“تأتون من بلاد بعيدة”.. عائلة فلسطينية مزقتها أحلام الأب الشيوعي الثائر

المناضلون الحقيقيون مشاغبون، يحاربون من أجل القيم المثلى، ويبذلون في سبيل إيمانهم بالإنسان الحرّ استقرارهم الأسري، ويهجرون أوطانا ويقدمون على الموت، لكنهم يواجهون بالصدّ والجحود، ويتخلى عنهم الجميع، فيجد الواحد منهم نفسه شريدا وحيدا تائها بلا هدف، ملاحقا بلا وجهة.

من هذه المآسي يُصنع الفيلم الوثائقي “تأتون من بلاد بعيدة” (2018) الذي أخرجته المصرية أمل رمسيس. يروي الفيلم قصة ثلاثة أشقاء فلسطينيين تشتت جمعهم بسبب إيمان والدهم بقيم كونية، وعمله على تحقيقها على أرض واقع لا مكان فيه للمثاليين.

“كارلوس”.. متطوّع إسباني حاول أن يمنع سقوط بغداد

يُستهل الفيلم بمشاهد تلفزيونية لبغداد وهي تحت القصف الأمريكي ذات ليلة من ربيع 2003، فلا نرى غير الأضواء وكتل اللهب المتطايرة على أصوات الفرقعات. لا شك أنها الصواريخ والقنابل التي كانت تُرمى على المدينة، لكن لولا صوت المعلقة أمل رمسيس الذي يصلنا من خارج الإطار لظننا أنفسنا في احتفال جماهيري، وأن المشهد يمثل ألعابا نارية في عالم ما عاد يميّز بين الاحتفالات الصاخبة وعويل المآتم.

يستعيد الصوت رسالة من أمل إلى شخص يسمى “كارلوس”، ونفهم من السياق أنه متطوّع إسباني سافر إلى بغداد محاولا أن يمنع الحرب مع مجموعة من رفاقه، وأنه يفعل ذلك ردّا لجميل المقاتلين العرب الذين حاربوا من أجل حرية إسبانيا، أيام الحرب الأهلية التي اندلعت إثر انقلاب العسكر وانتزاعه للحكم بقوة السلاح، بعد فوز تحالف الجبهة الشعبية 1936.

وكما بلّغ أولئك العرب الرسالة إلى “كارلوس”، مرّرها هو لأمل رمسيس، وبتأثيرها تعود لتقلّب صفحات نضالهم القديمة، وتجعل فيلمها “تأتون من بلاد بعيدة” رسالة تضعها بين أيدي المتفرّجين، حتى تحوّلهم إلى مجانين من سلالة كارلوس، أو أولئك العرب المغامرين.

وكما تتداخل أصوات التفجيرات في سماء بغداد على شاشة “سي إن إن”، تتداخل أصوات المتحاورين في فيلم “تأتون من بلاد بعيدة”، فنسمع صوت المعلقة بين المقاطع المتباعدة، أو صوت دولت وهند وسعيد أبناء الصحفي الفلسطيني نجاتي صدقي (1905-1979)، وأحد أهم ناشطي الحركة الشيوعية في العالم العربي في بدايتها، وأبرز كُتّاب الأقصوصة في فلسطين.

سيرة الأب.. عنصر يجمع ما تفرق من شتات العائلة

تأخذنا المخرجة إلى صفحات من نضال الوالد نجاتي صدقي ضمن الحركة الشيوعية العالمية، وأخرى من الصمود الفلسطيني رغم المعاناة وحياة الشتات، وعبر ذلك كله يكشف لنا الفيلم معاني عميقة النبض الإنساني على صلة بالعائلة والوطن.

في الفيلم سير متعددة الوجوه، متشابكة حينا متباعدة حينا آخرـ منها سيرة دولت وسيرة هند وسيرة سعيد وسيرة أمهم الأوكرانية “لوتكا”، أما الأب نجاتي صدقي فهو مثقف آمن بقناعاته، وحاول أن يجسدها على أرض الواقع، وبسببها عاش شريدا بين موسكو وإسبانيا وفرنسا ولبنان وسوريا واليونان.

