“ما وراء اليوتوبيا”.. هجرة محفوفة بالخطر من حاكم الحديد والنار

لا تخرج أنباء كثيرة عما يجري في كوريا الشمالية، فهذا البلد يعيش وراء ستار كثيف من السرية، لكن محاولات الفرار منه لا تتوقف مع أنها رحلة مليئة بالخطر، على الرغم من طغيان الدعاية التي تزعم أن الشعب يعيش في رخاء ورفاهية ورضا تامٍّ عن الزعيم الأوحد “كيم جونغ أون” الذي ورث المنصب أبا عن جد، وعلى الرغم من الطغيان والاستبداد.

هذا ما يصوره الفيلم الوثائقي الطويل الجديد “فيما وراء اليوتوبيا” (Beyond Utopia) للمخرجة الأمريكية “مادلين غافين” (2023)، ولقد تضمن الفيلم لأول مرة لقطات صُوّرت سرا داخل البلد، لتكشف الكثير من الحقائق المخزية عما يجري هناك من قمع وإذلال للمواطنين الذين يتجرؤون على محاولة الفرار.

يتابع فريق التصوير عائلة “رو” المكونة من خمسة أفراد، كانت تشرع في الفرار من كوريا الشمالية في رحلة مرعبة داخل الغابات المظلمة وعبر الجبال الوعرة، ويخبرنا صناع الفيلم من البداية أن الصور واللقطات التي يتضمنها الفيلم ليست فقط من تصوير فريق التصوير المحترف، بل اشترك في التصوير أيضا كثير من المتعاونين في شبكة التهريب السرية، لذلك نرى لقطات كثيرة مصورة بواسطة كاميرات الهواتف المحمولة، من دون إضاءة مناسبة أو في ظلام الليل على ضوء القمر أو المصباح اليدوي.

جمعية القس المهاجر.. ملاذ الفارين من جحيم الشمال

تعلّق المخرجة “مادلين غافين” صوتيا على بعض مشاهد ولقطات الفيلم، ولكننا نرى معظم الأحداث والتفاصيل من خلال ما يرويه القس “سيونغ أون كيم” الذي فر إلى كوريا الجنوبية قبل 20 عاما، ولكنه عانى كثيرا نتيجة فراره، فقد استقرت في ذاكرته صورة الأطفال الجوعى الذين يعانون من الفقر والتشرد في شوارع كوريا الشمالية، وهذا ما دفعه لأن يهب حياته لمساعدة أبناء جلدته الذين ينشدون الحرية.

أنشأ القس “سيونغ أون كيم” جمعية خيرية تقوم على التبرعات، وتعمل من أجل مساعدة الراغبين في الفرار، وهي تعتمد على شبكة من المتعاونين داخل كوريا الشمالية وفي الدول المجاورة، ومنهم ضباط في الشرطة، وبعض من المسؤولين الفاسدين المتعاونين في عمليات تهريب البشر خارج الستار الحديدي، ويقول إنه ساعد حوالي ألف شخص على الفرار خلال السنوات العشر الماضية.

ويروي لنا أنه أراد لزوجته -التي كانت ضابطة في الجيش- أن تلحق به في كوريا الجنوبية، لكنه لم يكن يعرف كيف يجد الطريقة أو الطريق، وعلى الرغم من أن المراقبة على الحدود لم تكن كما هي الآن، فلقد نجحت المرأة في عبور النهر، والتقى بها في مقر الأبرشية في الصين.

القس “سيونغ أون كيم”، الذي كون الشبكة السرية لتهريب المنشقين

يسلط الفيلم التركيز على زوجته أثناء لقائهما إذ وجدته -بعد كل هذا الغياب- بدينا، مع أنه كان قصيرا في السابق، فبدا لها مثل “كيم جونغ إيل” وهو والد الحاكم الحالي، وقد حكم كوريا الشمالية من 1994-2011، ثم تستطرد ضاحكة إن الرجال في كوريا الشمالية نحيلو الجسد، ويعانون من مشاق العمل والجوع، لذا أصبحت تطلق عليه -على سبيل المزاح- “كيم جونغ إيل”.

كوريا الجنوبية.. قبلة الهاربين من الموت البطيء

أقام نظام “كيم جونغ أون” سياجا مكهربا حول حدود بلاده مع كوريا الجنوبية، ونشر عددا كبيرا من الحراس لتعقب كل من يحاول الهرب وإنزال أشد العقاب به، لذلك أصبح من المستحيل- كما يقول “جونغ”- العبور من الشمال إلى الجنوب بشكل مباشر.

