“جامعو العبوات البلاستيكية”.. يوميات الغجر في أكبر مكبّ للنفايات في بلغراد

لا يمكن تصنيف فيلم “جامعو العبوات البلاستيكية” للمخرج الصربي “نيمانيا فوينوفيتش” ضمن أفلام البيئة ووثائقياتها المُميزة فقط، فهو فيلم إثنوغرافي له علاقة مباشرة بالغجر الذين نشأوا في جنوب آسيا، وانتشروا في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، ويتحدثون لغة “الروما”، ولديهم تراث ثقافي رصين لم يتآكل على مر الأزمان، على الرغم من أنماط حياتهم المتنقلة، ونزوعهم إلى السكن والإقامة في هوامش الحياة المدنية.

يتمحور الفيلم أيضا على العمل الشاق لهذه الفئة المهمشة المنبوذة التي يصل تعدادها في صربيا إلى 147 ألفا، وفقا لإحصاء عام 2011، بينما تُشير التقديرات غير الرسمية إلى أن عددهم قد يصل إلى نصف مليون مواطن لا يجدون سوى هذه المهن الخطيرة والمُرهقة جسديا في مكب نفاية “فينكا”، وهو واحد من أكبر 10 مكبّات نفايات في العالم، وبين أكبر مكبَّين مُلوثين في أوروبا.

وأكثر من ذلك، فإن هذا الفيلم يلامس الجانب التاريخي المُوغل في القِدم، فهذا المكبّ يقع على مسافة بضعة كيلومترات من “فينكا”، وهو موقع أثري قديم يعود تاريخه إلى سبعة آلاف سنة في إحدى ضواحي بلغراد الآخذة في التوسع على نهر الدانوب.

وبما أنّ مساحة هذا المكب تبلغ خمسة هكتارات؛ وهي مساحة كبيرة تساوي 50 ألف متر مربع، فإنها تجذب آلافا مؤلفة من النوارس الباحثة عما يسدّ رمقها من فتات الأطعمة، فهي تتخلل نفايات مدينة بلغراد المتنوعة التي يعيش فيها أكثر من مليون ونصف المليون مواطن صربي، ويخلّفون أطنانا من النفايات يستقبلها مكبّ “فينكا” يوميا. وقد أضفت التماثيل القديمة وسحابات النوارس مشهدا مُذهلا وآسرا يصعب أن ينساه المتلقي، مُذكرا إيانا بالسينما الشعرية والشاعرية في آن معا.

فينكا.. مهد الثقافة الأوروبية وأكبر مكبّ للنفايات

لا يريد المخرج “نيمانيا فوينوفيتش” أن يغوص في التاريخ البعيد لحضارة الـ”فينكا”، بل يكتفي بالإشارة إليها والتنويه بأهميتها الحضارية، فـ”مدينة فينكا القديمة كانت مطار فرانكفورت في العصر الحجري” كما يرى عالم الآثار “ميروسلاف. ك.”، وهي مهد الثقافة الأوروبية قبل 7 آلاف سنة من هذا التاريخ، فقد احتضنت أولى المجمّعات السكنية في أوروبا، لكنها اليوم تضم أكبر مكبّ للنفايات غير الصحية في العالم، وقد أنشئ منذ 50 سنة مضت، ولا يزال حتى الآن يلوّث سماء مدينة بلغراد بالغازات السامة، ويسبب الكثير من الأمراض الفتّاكة لأبناء هذه المدينة المسترخية على ضفاف الدانوب.

يفتتح المخرج فيلمه بمشاهِد لرجال الإطفاء الصربيين، وهم يطفئون جبالا من أكداس القمامة المُحترقة، فتبدو مثل بقايا بركان مشتعل، تنبعث من أطرافه ألسنة النار وأعمدة الدخان الملوثة التي تدفعها الرياح، لتغطّي سماء المدينة من الجهات الأربع.

لم يعتمد “نيمانيا فوينوفيتش” على تقنية المقابلات الشخصية أو التعليق الصوتي، بل اكتفى ببعض المقتبسات والحوارات العفوية المباشرة التي تدور حول غلّة العمل، وجمع أكبر كمية ممكنة من العبوات البلاستيكية وورق الألمنيوم، من أجل بيعها إلى أناس محددين يدفعون ثمنها المناسب قياسا ببلد مثل صربيا.