اجتماع الأشقاء بعد أن تفرّق شملهم

تمثل سيرة الأب العنصر الجامع الذي يصهر هذا الشتات في كلّ مترابط، ويحوّله إلى سيرة عائلية متعدّدة المواضيع، منها مأساة الأم التي آمنت بالثورة وبالإنسان، فتركت أوكرانيا وطنها الأم، لتعيش في “حقيبة سفر”، ولتتيقن قبل موتها أنها كانت غجرية رغم أنفها، تلاحق من قبل الاحتلال الانجليزي بسبب زوجها.

ومنها أيضا مأساة الأبناء وغربتهم نتيجة لنضالات الأب وقناعاته ومأساة الأب الحالم -في سذاجة- بالإنسان المتحرّر من كل الإكراهات العرقية والدينية.

دولت.. شجرة انتزعت من أرضها وزرعت في أخرى

تعرض المشاهد الأولى من الفيلم دولت العجوز المتثاقلة وهي تصعد درجات السلّم، ويصلنا صوتها من خارج الإطار وهي تقول إنها شجرة انتزعت من ترابها وزرعت في أرض أخرى.

ويعمل الفيلم على مدار مراحله على تأكيد هذه الاستعارة، فيخبرنا أنها ولدت في القدس سنة 1930، وسريعا ما زُجّ بها في السجن لترافق أمها، بعدها يقرر الرفاق إرسالها إلى ملجأ في روسيا (كوسوكوفا) تحت اسم بنت سعدي، وهو الاسم الحركي لوالدها. ثم تُلحق بمدرسة أيفانوف قرب موسكو، وهي مخصصة لأبناء القادة الشيوعيين في العالم.

تتحرّر الأم، فتلحق بدولت وتقيم معها في فندق لوكس من 1936 إلى 1939، ثم تقرر العودة إلى القدس لأمر تجهله البنت، وتأخذها إلى الملجأ من جديد، فقد ذهبت للعب مع فتاة أرمينية كما أمرتها، ثم حين عادت، لم تجد أمها هناك، لقد غادرت دون أن تودعها.

أيام الملجأ.. تكوين جيد ومعاناة قاسية

تشعر دولت الصبية بأن أمها قد تخلت عنها، أما دولت العجوز فتحاول أن تتفهّم ما حدث وتجد الأعذار. تقول إن أمها كانت ملاحقة، وكان اسمها مسجلا في القائمة السوداء، ولا شك أنه كان عليها أن تغادر موسكو بعد طرد زوجها نجاتي من الحزب الشيوعي في فرنسا. وأخذ ابنتها حيث لا تدري أين سينتهي بها المطاف مقامرة بحياتها.

وعلى الرغم من أن حياتها في الملجأ أفقدتها روابطها بثقافتها العربية، وعلى الرغم من أن البؤس أيام الحرب جعل القمل ينتشر بين الأطفال والبرد ويؤذيهم ليلا، فإنها تجد مسارها فيه مثاليا من جهة جودة التكوين الدراسي، ومن جهة تآزر أترابها من الأطفال.

دولت الشجرة التي زرعت بعيدا عن تربتها الأصلية

فتتذكر النشيد الشيوعي وتغنيه بحماسة، وتمسك بصور أمها وتتذكر حياتها معها أيام الإقامة بالفندق، ولأنها كانت تدخّن وتشرب القهوة أيامها، كان حنينها إليها يدفعها لتدخل محلات التبغ بعد مغادرتها المفاجئة، فهناك كانت تجد شيئا من رائحتها يعوضها عن فقدها.

تحاول دولت إذن أن تتماسك متسلحة بحكمة الشيوخ، لكن وعي الطفلة الذي يحكمه الاندفاع والعاطفة يتغلّب فجأة، فيتوسع جرحها النرجسي، وتنهمر دموعها وهي تتذكّر تخلي أمها عنها، وتعجز عن مواصلة السرد.

ليالي بيروت.. صراع الانتماء العربي والهوية الروسية

كان من الممكن أن تستأنف دولت حياتها الشرقية بلا وجع، فقد جاء والدها سنة 1946 إلى الملجأ لاستردادها، ولم تكن حينها تتجاوز 16 سنة، لكن السلطات السوفياتية رفضت تسليمها له، وكان ذلك عقابا له بعد أن أُلحق بقائمة المغضوب عليهم، لعدم انضباطه، ونقده لسياسات الدولة، أو ربما رأوا أن الطفلة من صناعتهم، ورأوا في والدها خطرا على صفاء انتمائها الشيوعي وولائها المطلق للقادة.

