“مصريو البلقان”.. أجيال الفراعنة الباحثين عن الحديد منذ 3 آلاف عام

قليل من الناس من يعرفون بوجود مجتمع مصري في دول البلقان اليوم، أما الذين يعرفون أن أصول هؤلاء المصريين تعود إلى القرن الـ13 قبل الميلاد، فهم ثلة قليلة من الباحثين والمتخصصين في علم الأنثروبولوجيا والأعراق البشرية.

من أجل ذلك أنتجت الجزيرة الوثائقية هذا الفيلم، وعرضته على شاشتها تحت عنوان “مصريّو البلقان”، واستعرضت فيه جوانب من حياة المجتمع المصري في اثنتين من دول البلقان؛ هما كوسوفو ومقدونيا، وسلطت الضوء على المشاكل والتحديات التي تواجهها الأقلية المصرية هناك، من التمييز العنصري والتهميش المجتمعي وعدم تكافؤ الفرص في السكن والعمل والتعليم.

طلب الحديد.. عبيد الفراعنة المستوطنين منذ 3 آلاف عام

في فترة حكم الفراعنة، وتحديدا في أوج حقبة النهضة الحضارية في مصر القديمة، أرسل الفرعونُ “سيتي الأول” من الأسرة التاسعة عشرة، بعثةً استكشافية من المصريين على رأسها ابنه، إلى الطرف المقابل من البحر المتوسط في منطقة البلقان، وذلك من أجل البحث عن المعدن الثمين آنذاك، وهو الحديد، وتتابع إرسال العبيد المصريين من أجل جلب ذلك المعدن.

في سبيل البحث عن الحديد، هاجر مصريون إلى دول البلقان واستوطنوها

استوطن بعض أولئك العبيد المصريين منطقة البلقان وبنوا حياتهم هناك، وما زالوا بها حتى يومنا هذا، حيث يقدَّر عدد أحفادهم اليومَ بأكثر من مليون مصريّ، يمثِّلون عرقا مجتمعيا مهمشا، ومع ذلك بقوا فخورين بأصولهم، وبعد مرور 3 آلاف سنة ما زالوا يسمون أنفسهم “المصريين”.

ففي بلدة سكوبي بمقدونيا، تحدث إلينا “روبين زيمون”، وهو عالم أنثروبولوجيا من أصول مصرية قديمة قائلا: هذا الكتاب هو رسالتي لنيل الدكتوراه بأكاديمية العلوم في صوفيا (عاصمة بلغاريا)، وهو عن السكان الأصليين في عهد الاحتلال، وكيف قدِم المصريون إلى البلقان، تحدثتُ فيه عن قضية الهوية الشائكة المعقدة للمجتمع المصري هنا.

بين مصر والبلقان حكايات عائلات رحلت لتعيش حياتها في الغربة

عاش المصريون في البلقان في عزلة تامّة تقريبا، دون أن يتفاعلوا مع المجتمعات الأخرى، ولم تكن هنالك مصاهرات مختلطة على مدى 33 قرنا. وهم يشتغلون في مهن متعددة، ومهنتهم الأكثر شيوعا هي الحدادة، أما في كوسوفو فيشتغل أكثرهم في الزراعة، وتمثل الموسيقى واحدة من المهن المهمة التي يمتهنها المصريون البلقان.

تاج فرعون وألوان العلم والأهرامات.. شعار الحزب المصري

نتوجه إلى بريشتينا عاصمة كوسوفو، لنلتقي حقّي سيرمجاني، وهو معالج فيزيائي ليقول: هذا مقر الحزب الليبرالي المصري في كوسوفو، وهو ممثَّل في مجلس الشعب الكوسوفي، ويدافع عن حقوق المجتمع المصري في كوسوفو، ونحن اليوم مجتمع معترَفٌ به في دستور الجمهورية، بينما لا يُعترَف به في الجمهوريات البلقانية المجاورة، مثل مقدونيا والبوسنة وألبانيا.

حقّي سيرمجاني يداوم في مقر الحزب الليبرالي المصري في كوسوفو والذي اختار شعاره من رموز مصرية

يقول حقي: لنا شعارنا الذي اتفقنا عليه في مؤتمر الحزب في بريشتينا، ويظهر فيه تاج فرعون وألوان العلم المصري الحالي والأهرامات، فقد حاولنا الجمع بين الرموز المصرية المختلفة.

ويتحدث عن علاقته الروحية بوطنه الأم وعاداته قائلا: أحاول التعرف على السمات والخصائص التي تجمعني بمصر الأم، فأبحث عن الموسيقى والعادات المصرية التي أحبها، وكنت أستمع للمغني عمرو دياب، وأحب أغانيه، وكم كانت فرحتي عندما اكتشفت مؤخرا أنه مصري، وكذلك الحال مع أغاني أم كلثوم، فعندما أسمع موسيقى أغانيها أشعر أنني أحلق في سماء مصر.

