“شريكة الشيطان”.. انتقام غير مبرر لقاتل متسلسل ومساعِدة غامضة

يبدأ الكاتب الألماني “فريدريك دليوس” رواية “قاتل لمدة عام” بلحظة مفصلية وكاشفة تستدعي التأمل، إذ يقول في افتتاحية الكتاب: “قبل أن تقبّحوا حكايتي عليكم أن تسمعوني، لقد كُلّفت بالقتل في ساعة الغسق، بين لحظة وأخرى أعلنت موافقتي، بعد أن حملتني الرعونة على أجنحتها، أعترف بكل ذلك وأتفهم كل من يعدّني مجنونا، لا أحد يعرف سرّي، لا الشرطة لاحظت شيئا عن نوازعي الإجرامية الخفية، ولا أقرب أصدقائي.
ولأنني في نظر الناس إنسان هادئ ومسالم، فإن إحجامي عن الكلام في موضوعات القتل والعنف لم يثر ريبة أحد، لكن الرغبة نمت تدريجيا في داخلي كي أفتح الباب على مصراعيه لأشباح الذكرى، لا أحد سيصدقني عندما أقول إنني قاتل”.
لذلك لا بد من الرجوع قليلا إلى الوراء، لتفهّم كل شيء، ربما قبل الحكم على أي سفاح أو مجرم بشكل عام، يبدو أن النصيحة تتمثل في النظر إلى حياة الإنسان بشكل أكثر عمقا وتحليلا لفهم حقيقة من تسبّب في ذلك فعلا؛ هل هو من قتل فعلا، أم أن الوسوسة المستمرة والرجولة الهشّة التي استغلّها من حوله هي السبب الحقيقي؟
يتجنب الكاتب مساحات الكراهية التي يسهل خلقها أمام قاتل، ويسعى لإدراك الأسباب، تماما مثلما يقرر الصنّاع “كريستوف ستروك” و”ميشيل فاينز” اللذين أخرجا المسلسل الفرنسي المثير “مونيك أوليفيي: شريكة الشيطان (Monique Olivier: Accessory to Evil) الذي يُعرض حديثا على منصة “نتفليكس”.
فرنسا وبلجيكا.. اختفاء غامض للنساء على الحدود
يقدم المسلسل قصة استثنائية أكثر تفهّما لتناول قصص القتلة المتسلسلين، قصة حقيقية حدثت على مدار ما يقرب من عشرين عاما أو يزيد، كانت تتكرر خلالها حالات اختفاء غامضة لفتيات فرنسيات وبلجيكيات على الحدود بين البلدين، لكن لم يُعثر على أي من الضحايا.
وقد ظلت حالات الاختفاء تتكرر من عام 1987 إلى عام 2003، حتى استطاعت فتاة أن تهرب وتصل إلى أقرب مركز للشرطة في بلجيكا، لتخبرهم هناك بأنها تعرضت للاختطاف في شاحنة بواسطة زوج وزوجة، وأنها تمكنت من الهرب.
وطوال تلك الفترة عزّز السفّاح “ميشيل فورنيريه” سطوته بوصفه أشهر قاتل في فرنسا، لكن زوجته كانت لغزا كبيرا يحاول المسلسل إجابته: هل ظُلمت في علاقتها معه، أو أنها هي من تسببت في أن يحصل على لقب السفاح أساسا؟
تابعة الشيطان.. تسليط الأضواء على شخصية في الظلام
يتقدّم المسلسل خطوات أكثر ذكاء من عدد كبير من الأعمال التي تناولت قصص القتلة المتسلسلين، فهي عادة ما تركز على القاتل مباشرة، بينما يتخذ هو من قصة القاتل عرضا جانبيا يحكي من خلاله قصة زوجة هذا السفاح، يتساءل حول مدى إدانتها في كل الجرائم التي اتُّهم بها زوجها.