حينها لم يكن للعائلة سبيل إلا الصور الفوتوغرافية لتتقاسم حياتها مع الطفلة المحتجزة، ولتؤسس معها ذاكرة مشتركة، فأخذت تُرسل لها صورا عائلية باستمرار. وعند إقامة علاقات دبلوماسية بين لبنان والاتحاد السوفياتي بعد 10 سنوات من رفض تسليم دولت إلى والدها، طلبت البنت زيارة أهلها الذين يقيمون في بيروت حينها، فوافقت السلطات على الفور وتولى الصليب الأحمر تمويل سفرها.

هناك وجدت دولت نفسها الشرقية المستشرقة، فأصل الاستشراق أن يشدّ الغربي الرحال إلى الشرق لتعميق معرفته بحضارته ودراسة أحوال شعوبه ولغاته وتاريخه وحضارته، لكن دولت على الرغم من انتسابها إلى هذه الحضارة، كانت منبهرة بكل المشاهد الشرقية.

وبحكم كونها رسامة ومهندسة، فقد كانت تسجّل كل تلك المشاهد، وفي الآن نفسه وبحكم ثقافتها الروسية وانقطاعها عن أصولها كانت تجد أسلوب حياة عائلتها غريبا، فلم تكن قادرة مثلا على استيعاب صورة والدها وهو يقدّم الأوامر في الصالون لتخدمه أمها، ولمّا تأكدت من عدم قدرتها على التعايش مع وضعها الجديد، قررت العودة إلى موسكو من جديد لتظل ممزقة، فهناك كانت تشعر بانتمائها إلى الشرق الأوسط، وفي بيروت يتضخّم شعورها بانتمائها الروسي.

“جئت لأدافع عن الحرية في مدريد”.. أحلام ساذجة

على الرغم من كل شيء تبدو دولت فخورة بوالدها، بكل إنجازاته وبلحظات العطف القليلة التي منحتها لهما الحياة، في لقائهما بالملجأ وهو في طريقه للمشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، أو بطريقة استقباله لها عند زيارتها للبنان.

تشرح دولت موقف والدها فيما يشبه الدّفاع عنه، فقد كان ضد المَلكية وضد الانتداب البريطاني، وكان مطلوبا لدى السلطات هناك، وبعد خروجه من السجن فَرض عليه انتماؤه إلى الشيوعية الدولية (الكومنترن) أن ينتقل إلى إسبانيا.

المخرجة أمل رمسيس

فقد كانت الجبهة الشعبية اليسارية تخوض حربها الأهلية ضد المؤسسة العسكرية بعد انقلاب يناير/ كانون الثاني عام 1936، وكان “فرانثيسكو فرانكو” -الذي سيحكم إسبانيا لاحقا حتى 1975 حكما ديكتاتوريا- أحد خصومها، وهناك تولى إصدار الجريدة السرية “صوت الشعب” الموجهة للمتطوّعين الأمميين من العرب لمدة ثلاث سنوات.

فكان نضاله يجسّد الأحلام الكبرى بتحرير الإنسان ونشر العدالة، وإجابته لإسباني من الجبهة تكشف هذا الحلم “الساذج”، إذ يقول معرّفا بنفسه: إنني متطوع عربي، جئت لأدافع عن الحرية في مدريد، وعن دمشق في وادي الحجارة، وعن القدس في قرطبة، وعن بغداد في طليطلة، وعن القاهرة في قادش، وعن تطوان في بورغوس.

مغاربة “فرانكو”.. بداية الشرخ مع رفاق النضال والكفاح

يبدو أن نجاتي صدقي كان يعيش انتماءه الشيوعي بنشوة تفقده رصانة السياسيين. ذلك ما تكشفه حماسته وانبهاره عند وصوله إلى برشلونة، فيمعن في وصف الثوار وأعلامهم الحمراء. وبالمقابل يبدو أن وجود مغاربة يحاربون في معسكر “فرانكو” ويناصرون الفاشية قد ساءه، فاختار إمضاء مقالاته باسم مصطفى بن جلا، ليمنح توقيعه نغمة مغربية تستميلهم، ثم بادر يوما بالحديث إليهم، فطلب منهم ترك معسكرهم وتسليم أنفسهم إلى الثوار أو إلى أنصار الجمهورية، ووعدهم بالعفو عنهم.

