“بِاسم الدين”.. أكاذيب الآلهة المخادعين في كوريا التائهة

قليل من التأمل لكل إنسان قد يجعله يكتشف درجة التعقيد الكبيرة التي يحتاجها لفهم موقفه الشخصي من وجود خالق لهذا الكون، وربما -بناء على ذلك- ظهرت مساحات فضفاضة من الجدال سجّلها التاريخ كانت تدور في فلك الإيمان بالله أو محاولات تكذيب وجوده، وفي النهاية، تدور كل تلك المناقشات حول محور محاولة الوصول إلى الله.

فثمة شيء هنا لا يمكن تجاهله أو التهاون في الحديث عنه أو بخصوصه، وهو أن كل شيء هو رهن حقيقة الوصول إلى الله من عدمه، لذلك قدّمت الأديان فكرتها عن الإله مباشرة عقائديا وتوحيديا، بينما أمضت الفلسفة الغربية آلاف الأعوام تحاول تحديد ما يعنيه هذا الإيمان وما يمكن البناء عليه من خلاله.

كما أنتجت البشرية آلاف النماذج التي حاولت الفلسفة أن تصل للحقيقة عن طريقها، تماما مثلما جاء في مسلسل منصة “نتفليكس” الحديث: “باسم الدين.. إيمان وأكاذيب” (In the Name of God: A Holy Betrayal)، ويعبر بشكل غير مباشر عن إحدى التصورات الغريبة التي قد يسقط الإنسان فيها لمجرد تجاهل البحث عن وجود إله فعلا، بالاكتفاء بأن يعيش في أوهام لا تنتهي.

يقف مسلسل المخرج “جو سونغ هيون” أمام تلك الأسئلة الكبيرة القديمة والأكثر أصالة من كل الأسئلة الأخرى، ويتساءل عن معنى الإله الحقيقي والإله الكاذب، من خلال مسلسل قصير يحكي قصصا متفرقة فيها جرائم أربعة قادة ادعوا أنهم آلهة.

“إيمان وأكاذيب”.. جدار للتغطية على الرغبات المكبوتة

اختار المسلسل أن يحمل تسمية مباشرة “باسم الدين.. إيمان وأكاذيب” ليقدم كل حركة فيه اعتمادا على الدين -وتحديدا- الدين المخادع، الذي قرر هؤلاء الأربعة أن يروا العالم من خلاله ويحققوا رغباتهم المكبوتة، بناء على التلاعب بالنصوص التي جاءت فيه.

“ميونغ سوك” يجمع أفراد طائفته في كنيسة “جيه إم إس” في حركة دينية مسيحية جديدة

فـ”باسم الدين” تعني هنا الإيمان الأعمى الذي يتغافل عن كل شيء، مقابل دين لم يبحث أصحابه وراء حقيقته بالشكل الكافي، فيدعي الإنسان أن أفكاره “باسم الدين”، لكنها في الحقيقة تتخذه جدارا للاختباء وراءه وممارسة التضليل.

ويجمع المسلسل قصص التحقيقات مع أربعة أشخاص من كوريا الجنوبية، رجلان وامرأتان، في فترة زمنية قريبة نسبيا، ولديهم جميعا مرجعية دينية مسيحية، وربما من هذا وبناء عليه يمكن التحرك أكثر نحو تفكيك ومحاولات فهم هؤلاء الأشخاص وأتباعهم، من زوايا لا تقتصر على الدين فقط كما أظهر المسلسل.

كوريا المشتتة.. بضاعة رائجة للبسطاء الحالمين بالخلاص

تتطور قصص الأربعة نتيجة عملهم الأول في الكنيسة، من أشخاص عاديين إلى جنون ادعائهم للألوهية، ويختار كل واحد منهم ضحاياه جيدا ويخدمهم جميعا. لحظات استثنائية داخل كوريا الجنوبية في الثمانينيات من القرن الفائت، كانت مليئة بالصراع والتشتت والعراك الذي جعل حلم البسطاء بالخلاص والراحة محطةَ هوس وضرورة ملحّة، تبحث عمن يحققها مهما تطلّب ذلك من الكذب والجنون.

