“سيدة الصمت”.. سلسلة من جرائم القتل تستهدف عجائز المكسيك

دائما ما تمثل الجريمة موضوعا أثيرا للسينما، ولعل ذلك يعود إلى ما فيها من غموض وتشويق، بقدر ما يعود خصوصية القصّ نفسه، فهو وفق الفيلسوف الفرنسي “بول ريكور” وسيط يتخذه الإنسان منطلَقا لمحاولة فهم النوازع البشرية العميقة، خيرها وشرّها. وله كل الوجاهة في ذلك، ألم يُشكل الإنسان على الإنسان؟

فيلم “سيدة الصمت.. قضية ماتافيخيتاس” (La Dama del Silencio: El Caso Mataviejitas) هو وثائقي أنتج سنة 2023 للمخرجة “ماريا خوسيه كويفاس”، ويتضمّن كل ما يفتن هواة الغموض والتشويق، أو يشد المتأملين المتفلسفين.

فانطلاقا مما ارتكبته “خوانا بارازا” من عمليات قتل للنساء العجائز بين 1998-2005 في مدينة مكسيكو، يتناول الفيلم مسألة الجرائم المتسلسلة بكل تعقيداتها، ووجه الخصوصية فيه أن القاتلة امرأة، وأن الضحايا نساء، وأنّ فلسفة العدالة كانت على المحك.

جرائم قتل العجائز.. كابوس جاثم على المجتمع المكسيكي

يعرض الفيلم الوثائقي جرائم القتل وفق ترتيبها الزمني، مستفيدا من المادة البصرية الغزيرة التي واكبت ارتكابها، فتأخذنا الكاميرا المتحركة إلى مسارح الجرائم، وهي تُجري مقابلات عاطفية مع أهالي الضحايا مثل “آنا ماريا دي لوس رييس” و”مارغريتا أسيفيس كويزادا”، فتحاول جعلنا نعيش ارتباك اللحظة وزخمها العاطفي عبر مؤثرات درامية عدة تجعلنا نعيش الأحداث عيانا لا خبرا، وتخرجنا من الفرجة السلبية، وتدفع بنا إلى التقبل المتفاعل مع هذه الجرائم الجديدة على المجتمع المكسيكي، فهو يوقر كبار السن، خاصة المسنات منهن.

لقد تحوّلت هذه الجرائم المتمثلة في قتل العجائز عبر الخنق إلى كابوس عام يجثم على البلاد، لذلك يتطوّع الخبراء لتقديم النصائح والتوعية بالحالات المريبة، وبالأطراف التي يتعيّن الاتصال بها في مثل هذه الحالات، خاصة أن القاتل كان يستغل طلبات العجائز للمساعدة الاجتماعية أو الرعاية الطبية لكسب ثقتهن فيما يبدو.

وفي خضمّ هذا الهلع تنتبه المكسيك إلى ما يعيشه مجتمعها من اختلالات كانت تغفل عنها، فتكتشف درجة عزلة كبار السن الذين يعيشون غالبا بمفردهم، نتيجة لإكراهات الحياة المعاصرة، ثم تكتشف أن ضحايا جرائم القتل يكونون من النساء غالبا، فتقتل الأمهات عبر العنف الزوجي، وتقتل الشابات بعد عنف جنسي إثر عمليات الاختطاف أو الاغتصاب، والآن تضاف العجائز إلى القائمة، أما القتلة فهم من الرجال بنسبة 95%.

تزايد الجرائم.. غضب شعبي على الشرطة والقضاء

بالنظر إلى تعدد الجرائم التي تستهدف العجائز، وبالنظر إلى تشابه أساليبها، أصبحت الشرطة تحمل محمل الجد فرضية وجود قاتل متسلسل يتصيّد العجائز ممن يقبعن بمفردهن في المنازل، ويرتكب هذه الجرائم بدافع السرقة. وكانت تتريث وتحاول إخفاء الأمر عن الرأي العام، حتى لا تحدث بلبلة في المجتمع، لكنها لم تستطع التكتم عن الأمر طويلا، بسبب تلاحق الجرائم وضغط الإعلام، وتحويله لأخبار سفّاح العجائز إلى فقرة تتصدر نشراته.

