“الخبز المرّ”.. رحلة التهريب القاتلة عبر جبال الثلج الكردية

سيرا على الأقدام على طول الممرات الجبلية الصخرية شديدة الانحدار، وفي الليالي المظلمة وسط الثلوج، وفي طقس لا يُحتمل، ينطلق “العتّال” حاملا على ظهره ما تنوء عن حمله البغال. وليت الأمر يقف عند هذه المصاعب؛ فربما تنزلق قدما أحدهم ليخرّ صريعا، أو يفعل البرد القارس أو انهيار ثلجي فِعلته، فيموت مُتجمّدا في مكانه.
يكشف فيلم “الخبز المر” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- عن الحياة الصعبة والعمل الخطير الذي يمارسه العمال الأكراد لإعالة أسرهم، من خلال نقل البضائع عبر الحدود الإيرانية، سيرا على الأقدام في ظروف صعبة للغاية.
تهريب البضائع.. اقتحام الهلاك المتربص في جبال الثلج
يحمل “العتّال” عبر الحدود العراقية صندوق سجائر أو جهازا منزليا أو أقمشة، في حمولة تزن ما بين 20 و30 كيلوغراما لمدة 6-7 ساعات فوق ظهره على جبال “أورامان” الصخرية، لتلبية احتياجات زوجته وأطفاله مقابل ما يقل كثيرا عن دولار واحد.

يقول أحد “العتّالين” إنه نجا بأعجوبة من انهيار ثلجي، فقد كان واحدا من بين 16 أُنقذوا، بينما توفي تحت الثلج أربعة آخرون، أحدهم ابن عمه. ويستذكر تلك الليلة قارسة البرد، وقد نصحهم البعض بعدم الذهاب لأعمالهم لانعدام الرؤية، بسبب الضباب والعاصفة الثلجية، لكنهم ذهبوا تحت وطأة الحاجة لمال يكفيهم شر السؤال، وحدث ما حدث.
وهناك “عتّال” آخر سقط بحمولته على الثلج الذي ما لبث أن تحوّل إلى جليد على منحدر حاد في منطقة “أورامان”، فاندفع إلى أسفل المنحدر، ثم أصيب بشلل كامل غيّر حياته تماما؛ فلم يعد قادرا على العمل، ولا حتى على تحريك أي من أطرافه، وهو بحاجة دائما لمن يساعده على الأكل أو قضاء حاجته.
ظل الموت.. شبح يخيم دون لقمة العيش
يعمل “العتّالون” بشكل رئيسي في الأقاليم الثلاثة؛ كردستان العراق، وأذربيجان الغربية، وكرمان شاه، على الحدود الإيرانية مع العراق وتركيا، كما يُمارس هذا العمل أيضا عبر الحدود الشرقية والجنوبية، لكن عدد البضائع التي يحملها “العتّالون” أكبر بكثير على الحدود الغربية والشمالية الغربية.

ووفقا لرسول خضري -وهو عضو مجلس الشورى الإسلامي- فإن ما بين 8-10 آلاف شخص يعملون في العتالة عبر الحدود في منطقتي بيرم شهر وسردشت فقط.
وتُمثّل العتالة واقعا مريرا للمناطق الكردية، ويُرافق ظل الموت المشؤوم “العتّال” منذ وقت مغادرته للمنزل حتى عودته. ويقول المحامي والحقوقي حسن أحمدي نياز إنه عندما يسقط “عتّال” نحو قاع الوادي أو يموت، تفقد أسرةٌ مكوّنة من 7 أو 8 أفراد مُعيلَها.
حماية الحدود.. حياة قاسية تواجه العسكري و”العتال”
تختلف الحياة في مركز حدود هندشاو على الحدود الإيرانية العراقية، فالمعاناة أصعب مما يمكن تصوره؛ فالثلوج تتساقط بغزارة، بينما تبلغ درجة الحرارة عشر درجات تحت الصفر.
إذ يقطع العسكر 6 كيلومترات مشيا على الأقدام من أجل جلب حصص الإعاشة، وقد يقضون 12 ساعة ليلا وسط الثلوج والعواصف، لكنهم لا يعبؤون بكل ذلك؛ فأعينهم يجب أن تبقى مفتوحة على مدار الساعة حمايةً لحدود إيران، كما أنهم على استعداد للموت في سبيل بلدهم، كما يقولون.

وعلى الناحية الأخرى، يقول أحد هؤلاء “العتّالة” إنه يعمل في مجال البناء ولديه مهارة واسعة، لكنه لا يملك وظيفة، وبسبب ضغط الفقر، فقد أتى من قرية تبعد 150 كيلومترا عن الحدود للعمل في مجال “العتالة”، ويروي أن عددا من أصدقائه تعرّضوا لحوادث كالتجمد في الشتاء.
وفي مرة ترك صديقٌ له حمولتَه فوق الجبل، وأنزله “عتّال” آخر سريعا قبل أن يتجمد حتى الموت، وقد كانت حمولته باهظة الثمن، وفُقدت في الجبل.
“كدت أتناول الخيش الذي على ظهر الحمار”
يقول أحد “العتالين” إنه خاطب نفسه عدة مرات قائلا: في حال وصولي إلى وجهتي بالحمولة سالما معافا، لن أعمل في العتالة مرة أخرى.
ويستذكر أنه عندما بدأ العمل في العتالة للمرة الأولى حمل 26 كيلوغراما، ولم يأخذ ماء، مما زاد من معاناته، وعندما وصل قمة الجبل لم يستطع تحريك ساقيه، وهو أمر يحدث مع الجميع في الشهر الأول لعملهم هذا. ومن شدة تعبه وعطشه كاد أن يرمي حمولته، لو لا أنها أمانة، لكنه تمنى الموت عدة مرات، على حد قوله.

