“الراعية”.. قصة عائلة إيرانية تطلب رزق أبقارها في الطبيعة العذراء

بعيدا عن صخب المدن وضجيجها، وعن الأضواء ووسائل التواصل والإنترنت، ثمّة عوالم هادئة وأماكن وادعة، لم تتلوث بضوضاء الحضارة، يعيش أهلها الأيام والشهور طويلة رتيبة، يَجِدُّون ويكِدُّون في فِلاحتهم وأنعامهم، تَطلُع شمسهم وتهطل أمطارهم كما كانت منذ آلاف السنين، هم أناس أقرب إلى الله في عيشهم، يتوكلون عليه في قوتهم اليومي، ويرجون رحمته من غوائل الأيام وتقلبات الدهر.

هذه المشاهد وغيرها الكثير سنعيشها في فيلم “الراعية”، الذي عرضته الجزيرة الوثائقية على شاشتها. وتدور أحداثه في منطقة جبلية تسمى ميمين، تقع شمال مدينة سواد كوه، في محافظة مازندران الواقعة شمال وسط إيران، وعلى امتداد الساحل الجنوبي لبحر قزوين، وهي منطقة ريفية جميلة، تغطيها الغابات الكثيفة، وتتخللها الأنهار المتدفقة والبحيرات الصافية.

فاطمة نزاري.. راعية الأبقار في أكناف العائلة

إنه فصل الربيع من عام 2010، وثمة راعية أبقارٍ تحمل طفلها على ظهرها، وتشدُّه إليها بوثاق منيع، في حين تحلب بقراتها في أرض موحلة وأجواء ملبدة بالغيوم.

تقول الراعية: أنا فاطمة نزاري، تزوجت من عائلة جبّاري قبل 2009، كنت صديقة معصومة، وهي أخت زوجي السيد مراد، ثم تعرفت على أخته الأخرى سمية في فصل لتعليم الخياطة، فأصبحت علاقاتي وطيدة مع آل جبّاري، عائلة زوجي.

الراعية فاطمة نزاري، بطلة الفيلم

تتحدث فاطمة إلى فريق الفيلم وهي مستمرة في عملها الدؤوب لحلب الأبقار، وجمع أغصان الأشجار الغضة الخضراء لإطعام حيواناتها، في حين تطلب من أخوات زوجها إحضار بقية الأبقار لحلبها، ففي الصباح الباكر تنشط العائلة جميعا في توجيه الأبقار عبر الجبال، من أجل نقلها إلى مكان آخر للرعي.

رحلة الأبقار.. مسيرة شاقة في الطرق الجبلية الوعرة

في هذه الطرق الجبلية الوعرة والموحلة، تضطر الفتيات المُتعبات إلى حمل العجول الصغيرة على ظهورهنّ، تماما مثل الأطفال، لأن هذه العجول لا تقوى على المسير بسرعة في هذه الدروب الصعبة. ويستمر السير في هذه الأجواء الباردة والمطر الغزير، وقد نال التعب من أجساد الفتيات الغضّة كل منال.

فاطمة تحلب البقرة وعلى ظهرها ابنتها الصغيرة

تقول فاطمة: تولّت أمي قيادة الخيول، وهي تحمل ابني مهدي الصغير على ظهرها، في حين كان علينا نحن الفتيات -أنا وأخوات زوجي- اقتياد الأبقار وحمل العجول في هذه الطريق الوعرة، لأن الشاحنة لا يمكنها أن تسير هنا.

وفي أثناء المسير الطويل يتحدث إلينا مراد، زوج فاطمة قائلا: حصلت على الشهادة الثانوية قبل 15 عاما، وبعدها أديت الخدمة العسكرية مدة سنتين، وتزوجت قبل خمس سنوات. ولديّ سبع أخوات؛ الأولى اسمها راضية، وهي متزوجة ولديها طفل، ولكنها لا تستطيع مساعدتنا كثيرا بسبب زوجها، أما أختي الثانية مرضية، وهي تعمل معنا برفقة زوجها وتساعدنا كثيرا خلال ترحالنا.

عجول صغيرة لا تقوى على المشي تحملها الراعيات على ظهورهن

أما أختي الثالثة سمية فقد ساعدتنا فيما مضى كثيرا هي وزوجها مرتضى، ولكنهما الآن أنشآ مزرعة أبقار يعملان فيها. وأما أختي الرابعة منصورة، فهي ترافقنا في العمل مع زوجها الذي يملك سيارة ويساعدنا في حمل الأثقال. أما أختي الخامسة معصومة فهي أيضا تساعدنا في ترحالنا مع زوجها، وتساعد في إعداد المكان الجديد والاعتناء بالأبقار والعجول.