“لوان قوقاني” صانع فَخار يعمل في مهنة أجداده منذ 29 عاما

أما “لوان قوقاني”، وهو صانع فَخار، فيقول: ورثت هذه المهنة عن آبائي وأجدادي، وأعتبر نفسي من الجيل الرابع في هذه المهنة، وأعمل فيها منذ 29 عاما. وقد أخبرني أبي وجدي أن هذه المهنة تعود إلى المصريين القدماء في عهد الفراعنة، ويظهر هذا من اللمسات الفنية على منتوجاتنا، وهي تقربنا أكثر من موطننا الأصلي.

“فخورون بجذورنا المصرية”.. كفاح في مجلس الشعب الكوسوفي

التقينا أيضا “بدروش بودريمجا”، وهو صاحب معمل تدوير نفايات، ويقول: يجمع الصبية النفايات البلاستيكية، ويحضرونها إلى هنا لإعادة تدويرها، وأنا أقوم بوزنها وضغطها بالمكبس، ثم أعطيهم النقود مقابل ما يجمعون، وأحصل على قوت عيالي من خلال هذه المهنة، وأساعد غيري من المجتمع المصري على الحصول على لقمة عيشهم كذلك، فالحياة هنا صعبة وليس لنا سوى هذه السبيل لنجني قوت يومنا.

“بدروش بودريمجا” صاحب معمل تدوير نفايات يساعد أفراد المجتمع المصري للحصول على لقمة عيشهم

وفي بريشتينا عاصمة كوسوفو، التقينا “فيتون بريشا”، عضو مجلس الشعب الكوسوفي عن مجتمع المصريين، ويقول: بعد 16 عاما من الحرب المتواصلة منذ 1998، أعيد إعمار هذه المدينة بشكل جيد، وعادت إليها الحياة من جديد، وأنا عضو في مجلس الشعب، وأمثل مجتمعا محترما غير منقسم، ونحاول مساعدة الحكومة على انتهاج سياسات تخدم مجتمعنا وتحسن اقتصادنا، من أجل تعليم جيد وفرص عمل مناسبة.

ويقارن بين أوضاع المصريين في دول البلقان قائلا: نحن محظوظون هنا في كوسوفو، ومن المؤسف أن هذا التمثيل البرلماني لمجتمعنا المصري غير موجود في باقي دول البلقان. وأنا أحاول من هذا المكتب المهم أن أدعم تطلعات المجتمع المصري وباقي الأقليات في حياة أفضل وفرص عملٍ متكافئة، فنحن جزء من هذا المجتمع الكوسوفي، ونطالب الحكومات أن تعاملنا على هذا الأساس.

“فيتون بريشا” عضو مجلس الشعب الكوسوفي عن مجتمع المصريين

لا نريد مزايا خاصة، بل نريد إشراكنا في عملية صنع القرار الذي يجعل الجميع راضين وسعداء، فبعض الآخرين يحاولون وضعنا في درجة مواطَنةٍ ثانية، وبعضهم يحاول إلغاء هويتنا، ونحن فخورون بجذورنا المصرية ونحرص على المحافظة عليها، دون الإضرار بمصالح الآخرين.

عائلة “زيمون”.. أسماء تفوح برائحة الثقافة المصرية القديمة

يصحبنا البروفيسور “روبين زيمون” في جولة بمدينة هيراقليا الأثرية في مقدونيا، فيقول: هذا موقع جيولوجي يسمى “هيركلي”، وهو قريب من مدينة بيتولا في مقدونيا التي يعود تاريخ إنشائها إلى فترة العصر القديم الأول، ففيها أطلال قديمة وتمثال للإلهة آيزيس، وأكثر من 300 قطعة أثرية تشير إلى الثقافة المصرية القديمة، وأن المجتمع المصري عاش في هذه المدينة منذ القدم.

غالبية المصريين في البلقان مسلمون، ويتحدثون اللغات التي تتحدث بها بلدان البلقان المختلفة، اليونانية والمقدونية والألبانية، بالإضافة إلى اللغة التركية.