كان الزوج يتعمّد خطف الصغيرات القصّر لاغتصابهن، ثم يقتلهن ويدفنهن في الغابة بمعرفة واضحة من زوجته، وهو ما يطرح تساؤلا كبيرا، ليس عن مدى أخلاقية الأمر أكثر من كونه يحاول تفهّم رضى الزوجة في أن يفعل الزوج هذا الفعل تحديدا دون غيره، وربما يبدو كل ذلك واضحا من معرفة كيف تزوجا، ومن تكون فعلا هذه المرأة، كيف كانت تركيبة قصة الحب أو التعاون التي جمعتهما معا للوصول إلى تلك المنطقة المعقدة من التعاون.

تكمن أهمية استعراض هذه القصة في استثناء تطرحه حول الأشخاص من حوله أكثر، ففي بعض الأحيان يبدو الشخصُ الأكثر تصدرا أو خطورة مجردَ بوق، أو وسيلة استغلها من هو أكثر قوة في الظلام، لتحقيق ما يريد دون أن يكون في الصورة مباشرة، هكذا تظهر كل حلقة من الحلقات الخمس في المسلسل.
غزارة العنصر البصري.. ثروة أرشيفية لسنوات طويلة
ثمة نقطتا قوة يظهران مع مشاهدة المسلسل القصير، الأولى هي طغيان العنصر البصري بغزارة، اعتمادا على مادة أرشيفية مصورة على مدار سنوات طويلة، ظلت فيها القضية محط أنظار الرأي العام في انتظار حلها، والثانية هي تعمّد التنقل بين الحدث الوثائقي الجرائمي الذي يتتبعه المسلسل، إلى جانب الفصل التام بين تلك الجريمة وبين المدينة الواسعة سواء في بلجيكا أو فرنسا.
إذ يتعمّد الصناع الخروج دوريا من خناق القصة المزعجة للمُشاهد، إلى النظرة الواسعة بكاميرا عالية ترصد المدينة الواسعة الهادئة التي لا يبدو أنها تفهم أساسا هذا الشر غير المبرر، كما لا تفهم لماذا يوجد فيها هذا القاتل المتسلسل وزوجته التي تبدو لدى البعض العقلَ المدر لكل شيء.
وعلى الرغم من أن المسلسل لم يستطع التسجيل مباشرة مع أي منهما، فإنه يحاول بطرق مختلفة تماما التعرف على الحقيقة من مختلف الجهات القضائية والمجتمعية والتاريخية الأخرى.
قتل بدافع الرغبة.. مواصفات القتلة المتسلسلين
يؤسس المسلسل التساؤل الأول في هذا الأمر فيما يعنيه أن يكون الإنسان قاتلا متسلسلا أساسا، أو متى يمكن تصنيف قاتل عادي عن قاتل متسلسل، لكن من دون أن يحكي هذا بشكل مباشر.
يقول العلماء إن القاتل المتسلسل هو الشخص الذي يقرر القتل المتعمّد لأكثر من إنسان، أي لضحيتين أو أكثر، مع وجود فارق زمني بين كل واقعة وأخرى، وأن يكون على غير علم كافي بالقتيل، ولا يقتلها بدافع السرقة أو غيره، بل رغبة في القتل، إلى جانب أمور أخرى ليست مادية ولا بدافع الحاجة، بل أحيانا كثيرة يكون القتل للرغبة فقط.
يتساءل عدد من العلماء في ظاهرة القاتل المتسلسل عن ما إذا كان المجرمون يولدون بجينات عنيفة تدفعهم للقتل أو غيره، أو أن الأمر لا يتعلق بالوراثة، بل يكتسب من المحيط المجتمعي الكبير الذي يعيش فيه الإنسان، وبالتأكيد يجد العلماء عددا غير قليل من القتلة المستلسلين قد مرّوا بتجارب قاسية أثناء طفولتهم، لكن ذلك لا يبدو مبررا على الإطلاق.