لكن صنيعه أغضب أصدقاءه الشيوعيين بقدر والجمهوريين معا، فقد عدوه متهوّرا يطبّع مع الفاشية، ثم تفاقمت الأمور أكثر بعد نقده للاتفاقية بين “ستالين” و”هتلر” الموقعة عام 1939، وتنص على بقاء ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي على الحياد في حالة تعرض أحد الطرفين لهجوم من طرف ثالث، وتتضمن الاتفاقية بندا سريا يقتسم شمال أوروبا وشرقها بين الطرفين.

وقد وجد الرّفاق في موقف نجاتي صدقي تجاوزا لكل الخطوط الحمراء، فجمدوا انخراطه في الحزب الشيوعي لجرأته، ولما تخلى عنه الرفاق -وكان حينها في باريس- واجه مشاكل كثيرة، أقلها الشعور بالغربة والإهمال، إضافة إلى الفاقة والاحتياج بلا شك.

وفي هذه الأثناء فقدت الأم التي ترافق ابنتها دولت في موسكو عطف السلطات الروسية ورعايتها، وكان عليها أن تغادر، فاختارت لابنتها البقاء في الملجأ بدلا من صحبة امرأة تهيم على وجهها بلا زاد أو عائل.

“يقول أحدهم إنّ الفاشيين مصارعو ثيران جيدون”

فضلا عن أصوات دولت وبقية الأبناء، وصوت الأب الذي يحضر من خلال المذكرات، يحضر صوت المخرجة أمل رمسيس بجلاء، فيأتينا من خارج الإطار ليكون سردا شاعريا متأملا وفْقه “تتشابه المدن عند القصف”، أو ” تتشابه الملامح عند الهروب من الغارات”، أو يخاطب هؤلاء المتطوعين قائلا:

“تأتون من بعيد
وهذه المسافات البعيدة
ما الذي تعنيه لدمكم الذي يغني بلا حدود
الموت المحتوم يناديكم بأسمائكم كل يوم
لا يهمّ في أي مدينة، في أي حقل أو طريق”

وتحضر هذه الأصوات بغير ترتيب، فيرد خط الزّمن مهشما، فتولّد شروخه حالة عاطفية وذهنية لدى المتفرّج تحاكي ارتباك الماضي. ومع ذلك تحافظ الأحداث الكبرى على تدرّجها، كمقاومة نجاتي للملكية وللاستعمار الإنجليزي، ثم دخوله السجن في عكا، ثمّ ذهابه إلى إسبانيا وعودته إلى لبنان، ثم رحيله إلى أثينا بعد اندلاع الحرب الأهلية هناك.

هذا ما منح البناء الكليّ ترابطه، على الرغم من تشذر اللبنات الصغرى والتّفاصيل، فيعتمد المجاز ويورد صورة الثور الإسباني المرهق المضرّج بالدماء، والمقاتل الذي يتسلى بقتله، مرفقا بقول نجاتي ذات يأس “يقول أحدهم إنّ الفاشيين مصارعو ثيران جيدونّ”، وذلك للتعبير عن خيبته بعد هزيمة الشيوعين في مواجهة “فرانكو”، وينتهي بوحدة الأبناء وهم في ضيافة دولت في موسكو، ويبدأ بتشتت العائلة في أماكن مختلفة من العالم، وينتهي بوحدة شعورهم العميق بالانتماء لفلسطين.

لهذا كلّه ومقارنة بما يشهده الوثائقي هذه الأيام من تبسيط، ومن سحب من مجال الفن إلى مجال استهلاك، يمكننا أن نتحدث عن ثراء لغة الفيلم السينمائية، وعمق تناوله لقصّة العائلة ليحوّلها إلى عينة دالة ورسالة إيجابية لعامّة فلسطينيي الشتات.


إعلان