مراعِ خضراء وبيئة خصبة للرعي لكنها لا تتحصل إلا بمشقة السفر

وأما أختي السادسة فاطمة فهي تعيش مع زوجها مهدي في المدينة، وهما غير معتادَيْن على عملنا، ولكنهما يحضران أحيانا لمساعدتنا على إتمام العمل في الوقت المحدد، إن لم نجد من يساعدنا. أما أختي السابعة عاطفة فمشغولة بدراستها، ولكنها تساعدني عندما تكون برفقتي. وكالعادة، فالجزء الأكبر من العمل والأكثر مشقة يقع على عاتقي.

سويعات الخيمة.. مبيت دافئ بين يومين ممطرين

وصل الجميع إلى المكان الجديد ليلا، فنصبوا الخيمة وأشعلوا النار للتدفئة ولتجفيف ثيابهم المبتلة، فالجو شديد البرودة هنا في الليل، ثم قام بعضهم ليقضي ما فاته من الصلوات، وأكلوا طعامهم الذي أعدوه على عجَل من بعض الأرز والخبز واللبن، وراحوا مثل الأطفال في نوم عميق.

راحة وصلاة بعد سفر طويل

وبينما كانوا يتذكَّرون ما لاقوه من تعب ومعاناة طوال اليوم، فإنهم لم ينسوا معاناة أبقارهم ودوابّهم وتعبها في الوصول إلى المكان الجديد، فقد استغرقت الطريق أكثر من يومين، ولكن اليوم الثاني كان أسهل على الأبقار لانحدار الطريق باتجاه الأسفل.

نهر متدفق يعبر الرعاة مياهه بأقدامهم ويساعدون الأبقار والعجول والخيول على عبوره

لكن صباحهم يأتي مبكرا جدا، فما هي إلا سويعات ينامونها، حتى تتسلل إليهم خيوط الفجر الأولى، فيستيقظون جميعا ويبدؤون رحلة التعب من جديد، فالجو ما زال ممطرا والأرض موحلة، وأمامهم نهر متدفق ينبغي عليهم أن يعبروا مياهه بأقدامهم، وأن يساعدوا الأبقار والعجول والخيول على عبور النهر دون أن تتضرر.

الحظيرة المسقوفة.. استراحة تمسح تعب غابات الثلج

ها قد وصل الجميع إلى قرية صغيرة، فيها بيوتٌ متفرقة، مبنية من الأحجار وجذوع الأشجار ومكسوة بجلود الحيوانات وبعض الأقمشة، وسوف يستريحون هنا قليلا من عناء الترحال، ويتناولون البطّيخ وبعض الفواكه كالبرتقال، ليُرووا أجسادهم الناحلة الجافة ببعض السوائل المغذية.

البطيخ الأحمر، جائزة الوصول بسلام إلى الكوخ بعد الترحال الطويل

وقد تغيرت تضاريس الأرض الآن، فهم يمشون في منطقةِ غاباتٍ جبلية مكسوة بالثلوج، وقد لجؤوا إلى حظيرة كبيرة مسقوفة، هنالك سيعلفون الأبقار والدوابّ، وسينظفون روثها.

وبينما يذهب مراد لجمع الحطب وأداء الأعمال الخارجية، تدخل زوجته المتعَبة فاطمة آخر جديٍ إلى حظيرة الماعز، وهي تقول: أنا راضيةٌ عن وجودي مع عائلتي الكبيرة الجديدة، وأسأل الله أن يعينني على البقاء معهم وخدمتهم حتى آخر يوم في حياتي.

حظيرة الأغنام والبقر، رعاية مستمرة خصوصا في فصل الشتاء

ويقول زوجها مراد: في فصل الشتاء نبقى مستيقظين إلى ما بعد منتصف الليل في بعض الليالي، من أجل مراقبة الأبقار والعناية بها، فهي بحاجة إلى عناية خاصة، وقد تموت إذا لم نكن قريبين منها ونسهر على راحتها.

حفل التخرج.. هروب نساء العائلة إلى الجامعة

تنقلنا الكاميرا فجأة من هذه الأجواء الطبيعية الهادئة، إلى أجواء الفرح والصخب في جامعة مازندران، فهذا اليوم هو يوم تخرُّج معصومة جباري، أخت مراد، وقد تركت النساء مراد ليعتني بأرض المرعى والدوابّ، وذهبْنَ لحضور حفل تخرج معصومة.

وبعد انتهاء الحفل يعود الجميع إلى العمل، وعلى ضفة النهر تتجمع الفتيات لغسل ملابس العائلة، ويعتنين بنظافة الطفل محمد مهدي، حتى يستطيع ممارسة ألعابه المفضلة مع صغار الماعز والعجول.

الفتيات الراعيات يحضرن حفل تخرج معصومة جباري من جامعة مازندران

وعلى الجانب الآخر يقف مراد مغتبطا: أنا سعيد جدا بزوجتي فاطمة وعائلتها، فهم ليسوا معتادين من قبل على تربية الأبقار، ولكنها عندما جاءت إلى هنا أبدت اهتماما كبيرا وسعادة بتربية الأبقار، وتعلمت هذه المهنة بسرعة فائقة، كما أنها تعتني بصغيرنا مهدي، ولا تبدي أي تذمر من قلّة الخدمات الحضَرية كالماء والكهرباء والغاز.