وكما هو متوقع، لم يكن اعتراف الشرطة بلا تبعات، فقد أصيب الرأي العام بالصدمة والهلع، ووجهت الأنظار إلى الشرطة، واتهمت بالتقصير والعجز، وسرت قناعة ثابتة مدارها على أن التحقيقات لم تكن دقيقة، واهتزت الثقة في جهازي الشرطة والقضاء، وباتت إقالة المدّعي العام مطلبا شعبيا، ثم مارست المعارضة ضغطها، وتدخلت الأحزاب لتستغل الفرصة، متهمةً الدولة بإهمال أضعف الفئات الهشة والتخلي عنها.

ثمة قاتل متسلسل إذن، فمن خصائص الجرائم المتسلسلة -وفق علم الجريمة- أن تتشابه ثلاث منها على الأقل في حيّز فضائي بعينه، وخلال فترات زمنية متباعدة إلى حد، وهذا ما باتت تؤكده الوقائع، فأجبرت الشرطة إلى العودة لملفاتها القديمة التي تمتد بين الفترة 1996-2003 للبحث في الجرائم المتشابهة، ولضبط المسار الذي يقطعه هذا القاتل.

تخبط الشرطة.. بحث عن الجاني في مستنقع مربك

كانت الشرطة مرتبكة فعلا، فالجرائم المتسلسلة مثّلت بالنسبة لها طارئا جديدا لم تشهد البلاد مثله منذ 1942، وما ضاعف صعوبة مهمتها هو عدم وجود صلة ما بين الجاني والضحية يمكن أن تمثل منطلقا في عمليات التقصي، وكان عليها أن تعود إلى تاريخ جرائم القتل المتسلسل والاستفادة من تجارب مماثلة في العالم، في أمريكا وكندا وفرنسا.

المحققة والتمثال النصفي والقاتلة- عندما يتحوّل التحقيق إلى شغف وتحدّ

وانتهى التقدير الأول إلى أن القاتل المسترسل يرتكب جرائمه وفق مراحل متتالية، أولها مرحلة الاختيار، فيتعقّب الجاني ضحيّته ويراقبها لمعرفة تفاصيل حياتها، مما يسهل عليه ارتكاب الجريمة بطريقة مثالية، وثانيتها مرحلة الإغواء، فلا بد له من اعتماد الحيلة لكسب ثقة ضحيته.

وفي حالتنا هذه، لا شك أن القاتل لديه ملكة التواصل السلس مع كبار السن، ومن البيّن أنه يستغل برنامجا أُعد لحفظ كرامة كبار السن، ويقدم نفسه على أنه ينتسب لهيئة حكومية، فيتنكّر في زي ممرض أو ممثل لمؤسسات الرعاية الاجتماعية حتى يكون محل ترحاب من العجوز.

وتمثّل المرحلة الثالثة مرحلة تنفيذ الجريمة عبر الخنق بما يتاح له من الوسائل، حبل أو حزام أو سلك هاتف أو شريط ستار، وكما هو حال القتلة المتسلسلين فلا شك أنه سيحتفظ بشيء ما من أغراض الضحية ليذكّره “بإنجازه” ذاك.

حبس المتهم.. ضربة غير موفقة تزيد معدل الجريمة

حُدّدت صورة تقريبية للجاني، بناء على التحقيقات وعلى شهادات متقاطعة ترجّح أن يكون القاتل رجلا يتنكر في زي امرأة، أو امرأة ذات صفات ذكورية وعضلات قوية، ونُظّمت حملات موجهة على تجار الجنس وعاملاته، ووضع الشواذ في الواجهة، وانتهكت كرامة كل مشتبه به، فكان يُقدّم للرأي العام، ويسمح للإعلام للتحدث إليه، وقُلبت الإجراءات، فأخذت الشرطة تحتجز من توجّه نحوه الشكوك لإجراء التحقيقات، بدل إجراء التحقيقات بشأنهم ثم احتجازهم.

