السلمية ذات الهدف المحدد بالحركات السياسية الإسلامية، كما ستوسم أحيانا بالإرهاب.

يعرض الفيلم مادة أرشيفية غنية من تلك السنوات، يظهر فيها الجيل الثاني من المهاجرين العرب في فرنسا، كما يستعيد مادة أرشيفية ضخمة من التلفزيون الفرنسي، كانت تربط أحيانا بين الثورة الإسلامية في إيران -التي كانت قد حدثت للتو-، وبين احتجاجات عمال فقراء ضمن حدود القانون الفرنسي، بل إن قناة تلفزيونية فرنسية كانت تقسم الشاشة لنصفين، الأول لاحتجاجات العمال العرب، والآخر لوصول الخميني إلى إيران.
رافقت الاحتجاجات أعمال عنف بين عمال من الأصول غير العربية، وعمال من الأصول العربية، بسبب رفض هؤلاء لإضراب العمال العرب، وينقل الفيلم الوثائقي مشاهد لعمّال عرب وهم مغطّون بالدماء بعد أن ضُربوا بالحجارة وأشياء أخرى.
معارك اللاجئين.. مناخ أسود في سماء باريس الساحرة
يتنقل الفيلم الوثائقي بين عدة قضايا حساسة من الواقع الفرنسي المشتعل، وهذه الانتقالات لم تكن دائما في مصلحة الفيلم، ولقد اجتهد المخرج كثيرا ليتخذ من غياب العدالة وأخطاء الدولة الفرنسية رابطا بين هذه القضايا، لكن بعض الانتقالات بين القضايا المتنوعة التي تناولها العمل الوثائقي كسرت المناخ السوداوي الخاص الذي طبع الثلث الأول من الفيلم.
يتناول الفيلم قضية اللاجئين في فرنسا، فيمرّ على أحداث منطقة كاليه البحرية التي شهدت عنفا كبيرا قبل أعوام، حين فرقت القوى الأمنية اللاجئين الذين كانوا يتجمعون للذهاب إلى بريطانيا، ويستعرض الفيلم مشاهد من تجمعات اللاجئين في قلب باريس، حيث يعيشون تحت الجسور، لكنهم كانوا يُبعدون بشكل دوري من أماكنهم، وكانت تُرمى أغراضهم، ومع ذلك فقد كانوا يعودون ويتجمعون مرة أخرى في اليوم التالي، في دورة لا تتوقف فيها المعاناة، في واحدة من أغنى مدن العالم.
عنف الشرطة.. قوانين تعود إلى عصر احتلال الجزائر
يخصّص الفيلم جزءا من وقته لقضية العنف المبالغ به الذي ينتهجه الأمن الفرنسي أحيانا ضد المدنيين، وهي القضية التي تُطل برأسها كل بضعة أعوام، بسبب ما تحصده من أرواح تكون في الغالب من ذوي الأصول العربية أو الأفريقية.

يظهر الفيلم احتجاجات تقوم بها منظمات مدنية فرنسية؛ للفت الانتباه لقضية العنف المبالغ فيه من بعض أفراد الشرطة الفرنسية، فنرى في أحد الاحتجاجات فرنسيين يصرخون بأسماء ضحاياهم، بينما كان آخرون يرفعون صورا لشباب قتلتهم الشرطة في حوادث معروفة.
تكشف خبيرة فرنسية في القانون أن بعض قوانين الشرطة الفرنسية اليوم، تعود لفترة احتلال الجزائر، عندما كانت الجزائر جزءا من فرنسا، وأن تلك القوانين الشديدة وُضعت لوقف الاحتجاجات العنيفة في الجزائر وقتها، والمفارقة هي أن القوانين ذاتها يعاني منها جزائريون يعيشون في فرنسا.
يتناول الفيلم سريعا -وبنفس قوة التحليل النقدي- قضايا الحجاب في المدارس والجامعات الفرنسية، ومنع لبس البوركيني على الشواطئ الفرنسية، ويعرض صورة فوتوغرافية شهيرة لشرطيين فرنسيين يحيطون بامرأة كانت تلبس البوركيني أثناء جلوسها على شاطئ فرنسي.
قيادة الطائرة.. حلم محرّم على المسلمين في الغرب
يكشف ياسر اللواتي في مشهد طويل قاتم عن حلمه الذي لم يتحقق بالعمل طيارا، إذ عانى من تبعات تفجيرات 11 من سبتمبر عام 2001، فقد أصبح عسيرا للغاية أن يحصل المسلمون على وظيفة طيار في الدول الغربية.
يصور الفيلم اللواتي بالقرب من أحد المطارات الفرنسية، حيث كان شاب آخر ذو أصل مسلم ينظر بحسرة إلى الطائرات التي لا تتوقف عن التحليق والهبوط في المطار، فيقترب منه ياسر قائلا: قدمتُ لأعمل طيارا أكثر من 1800 مرة، لكني لم أتلق جوابا أبدا.

يقود تعليق المخرج الصوتي الفيلم، ويعرّف بلغة شاعرية أحيانا ببعض القضايا غير الشهيرة للبعض، كما يهتم التعليق الصوتي بشخصية الفيلم الرئيسية، ويبدأ حوارا طويلا معها عبر زمن الفيلم، خاصة أنه يتكئ على هذه الشخصية بتركيبتها الثرية.
صناعة الفيلم.. تقنيات فنية تنطق بقتامة الواقع
اختار المخرج “جوزيف باريس” مقاربة معتمة لفيلمه، فانتزع الألوان من المشاهد الأرشيفية في الثلث الأول من الفيلم، لتضيف تقنية الأسود والأبيض قتامة مضاعفة لسوداوية المواضيع التي تتضمنها، كما انتزع المخرج البريق من مشاهد باريس الخارجية، لتبدو المدينة أحيانا كأنها شبكة من الطرق الضيقة التي لا تقود إلى أي وجهة.
وقد استعان الفيلم كثيرا بمؤثرات فنية خاصة، فتتشقق أحيانا الصور الفوتوغرافية التي يعرضها، أو تحترق أجزاء منها لتتفاعل مع السرد المتواصل أو التعليق الصوتي للمخرج، ويُسرع مشاهد بعينها أحيانا، أو يضيف مؤثرات خاصة على المادة الأرشيفية التي يعرضها.
يكتسب هذا الفيلم اليوم أهمية مضاعفة، فبعد الأحداث الأمنية الكبيرة التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس، إثر مقتل شاب ذي أصول عربية على أيدي الشرطة الفرنسية، يذهب المخرج في فيلمه إلى أقصى حدود المكاشفة، ويضع مرآة لنفسه ولأبناء بلده ليواجهوا تاريخهم وحاضرهم.