البروفيسور “روبين زيمون” المصري الوحيد في دول البلقان الذي يحمل شهادة الدكتوراه ويدرِّس في الجامعة

ويأخذنا البروفيسور “زيمون” إلى منزله: أعرفكم على عائلتي، فهذه زوجتي “ليونارا”، واسمها من أصول يونانية ومعناه السلام، وهذه ابتي الكبرى “أمونا” واسمها مشتق من الإله المصري القديم “أمون راع”، وابنتي الوسطى “دوريسا” واسمها مشتق من “الدوريسيين”، وهم أول قبيلة مصرية عبرت المتوسط إلى بلاد البلقان، وابني الأصغر “ديون” واسمه مشتق من بعض ألقاب الإله “أوزيريس”.

مخالطة الأعراق.. اندماج اجتماعي تحت روابط الحب

بالعودة إلى بريشتينا (عاصمة كوسوفو)، يحدثنا حقّي سيرمجاني عن حياته العائلية قائلا: تزوجت زواجا مختلطا بفتاة من الغالبية الألبانية، اسمها “جيهونا بهرامي”، أحببنا بعضنا عندما كنا في المعهد، ولم يكن لديها أدنى اهتمام من أي عرقية أنا، فقد كان يهمها فقط أنها أحبتني وأحببتها.

“جيهونا بهرامي” من أصول ألبانية هي زوجة المصري حقّي سيرمجاني

وتقول زوجته: لا يهمني من أي أقلية هو، لقد أحببته وأحبني، وأقنعت أهلي وهيأتهم نفسيا أنه أفضل شخص يمكن أن يكون زوجا لي لبناء أسرة مشتركة، ولدينا بنت وولد، وأنا أعيش معه ضمن عائلته، ونحن جميعا متفاهمون، ولا توجد أي خلافات تذكر بين العائلتين.

وحدَّثَنا “بدروش بدرومجا” صاحب معمل تدوير النفايات عن معاناة بعض العائلات المصرية قائلا: هذه مجموعة من عائلات المجتمع المصري، هجروا منازلهم أثناء الحرب، ورحلوا إلى مناطق في الجبل الأسود، وعندما انتهت الحرب عادوا إلى مساكنهم ليجدوا أنها قد سكنها أناس آخرون، فانتقلوا إلى هذه المنطقة مؤقتا، لتواجههم البلدية بإنذارات لإخلاء منازلهم من أجل هدمها وشق طريق مكانها.

تعليم الصبيان.. سلم الارتقاء المستقبلي في أقلية أمية

يقول المعالج الفيزيائي حقي سيرمجاني: بعد إنهاء عملي في مكتب الحزب آتي إلى هذا المكان، حيث أعمل أنا وأخي على صيانة أجهزة الحاسوب كعمل إضافي، فمن الصعب إيجاد فرصة عمل لمعالج فيزيائي، فقد حاولت إكمال دراسة الطب، ولكني وجدت نفسي مجبرا على ترك مقاعد الدراسة والالتحاق بعمل لأحصل على لقمة عيشي.

المعالج الفيزيائي حقي سيرمجاني يعمل بعد دوامه في محل كمبيوترات ويساهم في تعليم الفتيان اللغةَ العربية

ويتحدث عن أوضاع المصريين قائلا: ما زال المجتمع المصري في كوسوفو يعاني من عدم تكافؤ فرص العمل، وقد حصل 14 شخصا فقط من المصريين على وظائف في كافة المؤسسات الحكومية الكوسوفية، ولذا فأنا مؤمن بأن التعليم سيفتح آفاقا جديدة لفرص أفضل، فأحرص على الدروس الدينية في المسجد، وأساهم في تعليم الفتيان اللغةَ العربية، فهي لغة القرآن، ومن أجل أن يتعلموا الكثير عن آبائهم وأجدادهم.

وتقول المعلمة “فلوريا سماغي”: أدرّس هؤلاء الطلبة وأساعدهم على إنجاز واجباتهم المدرسية، فعائلاتهم أميّون ولا يستطيعون تقديم المساعدة لهم، والطلبة هنا يحققون تقدما مطّردا، ونحن اليوم أفضل من السابق، وإن كنا ما زلنا نطمح بتقدم أكثر للمدرسة والطلاب.

المعلمة ذات الأصول المصرية “فلوريا سماغي” تعلم الأطفال المصريين وتساعدهم على إنجاز واجباتهم المدرسية

معظم الأهالي لم يتجاوزوا المرحلة الابتدائية في التعليم، وهم يعانون من أوضاع اقتصادية سيئة، وأكثرهم عاطلون عن العمل، إذ يتطلب التعليم الجامعي مالا كثيرا للذهاب إلى بريشتينا أو المدن الكبرى الأخرى، وهم لا يستطيعون ذلك.