جامعو العبوات يلتقطون أنفاسهم بعد ساعات العمل المضني.

ويجب ألا ننسى أن قادة المجموعات والعمّال مرتبطون بأمراء الحرب السابقين الذين يديرون تجارة السوق السوداء حاليا، حتى وإن تعلّق الأمر ببيع العلب البلاستيكية الفارغة، لكننا نسمع بهم ولا نراهم، وحضورهم في هذا الفيلم هو أشبه بالأصابع الخفيّة التي نشعر بها ولا نراها، لأنها تفضّل العيش في الظلام الدامس، ولا تزيح الأقنعة عن وجوهها القبيحة الغارقة في الجشع وأكل المال الحرام.

قانون المكب.. مسرح السرقات وغزوات الذئاب

يقسم المخرج “فوينوفيتش” فيلمه إلى ثلاثة أقسام متساوية في الطول تقريبا، وهي “مجموعة القائد”، و”الذئاب الجائعة”، و”الديناصورات”. وعلى الرغم من أن جميع عمّال هذه المجموعات هم من الغجر المهمشين، فإنهم لا يتورعون عن سرقة بعضهم، وإلحاق الأذى بأصدقائهم ومعارفهم وأبناء جلدتهم.

وقد ارتأى المخرج أن يركّز على قائد المجموعة “يانيكا”، ثم ينتقل تدريجيا إلى عائلته المتألفة من خمسة أفراد يعتمدون عليه إلى حد كبير. ومثل بقية المجموعات الأخرى فإن العمال متكاسلون، ويتأخرون في الاستيقاظ الصباحي، ولا يذهبون إلى مكبّ النفايات إلا بشق الأنفس، مع أن هذا العمل الشاق يوفر لهم قرابة ألف يورو شهريا، وهو مبلغ جيد في بلد مثل صربيا، ومع ذلك فإن بعض العمّال يتذمرون ويختلقون المشاكل لقائدهم “يانيكا”، خاصة “سلافيسا” الذي يطمح أن يكون قائد مجموعة ذات يوم.

لا يمرّ يوم من دون سرقات في مكبّ النفايات، فـ”يانيكا” لا يُعلّم أكياسه الكبيرة بإشارة معيّنة، فلا غرابة إذن أن تكون هدفا سهلا لقادة المجموعات الأخرى الذين يتراوح عددهم بين 10-14 قائدا يشرفون على 200 عامل تقريبا. وذات يوم سرقوا من “يانيكا” سبعة أكياس ممتلئة، فاستشاط “المسؤول الكبير” غضبا، وأسمعهُ كلاما جارحا لم يعهدهُ من قبل، واستشهد بمقولة سمعها ذات يوم وحفظها عن ظهر قلب مفادها “إذا لم يكن القائد قويا مثل شوارزينغر، فسوف تأكله الذئاب الجائعة”.

جامعو العبوات البلاستيكية يجرون أكياسهم الثقيلة

يُنصح العمال الجُدد بتوخي الحذر من حركة الجرّافات العملاقة التي لا يمتلك سائقوها مرايا خلفية، ومن المستحسن أن يبتعد عنها مسافة نصف متر في أقل تقدير، وطلب منه الانتباه إلى قطع الخرسانة التي يمكن أن تصيبه بجروح عميقة، وأشار إليه بضرورة ارتداء الصدرية، والقمصان ذات الأردان الطويلة.

محاربة التلوث.. خطط لإنقاذ المدينة الفاسدة

يشكّل التعالق الخبري تقنية مهمة في هذا الفيلم، فالقنوات الإذاعية والتلفزيونية هي التي تحيطنا علما بمنشأة التدوير التي ستنفذها شركات فرنسية ويابانية كي تنقذ مدينة بلغراد، أو “المدينة البيضاء” من كارثة هذا المكبّ، وما يسببه من تلوث لسماء المدينة، ويلحق أضرارا بساكينها.

وعلى الرغم من قدوم هذه الشركات الأوروبية والعالمية، فإن جامعي العبوات البلاستيكية يؤمنون بأن الصرب لا يطبقون القواعد والمعايير الأوروبية فيما يتعلّق بحماية البيئة.