في خضم هذا الارتباك تعلن الشرطة حصول المنعرج الحاسم في علمية البحث عن القاتل المسترسل، فقد عثرت على بصمات “أراسيلي فاسكيز” على قنينة ماء بمنزل إحدى القتيلات، ووجدت أغراضا مسروقة تعرف عليها البعض ممن كانوا مستهدفين، ولم يُستمع إليها وهي تنكر صلتها بالقتل، وتعترف بأنها كانت تترصد المنازل وتدخلها عند تأكدها من خلوّها، لكن بغاية السرقة فحسب.

كانت المفاجأة أن قتل العجائز لم يتوقف بإيقاف “أراسيلي فاسكيز”، فقد أُلقي على “خورخي ماريو تابلاس”، وقُدّم دليل إدانته، وهو سماعة طبية وكتاب مقدس وبعض الأغراض المسروقة، لكن النتيجة كانت ارتفاعا في نسق قتل الجدّات، وتقلّصا في الفاصل الزمني بين الجرائم.

أراسيلي فاسكيز البريئة التي تدفع ضريبة جنون الإعلام وفتنة القص

لم يكن أحد يهتم بمصير المتهميْن السّابقين بعد أن حُوِّلا إلى المحاكمة، وانشغل الجميع بملاحقة هذا الشبح، وبلغ عدد الضحايا في العامين 2004-2005 نحو أربعين عجوزا. فهل ثمة أكثر من نسخة من هذا القاتل المتسلسل؟

رفيق السكن الشاب.. صدفة توقع سيدة الصمت

يجتمع قائد شرطة المدينة برجاله، ويلقى فيهم خطبة تحفيزية تجمع بين التوبيخ وبث روح التحدي، فيعلمهم بأن السلطات باتت ترى أنهم لا يقدرون إلا على ثمِل يترنّح في الشوارع، وأصبح هاجس جميع رجال الشرطة الانتقام لكرامتهم، حتى أن محققة صنعت لهذا القاتل تمثالا نصفيا انطلاقا من الصور الكثيرة، وكانت تحتفظ به في الثلاجة حتى لا يتأثر بعامل الحرارة.

لكن على الرغم من كل هذه الجهود، كانت الكلمة الفصل في التعرف على الجاني عائدة إلى الصدفة، فقد كانت العجوز “أنا ماريا دي لوس رييس” تقتسم السكن مع الشاب “خويل لوبيز” الذي يُحسن إليها، وعند عودته ذات مساء اصطدم بجثمانها على الأرضية، وانتبه إلى امرأة تغادر المكان بارتباك، وقد قبض عليها شرطيان مرابطان بالمكان، بعد طلبه مساعدتهما.

بعد طول عناء وانتظار فُكّت جميع الألغاز، فقد اعترفت “بارازا” بعدد من هذه الجرائم، وشخّصتها مبرزة كيفية خنق ضحاياها، فقد كانت تعوّل على قوتها الجسدية الكبيرة، وعلى خبرتها برياضة المصارعة التي كانت تمارسها بحلبة “سان خوان”، وكانت تطلق على نفسها كنية “سيدة الصمت”.

سينما الجريمة.. منتج استهلاكي وواقع يعيشه المجتمع

تشد أفلام الجريمة شرائح كثيرة من المتفرّجين الذين يعيشون قلق العصر، ويجدون عالمنا اليوم مخيفا يسلبنا ثقتنا بالآخر، نتيجة لسطوة النزعات الفردية والمادية وتفكك العائلة من حولنا. وتعدّ أفلام القتلة المتسلسلين صنفا فرعيا من هذا الجنس السينمائي الذي حظي بأفضل أفلام الجريمة والغموض، وأشهرها رائعة هيتشكوك “ذهان” (Psycho).

خوانا بارازا القاتلة النجمة

ورغم تراجع جرائم القتلة المتسلسلين على أرض الواقع منذ ثمانينيات القرن الماضي، يعود الفيلم إلى الدفاتر القديمة، ويحيي الزخم الإعلامي الذي ساد المكسيك منذ عشرين سنة، ليفيد من جرائم “خوانا بارازا” المرتكبة ضد النساء العجائز.