المسلسل يدور حول قصص أربعة أشخاص ادّعوا الألوهية في كوريا الجنوبية

لذلك فإن تجاهل اللحظة التاريخية السياسية التي خرج فيها الأشخاص الأربعة، واعتبار ذلك مجرد فهم خاطئ للدين، ربما يبدو نظرة قاصرة، في محاولة لتفسير هذه العوالم التي لجأت للاحتيال بالدين تحديدا، لكونه أكثر الأشياء التي لا يمكن حتى لأي دكتاتور أن يستأصل وجوده في المجتمع.

فثمة صراع طويل ومنهك خاضته كوريا ما بعد الحرب العالمية الثانية أدّى في النهاية لانقسامها إلى جنوبية وشمالية، ففي عام 1979 تحديدا، تولّى “تشون دو – هوان” رئاسة كوريا الجنوبية بعد انقلاب عسكري اغتيل فيه الرئيس “بارك تشونغ هي”، بعد فترة طويلة من الشتات والحروب الداخلية، فحكم الرجل البلاد بقبضة من حديد، وقمع المعارضة السياسية لدرجة جعلته معروف داخليا وخارجيا بـ”الجزّار” أو “جزار غوانغجو”، وذلك بعد المذبحة التي أقامها في حق معارضين له لم يترك منهم أحدا.

ما بعد الحرب.. ظرف تاريخي يحكمه اليأس والانغلاق

صارت كوريا الجنوبية معلقة بين ألم ما بعد الحرب التي لا تحتمل أي صراعات داخلية أو ثورات، وبين الرضوخ أمام هذا الدكتاتور الذي لا يرحم معارضيه أبدا، في الوقت الذي يعد فيه الشعب يوميا بالجنة المستقبلية.

أتباع يجتمعون عند آلهة مزعومة هربا من بطش الحاكم الجلاد

ويبدو أن ذلك قد خلق حالة من الانغلاق واليأس والانسحاق الجمعي للحاكم، مما أدى بشكل غير مباشر للهروب والإيمان الوهمي المرتبك والضعف العام أمام كل من يمكنه امتلاك سلطة، لينتقل الخوف من إنسان واحد “جبار” بشكل غير واعٍ إلى محاولات قليلة من التعلق بإنسان واحد أيضا، لكنه لا يرفع سيفه بل يبشّر ويساعد.

ويمكن اتخاذ هذه الخلفية السياسية لثمانينيات القرن المنصرم داخل كوريا الجنوبية ملمحا عاما وبيئة خصبة تماما لادعاءات أشخاص توافق الظرف التاريخي لاحتيالهم على مجموعات صغيرة من الفقراء، وادعائهم للألوهية التي تخدع الناس وتوهمهم بأنها قد تخلصهم من السجن الذي يعيشونه في ظل وجود ديكتاتور.

أكاذيب الآلهة.. دعوات للزهد تخفي هوسا بالملذات

يتكون المسلسل من ثماني حلقات منفصلة متصلة، تتمحور الحلقات الثلاث الأولى منه حول مجموعات الـ”جيه أم أس” (JMS)، وقد أسسها رجل سوف يتهم لاحقا بعدد من مزاعم الاعتداء الجنسي.

وأما الحلقة الرابعة فتحكي عن “جماعات المحيطات الخمسة” التي ادعى من خلالها أشخاصٌ أنهم يرون نهاية هذا العالم، تليها حلقتان عن “مجتمع حدائق الطفولة” التي تحكي عن شخص ادعى الألوهية، بينما كان هوسه هو تعذيب الأطفال.

“سو جونغ جونغ” مع زعيم طائفتها “ميونغ سوك جونغ” الذي عبدته وسمحت له بالتجاوز الجنسي معها

وتأتي الحلقة الأخيرة في السلسلة لتركز على جماعة القس “لي جاي روك” في كنيسة “مانمين”، فقد اقتحموا مقر قناة “إم بي سي” (MBC) من أجل الإله المزعوم الذي يعبدونه، وهو رجل كانت القناة ترى أنه مجرد مدّع كاذب.