صعوبات البداية.. إصرار يصنع النجاح في دروب الحياة

يقول مراد متحدثا عن رحلة الرعي: نقطع مسافة تصل إلى 100 كيلومتر لنصل إلى الريف، ونمضي حوالي 15 يوما في ميمين، وبعد مسير 5 ساعات نصل إلى هذا المكان واسمه هالان، فنقضي فيه 45 يوما، ثم نعود إلى موقعنا السابق، وننطلق مرة أخرى مسافة 100 كيلومتر، نسير فيها مدة ثلاثة أيام، هبوطا من جبل خليج الخيل، حيث نقضي 9 أشهر من العام.

بين حل وترحال يعيش مراد جباري وزوجته وأخواته الراعيات

ويحكي عن الصعوبات التي واجهته بداية حياته، قائلا: تزوج والدي امرأتين، وبعد وفاته قسمنا الأبقار بين زوجتيه، وكان علينا بذل كل جهد مستطاع بمساعدة أمي وعمّي من أجل المضي في طريق الحياة، وها نحن قد وصلنا إلى ما نحن عليه، ولكن بعد كثير من المشاقّ والصعوبات.

وتشارك في الحديث فاطمة قائلة: عندما تزوجتُ أخبرتُ عائلةَ زوجي أنني لم أقم بعمل كهذا من قبل، وأَنَّ عليهم تعليمي، لقد كان الأمر صعبا عليَّ في البداية، ولكن مع مرور الوقت بدأت أحرز تقدما تدريجيا، ومع تكرار المحاولات نجحت في التعامل مع الأمور. وأدعو الله أن يسهِّل أمورنا.

مراد جباري زوج فاطمة، مزارع يعشق تربية البقر والأغنام

وتصف طباع زوجها بقولها: مراد رجل طيب وصبور، وكثيرا ما يساعدني في العمل، ولكنه عندما يكون غاضبا فمن الأفضل عدم التحدث معه. لقد ساعدني وأرشدني في كثير من أمور حياتي، وهو غالبا ما ينبهني لأخطائي بطريقة لطيفة.

مهدي الصغير.. غصن تعلق عليه العائلة آمال المستقبل

تتحدث فاطمة عن ما يواجه العائلة من مضايقات في حياتهم المتنقلة، فتقول: أتمنى ألّا يقوم حراس الغابات بتقديم معلومات مضلِّلة وفرض مزيد من الغرامات علينا، فنحن لا نملك مزرعة تقليدية ثابتة لتربية الأبقار.

ويقول مراد: الموظفون العاملون بهيئة الموارد الطبيعية لا يأبهون بأوضاعنا، وكل همهم هو فرض المزيد من الغرامات علينا، ويتذرعون بالأنظمة والقوانين لقطع الطريق علينا أثناء التوجه إلى مناطق معينة في تواريخ محددة، لكن الرعاة يعرفون الطرق والمناطق أكثر من الموظفين، حين يتعلق الأمر بالكلأ وأماكن وجوده.

مهدي الصغير يلعب مع حمله الصغير

ويتابع: حياتنا قاسية، وأتمنى أن يحظى ابني مهدي بحياة أفضل وأسهل، فتربية الأبقار في مكان كهذا بعيد عن المدينة والمرافق الحضرية أمر في غاية الصعوبة، وفي الماضي لم أستطع الحصول على وظيفة جيدة من أجل حياة أفضل، بسبب أخواتي وظروف حياتنا، وتحملنا جميع الصعوبات من أجل مواصلة حياتنا.

تمضي الأيام والسنون رتيبة بطيئة، فحياة الرعاة والفلّاحين مُكرّرة لا جديد فيها، غير أن الصغار يكبرون والشباب يصبحون كهولا. وها نحن اليوم في صيف 2019، وها هو مهدي الصغير قد دخل صفّه الأول في المدرسة الابتدائية، وأمه فاطمة تقوم بتدريسه أحرُف الهجاء.

مهدي الصغير يكبر فيمتهن مهنة أبيه وأمه ويحلب البقرة كما لو كان راعيا كبيرا

تقول فاطمة: حياتنا قاسية وصعبة للغاية، ونأمل أن نوفر لمهدي حياة أفضل ويحصل على وظيفة أسهل، دون أن يتخلى عن مهنة العناية بالأبقار ورعايتها، فهذه مهنة نبيلة وعمل شريف، سنعمل جاهدين ليكمل تعليمه ويحصل على فرصةٍ لعيش أحسن، وأرجو أن تستمر السعادة والألفة التي تعيشها عائلة جبّاري.


إعلان