حارس الغابة.. انقلاب مفاجئ في حياة رجل منعزل
من المثير في قضية هذا الرجل أنه كان يعيش حياة هادئة نوعا ما، يعمل حارسا لإحدى الغابات، يقضي أغلب وقته في هدوء كامل بعيدا حتى عن الناس، لذلك كان مثار استنكار كبير عن العنف الشديد الذي وجهه للعالم.

وتكاد تتوافق المواصفات التي وضعها علماء النفس على توصيف القاتل المتسلسل تماما مع نموذج هذا الرجل الذي يقضي عقوبة السجن مدى الحياة بتهمة التواطؤ في جرائم قتل واغتصاب جماعي اعترف بها رسميا، إلى جانب جرائم أخرى لم يُدَن فيها بعد.
ففي عام 2004 اتهم “أوليفييه فورنيريه” بقتل تسع فتيات، حين اعترفت عليه زوجته، بعد سنوات طويلة قرر التمسك فيها الرجل بالسر، وقد تغيّر ذلك للتعريف بأماكن دفن ضحاياه الصغيرات، لكن لم يعثر على جثتي الضحيتين “موزين” و”دوميسي” مطلقا، على الرغم من جهود البحث المتعددة التي شارك فيها “فورنيريه” و”أوليفييه” بنفسيهما.
رجولة المواقف الوحشية.. مهمة انتقامية من المجتمع
في سياق التعريف بالقاتل المتسلسل بدا هذا الرجل وزوجته في مهمة انتقامية لا يمكن تركها دون تحليل، تبدأ بعد الحكم على الزوج عام 2008، ثم طلاقه من زوجته المتهمة الأخرى “أوليفييه” التي سريعا ما يتحوّل المسلسل إليها ليحكي قصتها، تتداخل حياتهما وتتشابك الجرائم التي يرتكبها أحدهما على حساب الآخر، وذلك ما يحاول المسلسل فك الطلاسم من حوله.
لا يقف خطاب المسلسل عموما عند منطقة التعريف والإدانة، بل يتجاوز تعريف القاتل إلى تتبع جرائمه وإظهار مدى وحشيتها، وانعدام المنطق وراءها، كأن يقدمّ حلقة كاملة عن إحدى الضحايا التي لم تتجاوز 15 عاما، وقد قرر أن يغتصبها قبل أن يقتلها، لأنه يجد رجولته في مثل تلك المواقف فقط.
يبدو المسلسل مشغولا أكثر بإظهار وحشيته غير الآدمية، والتساؤل عن انعدام جدواها أساسا.
“شخص يمكنه أن يشارك وحدته”.. قصة حب معقدة بين الأبطال
يبدو المسلسل في كل حلقاته مشغولا بفهم كيفية ميلاد قصة الحب المعقدة بين الأبطال منذ تفاعلاتهم الأولى، فقد كتبوا لبعضهم خلال فترة وجود الزوج في السجن، بدأت القصة في عام 1987 عندما نشر الرجل إعلان في إحدى المجلات بحثا عن شخص يتراسل معه، وكان حينها يقضي 8 سنوات في السجن بتهمة الاعتداء الجنسي على فتيات صغيرات.

لقد كان يبحث عن “شخص يمكنه أن يشارك وحدته”، وفي ذلك الوقت على الجانب الآخر كانت تعيش الفتاة “مونييه” مطلقة مستهجنة من مجتمعها الصغير، مجبرة على ترك أطفالها، والعيش وحيدة دون أي رفيق، يبدو أنه كان وقت ملائم تماما للتوافق مع شخص ما، لقتل وحدتها ووحدته على الرغم من غرابة ذلك نسبيا.
ستتحول الأمور لاحقا، بعد تبادل عدد من الرسائل أخبرها فيها الرجل عن رغبته في الزواج منها، وأن يأخذ لها حقها من العالم، بداية من زوجها القديم الذي أذلها، فوافقت على مساعدته في تحقيق خيالاته، أو ربما أعطته تلك المساحة من الاهتمام والذكورة التي لم يحصل عليها من آخرين، اغتصاب قاصرات سيجعله في منطق قوة لم يشعر بها من قبل، تساعده فيه امرأة ترى أنها تعوّض بذلك غياب أطفالها وعالمها القديم.