والسؤال هنا سيتعلّق حتما بمدى أهمية هذه العودة إلى الخلف، فهل كان الفيلم -وهو يأخذنا من الجرائم المتخيلة في السينما الروائية إلى الواقع- يحمل قضية يحاول أن يفهم دوافع الجريمة فيها، فيحوّل الشهادات والوقائع إلى دراسة وثائقية تسهم في فهم المجتمع والعصر، أم يقتصر على الإثارة والتشويق واستدراج المتفرّج إلى منتج استهلاكي يوفر التسلية المجانية؟

الشرطة والقضاء والشعب.. بحث عن قصص فاتنة لا عادلة

يتضمن الفيلم شيئا من بنية الفيلم الأسود في ثلثه الأخير، أي الفيلم الذي يترك الإثارة والتشويق جانبا، ويحث المتفرّج على تحليل قضايا المجتمع من خلال الجريمة المرتكبة، فيعود القهقرى ليفتح ملف المتهمين السابقين “أراسيلي فاسكيز” و”خورخي ماريو تابلاس” اللذين ظُلما بسبب ضغط الرأي العام والإعلام، ورغبة جهات التحقيق والقضاء في التخلّص من الملف، مما منعهما من الحصول على محاكمة عادلة.

تقول “أراسيلي فاسكيز” إنها تقضي حكما بـ48 سنة لذنب لم تقترفه، فهي مجرد لصّة وليست قاتلة، وإنها تحاول منذ زُجّ بها في السجن أن تُعيد فتح قضيتها من جديد، لكن لا أحد يُنصت إليها.

وبالمقابل كانت “خوانا بارازا” التي حوكمت بأكثر من 500 سنة سجنا تعيش الشهرة وتنعم بريعها، فقد أصبحت موضوعا للعروض الفنية، ومُنحت حق طهي الطعام وبيعه في السجن، فأصبحت صاحبة دخل ثابت، ووقعت في غرام أحد السجناء وتزوجته. ولما حاول الإعلام طلب إجراء لقاء معها لم تتردد في طلب مقابل كبير.

وينتهي الفيلم إلى إحدى الإعلاميات وهي تقرّ بحزن أن الجميع يقع ضحية لفتنة القصّ، الشرطةَ والقضاةَ والرأي العام، جميع هؤلاء يبحثون عن القصص الفاتنة، ولا يكترثون بالحقيقة أو العدالة، وأنّ المتهمين “أراسيلي فاسكيز” و”خورخي ماريو تابلاس” والجدّات القتلى كانوا أكبر ضحايا هذه الفتنة.

تصفية الأشرار.. صدمات الطفولة لدى القتلة المتسلسلين

كان الفيلم أيضا ضحية لهذه الفتنة، فقد ظل لأكثر من ساعة يطارد القصص الشيقة ويؤجج مشاعر المتفرّج، ويعوّل على التحليل النفسي للغوص في الخلفيات العميقة للقاتلة، فيعرض أسئلة وجّهها لها إعلاميون أتيحت لهم فرصة محاورتها، حين كانت رهن الإيقاف، وكانت تدفعها دفعا إلى ربط جرائمها بقسوة طفولتها وعدم استقامة أمها التي فرّطت فيها، مقابل صندوق من الجعة لإدمانها.

لكنه لا يفعل ذلك إلا باستحياء وتراخ وسطحية، فوفقا لأبحاث أطباء نفسيين من جامعة رادفورد الأمريكية عن طفولة خمسين قاتلا متسلسلا في عام 2005، فإن صدمة الطفولة الكبرى والتعرض إلى الإساءات العميقة هي التي تجعل الفرد قاتلا متسلسلا، يرى في قرارة نفسه أنه يخلص العالم من الأشرار.

ومع ذلك يتدارك الفيلم أمره في الثلث الأخير من مراحله، ليقدّم شيئا ذا مغزى على صلة بوظائف الفيلم الوثائقي الحق، فيطرح أسئلة عميقة مرتبطة بمسؤولية الفرد فيما يأتي من الأفعال، وبفلسفة العدل ووظيفة العقاب.


إعلان