ويرغب معظم الفارين من كوريا الشمالية باللجوء إلى الجارة الجنوبية؛ لأنهم يعتبرونها امتدادا طبيعيا لبلدهم وشعبهم، فهي تحمل نفس العادات والتقاليد واللغة المشتركة، كما أن للكثير منهم أقارب فيها.

يتحتّم تهريب الأشخاص في حالة تبدو مستحيلة كهذه -كما يشرح القس كيم- بداية من داخل حدود الصين، ثم الانتقال إلى لاوس وفيتنام، وهي ثلاث دول خاضعة لأنظمة حكم شيوعية ترتبط بعلاقات جيدة مع كوريا الشمالية، وكثيرا ما يقع الشخص الهارب في أيدي السلطات بإحدى هذه البلدان، ثم يُرحل ويُسلّم للسلطات في كوريا الشمالية، ويتعرض للتعذيب الشديد، وقد يُعدم أو -في أفضل الأحوال- يُرسل إلى معسكر اعتقال جماعي حيث يلقى مصيره ببطء.

دروب المنشقين.. رحلة الثلوج والجبال والحراسة المشددة

نشاهد في بداية الفيلم القس “كيم” وهو يتلقى مكالمة هاتفية من رجل يخبره بأن سبعة أشخاص منشقين وقعوا في قبضة السلطات الصينية، وقد رُحلوا إلى كوريا الشمالية، ويخبره أن السلطات وضعت آلة تسجيل صغيرة داخل لعبة كان يلهو بها أحد أطفال العائلة، وبالتالي استطاعت مراقبة المنشقين والإيقاع بهم.

“هيونسيو لي” التي تروي تجربتها في الفرار

ثم يشرح “كيم” لمخرجة الفيلم كيف أصبحت الحدود محصّنة مع الصين، وأقيمت عليها مواقع متعددة للمراقبة، وهو يعرض لنا على جهاز الحاسوب الشخصي صورا التقُطت سرا لتلك المواقع في سلسلة الجبال الوعرة.

يدور الفيلم حول ثلاثة محاور، الأول منها يشغل المساحة الأكبر، فنتابع من خلال التصوير السري رحلة عائلة “رو” المكونة من خمسة أشخاص هم الجدة والأب والأم والطفلان، ويرتب القس “كيم” أمر هروبهم من كوريا الشمالية.

يتعين على جميع أفراد العائلة -بما فيهم الجدة العجوز الثمانينية- عبور نهر محاط بالحراسة المشددة، ثم تسلق جبل شديد الوعورة مغطى بالثلج ليلا، ثم قطع مسافة طويلة في الصين سرا في سيارة يقودها أحد المتعاونين إلى منطقة محددة، ثم التسلل داخل منطقة معينة في فيتنام، وبعدها ينقل العائلة متعاون آخر ويأخذها إلى لاوس، ثم إلى المحطة الأخيرة في تايلاند.

عائلة “رو”.. مغامرة مثيرة تحبس الأنفاس

يُحظر استخدام الهواتف المحمولة في كوريا الشمالية، لذلك يلجأ المتعاونون إلى منطقة بعيدة نائية حتى يجروا اتصالاتهم السرية، ويتعين عليهم -كما نرى في الفيلم- إنهاء المكالمة بسرعة قبل أن يُكشف أمرهم.

يكتشف القس خلال رحلة عائلة “رو” في الجبال أن المتعاونين يدورون بهم في حلقة مفرغة؛ ليشعروهم بالإجهاد ويستجيبوا لمطالبهم بالحصول على مزيد من المال، وبالتالي يقضي أفراد العائلة ومعهم القس “كيم” فترة زمنية طويلة قبل بلوغ الأراضي الصينية.

يتعين على العائلة -كما يشرح لهم القس “كيم”- أن يفترقوا عنه وعن المتعاونين، وأن يقطعوا الطريق العام القريب من الحدود للفت أنظار شرطة تايلاند، حيث ستقبض عليهم وتسوقهم إلى مركز إيواء تمهيدا لترحيلهم إلى كوريا الجنوبية، وذلك لأن تايلاند تدعم الفارين من نظام “كيم جونغ أون” الديكتاتوري.

“سويون لي” الأم التي فقدت ابنها بعد محاولته الفاشلة في الفرار

نشاهد هذه المشاهد وكأننا أمام أحد أفلام الإثارة البوليسية، فحسب تطور الأحداث التي تصور ما يقع على أرض الواقع، يمكن في أي لحظة أن يتعرض أفراد العائلة للاعتقال.

