“الغميضة”.. ألعاب خشنة تمزق الطفولة في شوارع نابولي الإيطالية

ما الذي يمكن أن ينتظر جيلا جديدا من الأطفال الذين ينشؤون في أجواء الفقر والحرمان والبطالة في حارات مدينة نابولي الإيطالية المليئة بكل مظاهر الفقر والجريمة، وحيث يصبح الحلم بالتحقق مستحيلا، ولا تجدي إصلاحيات التأديب الحكومية في تقويم السلوك، بل ربما تساهم في تفاقم حالات الانحراف أكثر، لينتهي الأمر بالطفل إلى نفس مصير الأب، أي في السجن.

هذا هو موضوع فيلم “الاستغماية” أو “الغميضة” (Nascondino)، وهو العمل الأول للمخرجة الإيطالية “فيكتوريا فيوري” (2021)، والغميضة هي اللعبة المعروفة التي يلعبها الأطفال، إذ يغمض أحدهم عينيه ثم يختبئ الآخرون، ليظل يبحث هو عنهم في الأماكن التي يظن أنهم يختبؤون فيها.

لكن الفيلم ليس عن اللعبة الطفولية، بل عن واقع خشن وجاف تحلق فوقه أجواء الجريمة في شوارع الحي الإسباني في مدينة نابولي، وهو معروف بانتشار العنف والجريمة.

“إنتوني”.. طفل مشاكس في مدينة المافيا

يتركز موضوع الفيلم حول الطفل “إنتوني” (9 سنوات) وعائلته وظروف حياته المرتبكة التي تدفعه لقضاء معظم الوقت في الشارع برفقة صديق له يدعى “ديلان”، حيث يتسكعان ويقودان دراجتين ناريتين ويتجولان بهما، ويسبحان في البحر، ويمارسان السرقات الصغيرة، ويتحايلان للحصول على المتعة، ولو عن طريق حرق السيارات، أو جمع بقايا أشجار عيد الميلاد وحرقها في ساحة الحي مع مجموعة من الأولاد.

لكن “إنتوني” طفل عنيد ومشاكس، لا يستجيب إلا لنزعاته الخاصة، تخشى جدته أن يقتفي أثر والده، وينتهي مثله إلى السجن، بل إنها لا تجد مخرجا له من هذا المصير.

يتابع الفيلم حالة “إنتوني” خلال أربع سنوات من عمره (9-13)، وهو يقيم مع أمه “ناتاليا”، أما والده فهو في السجن، وكذلك والد صديقه “ديلان”.

تستغل عصابات المافيا الظروف العسيرة التي تعيشها العائلات من البطالة والفراغ والفقر وغياب التعليم، لكي تجذب الشباب من عمر مبكر للعمل في صفوف العصابة. وينتقل هذا المصير من جيل إلى آخر، والدولة تحاول التدخل من أجل انتشال الأطفال الذي ترى أنهم بلغوا حدا من الخطورة لا تسمح بتركهم نهبا للتجنيد من جانب المافيا، فتضعهم السلطات في الإصلاحيات أو في السجن، وهذا هو المصير الذي ينتظر “إنتوني”.

أحلام الصبا.. عالم من خيال في عائلة تحب السجون

المشكلة أن الصبي يحلم بأن يصبح ممثلا، ويبدو كأنه يعيش في الخيال أكثر مما يلمس الواقع، وهو يستمد العنف والمشاكسة من الأفلام ومما يجري من حوله أيضا، وحتى وهو يداعب شقيقه الصغير “جايتانو”، فهو لا يبدو أبدا رحيما به، بل فظا غليظا. لكنه أيضا صبي حالم، ربما لو كان قد نشأ في بيئة أفضل لكان له شأن آخر، ونحن نراه مثلا يناقش صديقه “ديلان” حول فيلم “تيتانك” (Titanic) الشهير الذي يحبه كثيرا.

تقول الجدة “دورا” إنها لا تفهم لماذا يحيق بهم هذا المصير، وإنها تستشير ورق اللعب علها تحصل على الإجابة، ثم تروي أنها سقطت في شبابها في حبائل المافيا، وكانت صعبة المراس، وكان جميع الشرطيين يعرفونها، وغالبا كانت تقوم بتوزيع المخدرات، ثم سُجنت، وكانت تفر من السجن ثم تعود إليه، كما سُجن زوجها الذي اضطر للسرقة لكي يعول أبناءه؛ الابنة “نتاليا” وأخويها اللذين لا نرى لهما أثرا في الفيلم، وربما يكونان في السجن أيضا، ثم مات الزوج في السجن وهو ابن 23 عاما.