ويقف المسلسل أمام هؤلاء “الآلهة المزعومين”، ليسلط الكاميرا مباشرة على كذبهم وادعائهم وهوسهم باللذة في ذاتها، وكذا إظهار مفارقة شراهتهم الدنيوية في مقابل الزهد الذي يطلبونه من الأتباع، وهو التضاد بين الفكرة التي طلبوا أن يعبدهم الناس بسببها وبين تحقيق عكسها تماما، حيث يُظهر المسلسل تلك المفارقة، لكنه يمر سريعا في كل مرة، من دون أن يتأمل هؤلاء الأتباع بما يكفي، ولا يترك مساحة لإظهار أفكارهم الساذجة تجاه الأشخاص الذين اعتقدوا أنهم آلهة.

صنّاع المسلسل.. غضب يورط المشاهد في تكوين موقف مضاد

يصنع الإيقاع السريع للمسلسل أسلوبا تقريريا يحاول سرد المعلومات الأرشيفية حول كل بطل، كما يحاول أن يورّط المشاهد سريعا، لتكوين موقف مضاد في كل مرة بإدانة الكذب.

ويبدو المسلسل منذ اللحظة الأولى غاضبا، فقد حسم صنّاعه تصوراتهم تجاه أبطاله أو تجاه القضايا التي يرون أنها الأهم والأكثر امتيازا للتركيز عليها. ويظهر ذلك جيدا حتى من مقدمة البداية، فهي مصنوعة على اعتبار أن المسلسل لغز تحقيق بوليسي يحتاج إلى تفسير، ثم إلى إدانة مباشرة لصور الأشخاص (الآلهة الكاذبة) داخل خطوط وشبكات تحتاج أن توصل ببعضها لإثبات تورّطهم.

“لي جاي روك” القس الذي ادعى امتلاكه لعلاج سحري يشفي أصعب الأمراض

كما تُظهر اللقطات الأولى الدافع الذي خرج من خلاله المسلسل، فنرى فتاة كورية ثلاثينية اسمها “سو جونغ جونغ” أو “ميبل” وهي تبكي بحرارة عندما تتذكر أمام الكاميرا ما فعله بها زعيم إحدى الطوائف وهو “ميونغ سوك جونغ” الذي كانت تعبده، فقد كان يعتدي عليها ويوهمها أن ذلك “منحة إلهية ينبغي أن تُسعدها”.

والسؤال الذي كان يحتاج أن يظهر أكثر أو أن يُظهر المسلسل إجابة له هو: لماذا يلجأ إنسان يملك الحد الأدنى من العقل إلى عبادة إنسان آخر مثله؟ وهل يمكن للضعف البشري الذي أنتجته السلطة السياسية في مختلف النواحي أن يجبر أولئك للجوء حصرا لمثل هذا الفعل؟

“جيه أم أس”.. طائفة منفتحة تحت قبة دينية محافظة

في الحلقات الثلاث الأولى التي تحكي قصة رجل واحد من الأربعة، يحاول المخرج التأسيس لكل القصص التالية، فيطيل الحكاية أكثر من غيرها، من أجل توريط المُشاهد بباقي القصص.

فمع عزف الموسيقى الملحمية، نشاهد قصة “ميونغ سوك” الذي جمع طائفته من الـ”جيه أم أس” (JMS) (اسم كان شائعا بين طلاب الجامعات في الثمانينيات، وهو اسم لكنيسة جديدة وحركة دينية مسيحية جديدة آنذاك)، وقد توافد الشباب والشابات على الكنيسة بدافع انفتاحها النسبي وخطابها الأكثر حداثة من غيره، إلى جانب محافظتها ووجودها تحت قبة دينية.

ومع أن عالم أتباع الـ”جيه أم أس” تزعزع عندما حُكم على زعيمهم “ميونغ سيوك” بالسجن لمدة 10 سنوات في عام 2008، لاغتصابه ثلاث فتيات من أتباعه، فإنه على الرغم من ذلك لا يزال واعظا حرا لم تتوقف مزاعم سوء السلوك الجنسي ضده، ولم تتقدم شكاوى أمامه بعد ذلك.