الملفت في التحقيقات هي المساحة العميقة التي كانت تشارك فيها الزوجة بالكتابة في مختلف تفاصيل حياتها، في الوقت الذي كانت تتفرغ فيه لكتابة كل ذلك والتعبير عن الرغبة في أنها “تشعر بالوحدة والغضب من العالم الذي لا يأبه لوجودها تماما، وزوجها القديم الذي هجرها دون داعٍ”. تنتهي مراسلاتهما بوعد منه أن ينتقم لها من كل ذلك، وأن يقتل وحدتها تلك بمجرد خروجه.
ذو النظارات النحيف.. منظر عادي لأحد أخطر السفاحين
يبدأ المسلسل من مشاهد مظلمة تماما، غامضة ومخيفة نوعا ما، تبدو معادلا بصريا يتفهم المأساة القاسية التي سيضطر المشاهد إلى مشاهدتها وأحيانا تخيّل حدوثها.
تظهر طفلة مقيّدة وملقاة في خلفية شاحنة يقودها رجل يبدو عاديا تماما غير ملفت للأنظار، نحيف الجسد، متوسط الطول، يرتدي نظارة تجعله أشبه بكثير من الأشخاص الذين يمكن أن تقابلهم دون أن يلفتوا نظرك على الإطلاق، ثم يبدأ المسلسل في سرد قصته أو قصة حبه للمرأة الغامضة.
سريعا ما يدرك المشاهد أنه كان للتو يلقي أولى نظراته على أحد أخطر السفاحين، وعندما تتعمق أكثر في اللقطات والشهادات والسجلات، يتضح أكثر فأكثر أن الأمر لا يتعلق بالقاتل فقط كالمعتاد من الأعمال التي تتناول تلك القصص، بل بالشخص الذي مكّنه من ارتكاب تلك الأفعال.
تمر الحلقة الأولى بالتأسيس للحديث عن المرأة الغامضة، ثم تستمر الحلقات الأخرى في التركيز عليها وحدها، للتأكد من مدى تورطها في تلك الجرائم، من دون أن تكون في المواجهة.
“في نهاية التحقيق شعرتُ بالاشمئزاز من هذه القضية”
تبدو كل حلقة منفصلة في المسلسل بمثابة إسقاط مباشر على حياة الزوجة وسعيها القديم للهروب من الوحدة، وعلى عكس الوثائقيات التي يفترض أن تطرح أجوبة على الأسئلة، فإن هذا المسلسل يترك انطباعات الحيرة والتساؤل بشكل أعمق حتى الحلقة الأخيرة التي يدين فيها “مونيك أوليفييه” بوصفها العقل المدبر وراء كل تلك الجرائم.
يقول المحقق قبل أن ينتهي من حديثه الطويل: في نهاية هذا التحقيق الذي استمر لسنوات شعرت بالاشمئزاز من هذه القضية، بل يمكن أن نقول إن فرنسا كلها شعرت بذلك، وخاصة تلميحات “أوليفييه” بأن ابنهما البالغ من العمر 20 عاما شهد عمليات اغتصاب وقتل عندما كان صغيرا، وسيشهد أثناء المحاكمة، وكذلك زوجتا “فورنيريت” الأوليان.
على ما يبدو كانت تجربة الوحدة القاسية التي مرت بها “مونيك أوليفييه” السبب الأهم في خوض كل هذا الصراع للانتقام من العالم بطرق ملتوية، بعدما فقدت زوجها القديم وأصدقائها وأولادها أيضا، يترك المسلسل نهاية قاسية تروي بشكل مباشر كيف تبدو مأساة الإنسان الوحيد، بالتحديد كيف يمكن أن يتحول الضعف البشري في لحظة غضب إلى انتقام جنوني غير مبرر؟