يركّز المخرج على شخصية “يانيكا” خاصة، وعلى أسرته بشكل عام كي يعطينا فكرة عميقة عن حياة الأسرة الغجرية، وطريقة تفكير أبنائها. فـ”يانيكا” الأميّ هو المعيل الوحيد للأسرة، وسنعرف من خلال مكالمته الهاتفية بأنه مطلّق، ويريد أن يدفع النفقة على شكل أقساط منتظمة تصل إلى 50 يورو شهريا، لكي لا تؤثر على دخل الأسرة التي يعيلها، كما أنه يريد أن يتفادى السجن، فقد جرّبه سابقا وذاق مرارته، وهذا دليل على أن المواطن الغجري العامل تحديدا ملتزم بالقوانين، ولا يفكر بتجاوزها وانتهاكها إلاّ ما ندر.

ثمة عائلة أخرى تعاني على مدى 20 عاما من سرقة أكياسها المعبأة بالعبوات البلاستيكية وورق الألمنيوم من قِبل “ستيفانا” وصديقها “بلانكوف” اللذَين تربطهما علاقات طيبة مع الشرطة المحلية، فهما يقدّمان المشروبات الروحية، ويرشوان بعض أفراد الشرطة حينما تُرفع ضدهما شكاوى تتعلق بالسرقة، وينجوان من محاسبة القانون لهما.

“يانيكا”.. قائد المجموعة المتملص من مسؤولياته

يعرّي الفصلُ الثاني الذي عنونهُ المخرج بـ”الذئاب الجائعة” الشخصيةَ الغجرية، سواء أكان صاحبها قائدا لمجموعة أو أحد الأفراد المنضوين تحت لوائها، فغالبيتهم يقصّون شعورهم قصات حديثة، ويتعاطون المخدرات التي تنقلهم إلى عالم وردي يحققون فيه جُلّ ما يحلمون به في عالم الوهم والخيال، وحينما تغادرهم النشوة يعودون ثانية إلى عالمهم المزري، سواء في مكبّ النفايات أو بيوتهم المتهالكة عند حافات المدن التي يقيمون فيها.

يانيكا يتطلع إلى نفايات المكب قبل أن يتخلى عن قيادة مجموعته

تتفاقم الأزمة بين “يانيكا” و”مسؤوله الكبير” الذي نسمعه يتحدث ولا نراه، ويصل الأمر إلى القطيعة، حين يطلب “يانيكا” التوقف عن العمل قائدا للمجموعة، كما يرجو من مسؤوله أن يبعث مستحقاته النقدية بيد “سلافيسا” المرشح لقيادة المجموعة، فالقائد يشعر أن بعض أفراد هذه المجموعة يخدعونه ويخونوه بشكل من الأشكال، فلا غرابة أن يختار بديلا لـ”يانيكا” الذي طعنه في الظهر، فمن أهم شروط القيادة الولاء والطاعة العمياء، و”أن تكون قائدا للمجموعة، فإن ذلك يشبه قيادة سيارة فولكس فاجن جولف 3. إنها رحلة سريعة، لكنها تكلف الكثير”.

وحينما يستفسر المسؤول الكبير عن سبب تخلّيه عن مهمة القيادة، لا يجد “يانيكا” تبريرا مُقنعا أكثر من أنه لم يعد قادرا على تحمّل هؤلاء الشباب الكُسالى والأفظاظ الذين لا ينفذوا أوامره، كما أنه يريد أن يعيش حياته الخاصة، وأن يحصل على النقود لأسرته التي بذل جهودا كبيرة من أجل تربيتها في بيئة اجتماعية فقيرة وبائسة.

تربي أسرة “يانيكا” بعض الحيوانات الأليفة مثل الخنزير البري، والفرس التي بدت مريضة، ولعلها تقف على حافة الموت كما قال الطبيب البيطري، وأوضح بأن فرصة نجاتها ضئيلة جدا، كما أن والد “يانيكا” بدا مريضا هو الآخر، ولعله يستعد إلى الرحيل الأبدي.

“المكبّ بحيرة صغيرة مملوءة بالتماسيح”

لم يشرع “يانيكا” بعمله الجديد في المكبّ منذ أن توقف عن عمله السابق قائدا للمجموعة، فقد أُصيب بالزكام، وحينما تماثل للشفاء اشتعلت النيران في أرجاء المكب، وأصبح الدخان كثيفا لا يُطاق، لكن على الإنسان الغجري أن يعمل حتى في أشد الظروف خطورة.