جمهورية مصر العربية.. تطلعات إلى دعم الوطن الأم

يقول “لوان قوقاني” صانع الفخّار: ندرك أننا ننتمي إلى الأقلية المصرية، ونحن فخورون بذلك ونتعايش معه، وليس لدينا مشكلات مع الأغلبية في البلاد، المهم أن يتفهم الآخرون وجودنا ويتعايشوا مع ذلك. لقد دعمت مصر استقلال كوسوفو وصوتت لصالحها، ونتطلع اليوم إلى مصر لدعم المجتمع المصري في دول البلقان والتأثير في المجتمع الدولي، من أجل أن ننال حقوق المواطنة الكاملة.

ولكن من المؤسف -كما يقول قوقاني- أن مصر لم تدعم أفراد المجتمع المصري في باقي دول البلقان الأخرى مثل مقدونيا وألبانيا، ولم تردّ الحكومة المصرية بعدُ على مطالبات المجتمع المصري في تلك الدول بالاعتراف بهم ودعمهم على المستوى الدولي.

مصريو البلقان يحنّون إلى أرض جدودهم فيرسمونها في شعاراتهم

ويقول فاضل بدرومجا: تعلمت الموسيقى مع بدروش منذ كنا صغارا، وها نحن كبرنا وما زلنا نستمتع بالعزف سويا، وقد أسمينا فرقتنا “حجي بيرم” على اسم أحد رواد الموسيقى السابقين، وما زلنا إلى اليوم نعزف ألحانه. فنحن مصريون، وقد عرفنا ذلك لاحقا، ولكننا ما نزال لا ننال المعاملة المتكافئة مثل غالبية السكان هنا، فنحن شركاء في هذا الوطن، على اختلاف أعراقنا القومية، وعلى الآخرين أن يتقبلوا ذلك.

ويتابع: عشت طفولة سعيدة، ولكن ذلك تغير في فترة المراهقة، وكان أهلي يحاولون إخفاء هويتهم المصرية جراء ما تعرضوا له من مضايقات، فقد كان المجتمع يعاملنا على أساس بشرتنا الداكنة وأننا لا نشبه الأغلبية، ولذا شعرنا بالدونيّة في فترة ما، لكننا اليوم أحسن حالا، ونفتخر بأصولنا المصرية القديمة.

“حركة المصريين البلقان”.. صرخة سبعينية من مجتمع مهمش

في مدينة شتروغا المقدونية الواقعة على بحيرة أوخريد التقينا مجموعة من المصريين المقدونيين، وقد بثّوا همومهم وأوجاعهم إلى الكاميرا. يقول “فاهيد نيميد”: هنالك فرق شاسع بين وضع المصريين في كوسوفو، والوضع هنا في مقدونيا، فما زلنا هنا غير معترف بنا.

ويقول “يلبر علي”: لسنا ممثَّلين بشكل واضح، ولا أحد يعترف بوجودنا.

مواطنون من أصول مصرية في مدينة شتروغا المقدونية يطالبون بحقوقهم المدنية

وتحدث أيضا “عدنان تشيموسكي شاكيا” قائلا: لا نشكل جزءا من المجتمع المقدوني، ونعاني من التمييز ولا نتمتع بفرص عمل متكافئة، ولا تولي الحكومة أي اهتمام بقطاع التعليم والثقافة في مجتمعنا.

ونختم جولتنا في هذه المدينة مع البروفيسور “زيمون” وهو يقول: ولدتُ هنا في شتروغا، فهذه المدينة التي شهدت ولادة “حركة المصريين البلقان” في سبعينيات القرن الماضي، وهي حركة انطلقت للمطالبة بالاعتراف بهوية هذا المجتمع المصري وحماية ثقافتهم وموروثاتهم. وقد شهدت أكبر زخم بمناسبة الإحصاء السكاني عام 1981، وهي أول مرة يجهر فيها أبناء هذا المجتمع بأنهم “مصريون”.

لم تعلن حكومة يوغسلافيا السابقة نتائج هذا الإحصاء. وفي الإحصاء التالي عام 1991 ازدادت المعركة زخما من أجل الاعتراف بالهوية المصرية لهذا المجتمع. فالتمييز ضد المصريين يعود إلى القرن الـ15 الميلادي، وذلك بعيد انعقاد مجلس الكنيسة البيزنطية، عندما عوقبت الكنيسة القبطية من قبل الكنيسة البيزنطية، وبدأوا منذ ذلك الحين باضطهاد المجتمع المصري والتمييز ضده.

ويختم قائلا: قد أكون المصري الوحيد في كل دول البلقان الذي يحمل شهادة الدكتوراه ويُدَرِّس في الجامعة، أما غالبية المجتمع المصري فيعاني من التهميش والتمييز وعدم الحصول على الوظائف الحكومية والمراكز المرموقة ودوائر صناعة القرار.


إعلان