تتوقف السيارة التي تقلّهم عند فناء منزل فسيح في فيتنام، وقد استؤجر المنزل لهم بشكل خاص لكي يقضوا فيه بضعة أيام قبل المرحلة الثانية، وترصد المخرجة ردود فعل أفراد العائلة على العيش في منزل من هذا النوع، إذ يحوي ماء وأشجارا وحديقة على عكس المنازل في كوريا الشمالية، وتصور رد فعل الطفلين والجميع أمام الحلوى وأنواع الفاكهة التي لا يعرفونها.

بركان القلق.. مشاعر أمّ لن ترى ابنها المغامر أبدا

يتقاطع المحور الثاني من الفيلم مع مغامرة العائلة، فبينما تنجح العائلة في فرارها إلى الحرية، نشاهد خلال المحور الثاني امرأة تدعى “سويون لي” من كوريا الشمالية، وقد نجحت قبل 10 سنوات في الفرار إلى كوريا الجنوبية، وانفصلت عن زوجها وابنها الذي يبلغ 17 عاما، ونراها تكلم ابنها هاتفيا، وتشجعه على الالتحاق بها في كوريا الجنوبية، فيقبل الفتى المغامرة.

تتوالى الاتصالات مع الأم المعذبة التي تجلس فوق بركان من القلق، وتتوق لسماع أنباء طيبة عن نجاح ابنها في مغادرة كوريا الشمالية، وتصف للمخرجة عذاب الانتظار لعشر سنوات، وتقول إنها اشترت له الكثير من الملابس، على الرغم من أنها لا تعرف كيف أصبح مقاسه الآن، ولا الألوان التي يحبها، وتقول إنها تريد أن تجعله يبدو كالكوريين الجنوبيين، إنها لم تره قط منذ فرارها؛ لأن والده منعه من محاولة اللحاق بها، فزوجها السابق يؤمن بالنظام ولا يرى له بديلا.

تأتي الأنباء السيئة بعد طول انتظار، وتعلم الأم أن ابنها نجح في عبور النهر والجبل والتسلل إلى الصين، لكن السلطات الصينية ألقت القبض عليه وأعادته للسلطات في كوريا الشمالية، وبعد فترة تعرف الأم من أحد المتعاونين في الداخل أن ابنها يُستجوب، ثم يأتي خبر نقله إلى أحد معسكرات التعذيب، وتعرف حينها أنها لن تراه أبدا.

“ليس من الممكن مقارنتها إلا بألمانيا النازية”

يصور المحور الثالث في الفيلم مقابلات مع بعض الفارّين الذين استقروا في كوريا الجنوبية، ويتحدثون عن تجربتهم في الفرار، ويروون الكثير عما يحدث في الشمال، ويتحدث أحد الخبراء في شؤون الحياة في كوريا الشمالية، فيقول: إنه ليس من الممكن مقارنتها إلا بألمانيا النازية، لأنها ترتكب أبشع الانتهاكات لحقوق الإنسان، في تحدٍّ سافر للعالم المتحضر كله.

القس مع فريق الفيلم

ثم نشاهد في مناظر مصورة سرا تعذيب شخص حاول الفرار داخل إحدى الزنازين، حيث يستخدمون أساليب الضرب والركل والصفع والشتائم، ثم نشاهد إعدام عدد من المنشقين بإطلاق الرصاص عليهم في منطقة جبلية نائية.

يقول الخبير: إن المنشق الذي يُقبض عليه أثناء محاولته الفرار، يُرمى بعيدا في أعماق الجبال، حيث يتركونه وحده لكي يلقى مصيره بالموت جوعا، فلا يمكنه العودة أو الفرار مجددا.

“هيونسيو لي”.. شهادة ناجية عن الجحيم الكوري

كان ممن نجح في الفرار قبل عدة سنوات فتاة تدعى “هيونسيو لي”، نراها تصف انتشار الجوع لدرجة أن كثيرين يسقطون ويلقون مصرعهم وتتمدد جثثهم في الشوارع، ونرى هذا مدعوما بصور التُقطت سرا.

ثم تتحدث عن جحيم الحياة في كوريا الشمالية قائلة: إنه من غير المسموح أن يتخلص الناس من البراز، فعليهم أولا أن يتبرزوا في مراحيض عامة بدائية، عبارة عن حفرة في الأرض داخل كوخ خشبي بدائي، ثم يتعين عليهم بعد ذلك تجميع الفضلات في أكياس كبيرة يحملونها على ظهورهم- كما نرى في الفيلم-، وتسليمها للسلطات لكي توزعها على الفلاحين لاستخدامها في المزارع كسماد، وكان من يقوم بتسليم كمية أكبر يحصل على حفنة من الأرز، على سبيل المكافأة.