طفل اللعبة الخطرة في شوارع نابولي

يأتينا حديث الجدة “دورا” متقطعا على مدار الفيلم، تماما مثل حديث “إنتوني” عن نفسه وعن حياته، وحديث الأم “نتاليا”، وهذه الأحاديث تأتي من خارج الصور، أي ليست أحاديث مباشرة، وهو أسلوب في السرد يجعل الفيلم مزيجا من الوثائقي والروائي، لكن المخرجة تستخدم اللقطات القريبة للوجوه من زوايا مختلفة لكي تحقق تأثيرا عاطفيا.

يوميات المشاغبة.. ألاعيب الحي التي تقود للخطر

تستخدم المخرجة بعض المشاهد التي يبدو أنها أعدت بتخطيط مسبق، فلم يكن ممكنا أن تصادف حدوثها أثناء التصوير، فبينما كان “إنتوني” مع صديقه “ديلان” في الحي الذي يكثر فيه الأطفال المشاغبون، يعثر “ديلان” على هاتف محمول ملقى على الأرض.

وحين يلتقط “ديلان” الهاتف تأتي مكالمة من طرف صاحبه على الفور، فيلتقط “إنتوني” الهاتف من يده، ويعبث قليلا مع المتحدث على الطرف الثاني قائلا له إنه لن يعطيه الهاتف، ثم يطلب مبلغا من المال مقابل إرجاعه، ويحدد له مكانا في المدينة.

نرى في المشهد التالي الصبيين يقفان مع رجلين، تتعمد المخرجة تمويه وجهيهما لأسباب قانونية، وتلتقط الصورة من زاوية بعيدة بعض الشيء، ثم يعتدي الرجلان على الصبيين وينتزع أحدهما الهاتف، ثم يبتعدان.

إنتوني طفل حالم يعيش في واقع مغلق

ليس من المحتمل أن يكون العثور على الهاتف تلقائيا، أما مشهد الرجلين فقد صور سرا بالطبع. وهو مشهد واقعي تماما.

“ركن الحرية”.. حلم لصبي قضى 9 سنوات في السجن

هناك مشهد آخر في الفيلم حينما يروي صوت “إنتوني” (من خارج الصورة) حلما رآه لصبي قضى 9 سنوات في السجن، ثم خرج من السجن، وأخذ يتطلع إلى النجوم البعيدة في السماء، ثم يعبر الشارع، ويدخل مقصفا يدعى “ركن الحرية”، وهناك يتناول بضعة كؤوس من الشراب ويأكل شطيرة، ثم يركب سيارة أجرة ويعود إلى بيته.

وعندما يصل إلى البيت يجد الجميع نائمين، فيتشمم جميع الملابس والمفروشات، وكل ما يجعله يشعر بمعنى البيت، ثم يجد أن الجميع سعداء. ويتوقف “إنتوني” عن السرد، ويهتف مقلدا المخرجة “قطع”.

تترجم المخرجة هذا الحلم الذي يرويه بصوته من خلال لقطات مصورة تعكس بشكل حرفي ما يصفه، وفي سياق شاعري يطلعنا على جانب رقيق في شخصيته، وهذا الحلم جاءه مباشرة قبيل انتقاله إلى الإصلاحية، حيث سيقضي هناك 20 يوما كما ترى السلطات المسؤولة.

هناك لقطات كثيرة قريبة لوجه الجدة الحزين وهي تدخن أو تقلم أظافر يديها، ولقطة مماثلة أخرى للأم وهي تحفف أظافرها أيضا وإلى جوارها “إنتوني”، تحدثه عن لون الفراولة الذي اختارته لأظافرها، وأن لديها أيضا قميصا باللون نفسه، وهو ما يشي بأنها مهتمة كثيرا بنفسها وأناقتها، فنراها في مشاهد أخرى تتزين أمام المرآة.

ولا يخبرنا الفيلم قط من أين تحصل على المال الذي تنفقه على أبنائها، لكنه يترك لنا مساحة للتفكير، فمورد الرزق الوحيد المتاح في هذه الحالة هو العمل مع المافيا. والجدة تقول في إحدى المرات إنها لا تستطيع أن تصرح بكل ما لديها عن نفسها، وإلا تورطت فيما لا تحمد عقباه.