آلاف النوارس تغطي سماء مكبّ النفايات الملوث بحثًا عن الطعام

تؤكد السلطات الرسمية بأن نيران الحرائق قد باتت تحت السيطرة، ولا أخطار جديّة من انتشارها، وأن غيوم الدخان المتكاثفة بدأت تتكسر وتتلاشى في السماء، وأن هذه المشكلة المستعصية منذ أربعين عاما تحتاج إلى خصخصة المكبّ وتحديثه، وأن بلدية المدينة قد أخذت على عاتقها هذه المهمة الكبيرة التي ستنقذ سكان العاصمة من هذا التلوّث الخطير، كما ستخلّص “فنيكا” والدانوب من امتدادات المكبّ الذي يتوسع كل يوم على حساب صحة الناس وبيئتهم الجميلة المعطاء.

ينضوي الفصل الثالث والأخير تحت عنوان “الديناصورات” ولا مجال لربّانين في سفينة واحدة، فالناس “يقولون إنّ المكبّ هو بحيرة صغيرة مملوءة بالتماسيح، لكنّ هناك تمساحا هو الرئيس”، ولا يستطيع أحد من العمال أن يناقشه أو يعترض عليه حتى وإن كان قائدا سابقا. وعلى الرغم من سير العمل، فإن الجميع قادة وعمّالا يعرفون بأن نصف المكب قد أُغلق حتى الآن، وأن العاملين في النصف الآخر ينتظرون قدوم الشركتين الفرنسية واليابانية اللتين ستبنيان منشأة التدوير الحديثة.

يفارق والد “تانيكا” الحياة، ويزور الابن المقبرةَ مُخاطبا أباه بأنّ “العشب سوف ينمو على قبرك” فلترقد روحك بسلام. تصدر أوامر منع دخول بعض العاملين إلى المكبّ، من بينهم “تانيكا” و”سلافيسا”، فيطلب منه بعض الأصدقاء أن يذهب إلى بلغراد، لينهمك في جمع الحديد، بدلا من جمع العبوات البلاستيكية.

تلاشي الديناصورات.. نهاية مفاجئة لمكب بلغراد الملوث

يتصدر نشرات الأخبار الصباحية خبر الشروع ببناء المنشأة الجديدة التي ستكون قادرة على تدوير نفايات “فنيكا” خلال الـ25 سنة القادمة، وستقلّ نسبة الانبعاثات الغازية إلى أقصى درجة ممكنة، وأن جامعي العبوات البلاستيكية قد اختفوا وتلاشوا مثل الديناصورات التي غابت عن وجه الطبيعة من دون سابق إنذار.

مخرج فيلم “جامعو العبوات البلاستيكية” نيمانيا فوينوفيتش

ثمة عامل يحرق أثاث منزله بما فيه الأرائك والأسرّة والنوافذ الخشبية، ويتطلع إلى مهنة جديدة بعد أن ودّع العمل في هذا المكب الذي عمل فيه لسنوات طويلة، ويريد أن يرمم بيته القديم، ويضفي عليه لمسات حديثة تتلاءم مع البيئة النظيفة، والسماء الصافية التي لا تلوثها الغازات السامة التي فتكت بأهالي بلغراد طوال خمسين عاما.

يمسك “يانيكا” بنورس جميل، ثم يداعبه ويمسّد رأسه ويخاطبه بجملة أخيرة يختم بها الفيلم: “لو كانت ابنتي هنا فإنها ستلعب مع هذا النورس الجميل”. ولم ينسَ المخرج أن يُهدي هذا الفيلم إلى العاملين في مكبّ نفايات “فينكا”، وإلى جامعي العبوات البلاستيكية في العالم أجمع.

وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن “نيمانيا فوينوفيتش” قد درس الإخراج السينمائي في كلية الفنون المسرحية في بلغراد، وقد أنجز حتى الآن أربعة أفلام وثائقية، وهي على التوالي “الواقع” (Reality) عام 2011 الذي حصد جوائز في مهرجانات محلية ودولية، و”أين نادية؟” (Where Is Nadia) عام 2013، و”المسافات” (Las Distancias) عام 2017، وفيلم “جامعو العبوات البلاستيكية” (Bottlemen) عام 2023، وقد عُرض في مركز الفيلم السلوفيني، ومهرجان سراييفو السينمائي لهذا العام.


إعلان