ويروي أحد الناجين أن صديقا له أراد أن يلف سيجارة، فاقتطع قطعة صغيرة من صحيفة تحوي صورة للزعيم “كيم يونغ إيل”، فقُبض عليه وأُودع في أحد معسكرات الاعتقال، حيث تعرض للتعذيب الشديد حتى مات.

جدة العائلة.. عجوز متشبعة بروايات التضليل الكاذبة

لا تبدو جدة عائلة “رو” ناقمة على السلطات، فالخوف يلجمها، والخضوع الطويل لغسيل المخ يجعلها تكرر كثيرا أن الزعيم الشاب يبذل كل ما بوسعه من أجل إصلاح الأحوال، وأنها كانت دائما مستعدة لبذل كل ما يمكنها؛ لإدخال السعادة على قلب الزعيم الذي لا شك في إخلاصه، إذ أصبح دور الشعب هو إرضاء الزعيم وليس العكس.

تصوير الجدة وهي تتحدث بحرية لأول مرة

نشأت الجدة منذ طفولتها في ظل النظام الشيوعي حتى تشبعت بالدعاية، ومع الانتقال من بلد إلى آخر خلال رحلة الفرار، والتعرف على الكثير من الأمور الخافية، ومشاهدة اللقطات والصور التي تكشف الطبيعة الوحشية والتضليل الإعلامي لنظام الحكم في كوريا الشمالية، تبدأ في تغيير رأيها ولو على استحياء.

لم تكن الجدة تريد الفرار لكنها تقول إنها لا يمكن أن تتخلى عن ابنتها، وأما الطفلان فنعرف أنهما تعرضا لغسيل المخ من خلال نظام التعليم والتلقين المستمر، مثل سائر الأطفال هناك.

أطفال كوريا الشمالية.. مادة دعائية تؤدي إلى الهلاك

إننا أمام قصة القهر الذي زرع الخوف، وكشف الحقائق التي لا يعرفها العالم بسبب الدعاية التي تصور كوريا الشمالية، باعتبارها دولة قوية على أبواب التسلح النووي، في حين أن مواطنيها يموتون جوعا.

يروي من نجحوا في الفرار، كيف يُدرَّب الأطفال على المشاركة في الاستعراضات الرياضية الضخمة التي تُقام سنويا في الاحتفالات الرسمية، لدرجة أن بعضا منهم كان يسقط ميتا نتيجة الإجهاد الشديد وسوء التغذية، وكان الكثير من الأطفال يتبولون أثناء التدريبات؛ لأن المدربين يمنعونهم من الذهاب لدورات المياه، ويرغمونهم على الاستمرار لساعات طويلة في التدريبات الشاقة التي نشاهد نتائجها في النهاية على أرضية الملعب الضخم كمادة دعائية ملونة مدهشة، القصد منها هو تجسيد الروح الجماعية.

القس “كيم”.. شمعة أمل توشك على الانطفاء

يلمس الفيلم في الوقت نفسه تلك الشجاعة الهائلة التي تدفع كثيرين إلى المخاطرة بحياتهم من أجل الفرار إلى الحرية، هربا مما يعدّه البعض أسوأ نظام سياسي على وجه الأرض، ومن أجل نقل التجربة إلى غيرهم وتقديم يد المساعدة إليهم.

يروي لنا القس “كيم” أنه انزلق مؤخرا أثناء مساعدته لبعض الفارين في الجبل، وأصيب بكسر في كاحله، ولم يعد بإمكانه مواصلة العمل بنفسه كما كان يفعل، خصوصا بعد تقدمه في العمر. لكننا نراه في تجربته الأخيرة مع تلك العائلة، يشرف بنفسه على انتقال أفرادها بين البلدان المختلفة حتى يصلوا إلى بر الأمان في تايلاند، وسنعرف من خلال اتصالات المتعاونين فيما بعد، أنهم انتقلوا إلى كوريا الجنوبية.

ولادة المسيح.. اقتباس ديني لزعيم المدينة الفاضلة

تروي الجدة أيضا ما يؤكد فكرة أن النظام في كوريا الشمالية يستخدم القصص الدينية المتعلقة بولادة المسيح ودوره، فبعد أن يوضع الزعيم محل المسيح، يصوَّر للشعب أنه قادر على الإتيان بالمعجزات، وأنه يحقق لشعبه “اليوتوبيا” (المدينة الفاضلة) التي يكشف لنا الفيلم أنها مجرد وهم كبير.

“ما وراء اليوتوبيا” عمل وثائقي فريد، وعلى الرغم من عدم وضوح بعض اللقطات بسبب تجربة التصوير السري، فإنه يصور قصة حقيقية تفيض بالحياة، عن سعي الإنسان الدائم من أجل الحرية.


إعلان