انتحار جماعي سببه التعصب الديني يودي بحياة 32 رجلا وامرأة

ففي فترة قريبة نسبيا، وبالتحديد في عام 1987، أصيب الناس في مقاطعة كيونغ كي دو الكورية بصدمة عندما تبين أن مصنعا تحت الإنشاء كان منزلا خفيا عُثر بداخله على جثث 4 رجال و28 امرأة، فما كان ينظر إليه على أنه مجرد انتحار جماعي بسبب التعصب الديني، بدأ التصوّر بأنه قد يكون شيئا أكثر شرا. فقد كان الجميع أعضاء في مجموعة دينية وعمل تجاري يسمى “المحيطات الخمسة”، وقد ظن أتباعه أن موتهم معا سيحقق لهم الخلاص.

جماهير الإله الكاذب.. اقتحام القناة التي كشفت الحقيقة

في عام 1996، بدأت شرطة كوريا الجنوبية التحقيق في طائفة دينية تسمى “حديقة الأطفال”، لكنها متهمة بالتعدي على الأطفال وتعنيفهم وأحيانا قتلهم. وقد وُجدت الطائفة المتطرفة منذ الثمانينيات كمجتمع من الناس يكسبون ويزرعون مواردهم الخاصة، وكانت هناك ادعاءات بأن القُصّر يتعرضون للاستغلال الجنسي، وأن الأطفال يتعرضون للجوع والضرب.

وأخيرا جاءت قصة “لي جاي روك” وكنيسته المركزية في مانمين، وهو يدّعي قدرته على العلاج السحري وشفاء أصعب الأمراض، فقط من خلال الدين وعبادة القس.

“حديقة الأطفال” طائفة دينية تدعي العمل على حماية الأطفال من الشوارع والعنف

فعلى الرغم من وجود مزاعم بأن كنيسة مانمين كانت معقلا لأنشطة كاذبة وغير قانونية لكثيرين في الماضي، فإن أتباع هذه الكنيسة أظهروا طبيعتهم العنيفة في إحدى الليالي من عام 1999، عندما كانت “إم بي سي” في كوريا قد أعدت عرضا يستند إلى الادعاءات ضد “الإله الكاذب” وكنيسته.

وقد توافدت حشود من أتباعه إلى مكتب القناة في تلك الليلة، لإيقاف البث المباشر بشكل غير قانوني، وحينها يُجن هذا الرجل بينما لا تزال طائفته تنتظره في الخارج وتصلي له ومن أجله.

“قطف الثمرة”.. هوس بالمحرمات التي يمنع منها الأتباع

في إحدى الحلقات، أعلن واحد من الآلهة الأربعة المزعومين عن نظرية “قطف الثمرة”؛ وكانت نصيحته الأساسية لأتباعه بالامتناع عن ممارسة الجنس، بينما كان هو أكثرهم ممارسة له، وفي حلقة أخرى كانت هناك امرأة منعت النساء كذلك من مصاحبة الرجال بينما فعلت هي ذلك. وثالثة كان لديها هوس بفكرة حماية الأطفال حتى من أهلهم، بينما كانت أول من يتجنى على الأطفال -تحديدا دون غيرهم- بشكل أكثر عنفا وقسوة من أغلب ما يمكن أن تراه في حياتك.

“ميونغ سوك جونغ” يودع أتباعه بعد أن حكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات لاغتصابه ثلاث فتيات

وبذلك يظهر كل إله مزعوم من هؤلاء مهوسا بالشيء ذاته الذي يدعو أتباعه إلى الزهد فيه، فهو يجمع المال بنهم، ويمارس الجنس بشراهة، لكنه يجرّم فعل ذلك على أتباعه.

وفي المشهد الأخير للمسلسل، تردد مجموعة من المتظاهرين هتاف: “نريد الحقيقة”، بينما يظهر على الشاشة أحد هؤلاء الآلهة الكاذبين في حالة ضعف بشري طبيعي.

ويبدو المشهد متجاوزا الغضب من كل الكذب والادعاء الذي جعل الرجل وأمثاله يتحايلون على الناس به، يبدو وقفة صادقة للتأمل ودعوة المُشاهد إلى محاولة اكتشاف الحقيقة دون خداع، بالبحث عن الإله الحقيقي، وقد ظهر أن هؤلاء الآلهة المزعومة لم يتلاعبوا بالناس، بل تلاعبوا بحقيقة وجودهم ذاته، وبالتساؤل الذي عليهم أيضا إجابته دون تهاون أو هروب.


إعلان