لغة السرد.. أسلوب يطفح بالشاعرية والإثارة

اعتمدت المخرجة أسلوب السرد القائم على الانتقال بين اللقطات الواقعية المباشرة التي تتميز كثيرا بالعفوية، خصوصا تلك التي تجمع بين الصديقين “إنتوني” و”ديلان”، ولقطات أخرى لأطفال في شوارع نابولي يحملون المسدسات ويطلقون النار، وبين المشاهد الأخرى القريبة من روح الأفلام الروائية، وخصوصا مشاهد إعادة تمثيل الواقع.

الجدة الحائرة والطفل المشاكس

يمنح هذا الأسلوب الفيلم بعض الإثارة والشاعرية، خصوصا مع استخدام الموسيقى التعبيرية والدرامية، لكنه يسبب أيضا بعض الحيرة والارتباك في استقبالنا للفيلم، ففي أحد المشاهد نرى “إنتوني” وهو يهرب من الإصلاحية التي أودع فيها، وهو مشهد من المستبعد تماما أن يكون مشهدا تلقائيا، أو حدث من دون ترتيب، فليس من الممكن أن تكون المخرجة قد علمت مسبقا بنيته الفرار، واستطاعت الاقتراب بالكاميرا من المكان، وصورت بوابته الحديدية الخارجية والصبي يقفز من فوقها، والمؤكد أن المشهد من نوع “إعادة التجسيد”، أي إعادة تمثيل ما حدث.

ومع ذلك يظل الفيلم مثيرا للاهتمام كثيرا، جذابا في شكله وبنائه، ومتقنا في صوره المدهشة التي تنتقل من الداخل إلى الخارج، ومن النهار إلى الليل، مع غلبة الطابع الحزين على الصورة بشكل عام، والإضاءة الخافتة والألوان القاتمة.

“جايتانو”.. حالة من الضياع العابر للأجيال

هناك مشهد ذو دلالة خاصة في الفيلم يتعلق بأخي “إنتوني” الصغير “جايتانو”، ففي الجزء الأخير من الفيلم نراه وقد بدأ أيضا يصبح مشاكسا عنيدا، يقتفي أثر أخيه، يصر على الخروج إلى الشارع للعب مع الأطفال، يقاوم الذهاب مع أمه إلى المشرفة الاجتماعية التي حددت أياما معينة يجب أن تراه فيها، وهو نوع من المتابعة والرعاية النفسية.

ثم نراه وهو في الشارع يتسلق الأعمدة، ثم في مشهد آخر يعيد إلى ذاكرتنا المشهد الذي رأيناه في بداية الفيلم، فـ”جايتانو” مثل أخيه يجمع بقايا أشجار أعياد الميلاد مع أصدقائه، ويصنعون منها كتلة كبيرة وسط ساحة تحيط بها منازل سكنية، ويشعلون فيها النيران، وهي إشارة إلى الدائرة المفرغة وكيف تنتقل حالة الضياع من جيل إلى آخر.

قتل صديق الطفولة.. انهيار عصبي ونهاية مفتوحة

لا شك أن المخرجة تقدم فيلمها من خلال رؤية متعاطفة مع بطلها الصغير، تتابعه والتغيرات وعلامات النضج تظهر على وجهه بوضوح، قبل الأوان، لكن الفيلم في الوقت نفسه ينتقد أيضا السلطات التي لا تمتلك برنامجا حقيقيا للإصلاح، بل تلجأ للعقاب والقهر الذي يقول لنا الفيلم إنه لا يجدي، وإن “إنتوني” سيظل يمارس الهرب من الحبس باستمرار، لذلك لا ينتهي الفيلم نهاية مغلقة.

مخرجة الفيلم فيكتوريا فيوري

نعرف فقط من العبارات التي تظهر على الشاشة في النهاية، أنه بعد أن انتهت محاكمة “إنتوني” حاول الفرار مجددا، لكنه انتهى إلى سجن الأحداث (الأطفال الذين هم تحت السن القانوني).

وبعد مرور عدة أشهر عرف “إنتوني” أن صديق طفولته قُتل على يدي رجل شرطة، فأصيب بانهيار عصبي، وبعد فترة وجدوا أنه لم يعد يمكنه من الناحية النفسية أن يتحمل البقاء في السجن، فأعيد إلى بيت أسرته، لكن القصة لا تنتهي هنا، فليس من الممكن إغلاق الدائرة طالما ظلت الأوضاع على ما هي عليه.


إعلان