ويلتقط “عتّال” آخر طرف الحديث منه، ويقول إنه عانى للحصول على وظيفة، لكنه لم يُوفق، ولم يكن لديه مال، وقد عانى في توفير الطعام والملابس لطفليه. ويقول: كنت جائعا لدرجة أنني كدت أتناول الخيش الذي على ظهر الحمار لأسد رمقي.
كسب الرزق.. حاجة تدفع إلى عمل الحمير والبغال
يصل “العتالون” ليلهم بنهارهم في نقل البضائع عبر طرق وعرة وصعبة للغاية، وفي طقس سيئ جدا، أملا في تحصيل مبالغ زهيدة، لكن لا غنى عنها لإبقائهم على قيد الحياة. ويقول أحد العاملين إنه جاء إلى هذه المنطقة من مدينة سقز الإيرانية، ويصف حالهم بالقول: إننا فقراء وعاطلون عن العمل وكادحون وبؤساء، و”العتّال” هو البائس الذي يعمل بدلا من الحمير والبغال.
ثم يقول: لجأنا إلى منطقة أورامان بسبب البطالة وعدم وجود أي عمل، فثمة بعض الأعمال هنا، ولكن ليس التهريب، ولذا عملت في بيع البغال والحمير، لكن حرس الحدود الإيراني أطلق الرصاص عليّ في مرة فأصابني وقتل حميري جميعا.

ويروي باكيا معاناته في توفير أقل القليل لأسرته، ومن ذلك أجرة الطريق التي يحتاجها ابنه للعودة إلى مدينة سقز من المدينة التي يدرس بجامعتها.
ويتحدث آخر عن حادث وقع له أثناء عمله “عتّالا”؛ فقد انزلقت قدماه عند حافة الجبل وسقط مغشيا عليه، وعندما أفاق وجد الدم يخرج من فمه، وقد كُسرت أربع من أسنانه. وعندما عاد للبيت لاحقا اضطر لخلع ست من أسنانه بنفسه بطريقة بدائية، فهو لا يملك المال اللازم لطبيب الأسنان.
ويقول: لا يعي الطفل إن كان لديك مال أم لا؟ إذا طلب الطفل مالا وقلت له إنني لا أملكه، ماذا سيقول لي؟ ألسنا بشرا؟ أقسم بالله إننا بشر ونعلم كيف هو شعور الإنسان، ولكننا نقوم بهذه الأعمال لكسب العيش حتى لا ينقص أطفالنا أي شيء مقارنة بالآخرين، فنجني كسرة خبز ونقدمه لأسرتنا بعزة نفس.
وعورة الطريق.. صعوبات لا تنتهي بانتهاء الرحلة
في جنح الظلام، وبعد معاناة استمرت ساعات طوال في منحدرات الجبال، يجمع “العتالون” البضائع التي جلبوها، ويضعونها أعلى سيارات نقل صغيرة لتنقلها إلى مستقرها الأخير. لكن حتى هذه المرحلة محاطة أيضا بالخطر، فوعورة الطريق قد تتسبب في انقلاب السيارة بما تحمله من بشر ومتاع. وما بين يوم وآخر، يُشيّع أهالي هذه المناطق أحد أبنائهم.

وبينما يشاهد خطابا للرئيس الإيراني وهو يتعهد بأن تكون بلاده مصدرة لجميع السلع لدول المنطقة، ثم يقول “تحيا كردستان”، فإن أحد هؤلاء “العتالين” يكاد لا يُصدّق. فـ”العتالة” عبر الحدود واقع مرير في المناطق الكردية في إيران، وهذه الظاهرة هي نتيجة لعدم المساواة في التوزيع غير المتكافئ في هذه المناطق.
وكأن وعورة الطريق والطقس والحمولة الكبيرة لا تكفي “العتالين” معاناة، ليضاف إلى كل ذلك معاناتهم مع حرس الحدود، فهو لا يتأخر في إلقاء القبض عليهم وربما ضربهم أو حتى إطلاق الرصاص عليهم، وهو أمر يواجهه تجمع لهؤلاء بمحاولة مواجهة الشرطة، بإلقاء الحجارة عليها دفاعا عن لقمة عيشهم المرّة.
“سأفعل أي شيء من أجل عائلتي”
يقف أحد “العتالين” خطيبا في أصحابه وعناصر الشرطة أيضا: كانت هناك حالات لقتل العتّالين، تقول الشرطة إنها قامت بعملها، صحيح أنه مسموح للشرطة بإطلاق الرصاص على الأقدام، إننا على علم بالقانون أيضا ونستطيع الحديث عنه، لكن لا يمكننا ذلك، إن تكلمنا فسيخبرنا أحدهم بأن نصمت، لكن إذا حان الوقت فإننا على علم بالقانون بشكل أفضل من السلطات.

ويوجّه حديثه للمسؤولين والمحافظ قائلا: دعوني أتحدث إليكم بصراحة، فقد أجرينا إضرابا لأربعة أيام، لكن المحافظ لا يكلف نفسه بالاستفسار عن مشكلتنا، بل يرسل إلينا فقط قوات مكافحة الشغب أو استخبارات الشرطة ويطلقون النار ويعتقلون بعضنا ويخيفون الناس. فالشعب لم يعد خائفا، لأنني عندما أكون فارغ الجيب سأفعل أي شيء من أجل عائلتي، فنحن لا نقوم بأي أعمال شغب ولم نخض مواجهة مع أحد طوال السنوات الماضية، والناس يريدون الوظائف فقط.
وهكذا تمضي حياة “العتّالين” على صعوبتها أملا في أن يكون القادم أفضل.