“تهويد الخليل”.. يوميات الفصل العنصري والإعدام الميداني في مدينة معمّرة

وجدت مدينة الخليل الفلسطينية منذ آلاف السنين، لكنها تحولت منذ احتلها الصهاينة في يونيو/ حزيران 1967 إلى أكبر شاهد على سياسة الفصل العنصري، التي يمارسها الاحتلال ضد أهل المدينة الفلسطينيين، في حين يستمتع قطعان المستوطنين في البؤر الاستيطانية وسط الأحياء العربية بحرية الحياة والحركة، تحت حماية جنود الاحتلال.
ضمن سلسلة “عالم الجزيرة” التي عرضتها قناة الجزيرة على شاشتها، تصحبنا جيفارا البديري في حلقة بعنوان “تهويد الخليل”، وهي حلقة سوداء قاتمة بلون الدم الفلسطيني القاني، المتدفق من أجساد الشهداء عند نقاط التفتيش وحواجز الاحتلال، وكبيرة بحجم المؤامرة الصهيونية لتهويد المدينة ومحو هويتها العربية والإسلامية.
حواجز الموت.. إعدامات ميدانية لترحيل أهل الخليل
من منطقة باب الزاوية في قلب مدينة الخليل النابض، التي تعد من أهم المناطق الاقتصادية والديموغرافية في فلسطين، وتسمى المنطقة “إتش ون” (H1)، أو “حبرون واحد” سوف ننتقل إلى منطقة الموت، حيث البلدة القديمة من الخليل، وتسمى “إتش تو” (H2)، أو “حبرون اثنان”.

تبدأ منطقة الموت هذه من حاجز “الكونتينر”، وقد ارتقى عنده كثير من الشهداء، منهم هديل الهشلمون وفضل القواسمي وغيرهم، وهذا الحاجز واحد من 120 حاجزا ونقطة تفتيش، إضافة إلى خمس بؤر استيطانية، حيث يمنع كل شخص من عبور الحاجز قبل موافقة الضباط الإسرائيليين.

يروي المُقعَد ماجد فاخوري، وهو شاهد عيان على حادثة إطلاق النار على فتاة عزلاء: “جاء الضابط الإسرائيلي برفقة سيارة الإسعاف، واعتدى على الفتاة المصابة بركلها بقدمه بدلا من إنقاذها”، ثمّ غادرت سيارة الإسعاف وتركت الفتاة تنزف، تُرى، لماذا جاءت سيارة الإسعاف إذن؟ ليس ذلك من أجل الفلسطينيين، ولكن لاحتمال وجود إصابات بين جنود الاحتلال.
“الجيش لا يعتدي إلا على من يعتدي على جنوده”
في مشهد دموي آخر اخترقت عدة رصاصات جسديْ الشابّين عبد الفتاح الشريف ورمزي القصراوي، بعد أن زعم الاحتلال إصابة جندي إسرائيلي، فدخلت سيارات إسعاف إسرائيلية لإنقاذه، في حين تُرِك رمزي ينزف حتى الموت، وأما عبد الفتاح فلم يزل ينزف وهو مُلقى على الأرض، حتى أَطلق جندي صهيوني رصاصة على رأسه فأعدمه.

وبعد عملية الإعدام هذه، انتشر مقطع فيديو يُظهِر أن أحدهم قد ألقى سِكّينا بجانب الشهيد عبد الفتاح بعد إعدامه، إنها نفس الحُجج المملّة المكررة التي يتذرع بها جيش الاحتلال بعد كل عملية إعدام ينفذها، وهي نفس السكاكين التي يوزعها في كل مرة، إذ يبدو أنها خرجت من مصنع واحد.
يقول عوفر أوحنا، وهو مستوطن وضابط إسعاف: نحن نعالج كل من نستطيع إسعافه بعد أن يتأكد الجنود أنه لا يحمل سكينا أو مواد متفجرة، وأنه لا يستطيع الحراك ثانية لينفذ عملية.

لكنَّ كاميرات التصوير ومقاطع الفيديو تكذِّب كل ما يزعمه هؤلاء، في حين يتشدّق أفيخاي أدرعي، الناطق باسم جيش الاحتلال، قائلا: الجيش الإسرائيلي لا يعتدي إلا على من يعتدي على جنوده.
نزيف حتى الموت.. جريمة تستحق التهنئات بين الجنود
يروي شهود العيان الفلسطينيون أن الشهداء يُترَكون ينزفون حتى الموت، مع أن سيارات الإسعاف قريبة منهم. يقول المصور الصحفي رائد أبو رميلة: استشهد إيهاب مسودة بعد أن تأخر إسعافه ساعة كاملة، مع أن سيارة الإسعاف موجودة بالقرب منه، ولكنها لإسعاف الجندي الصهيوني الذي أصيب.

ويتحدث شاهد عيان آخر عن الشهيد سعد الأطرش، الذي ارتقى إثر خمس رصاصات حاقدة اخترقت جسده، وترك ينزف دون إسعافه أو السماح لأحد بالاقتراب منه، وبعدما تأكدوا من موته، بدأ الجنود بالاحتفال وتبادل التهنئات.
يقول كامل حميد، محافظ الخليل: سكاكين جيش الاحتلال مصممة بشكل محدد ومصنوعة في مصنع واحد، ولا يمكن لطفل فلسطينيّ أن يحملها، لأن الحواجز الإلكترونية لا تسمح حتى بدخول طبق من البلاستيك عبرها.

ثم يأتي مشهد “الكيس الأسود”، وكلمة السر والخوف التي تعني أن المصاب ارتقى شهيدا، وهو أيضا ما حصل للطالبة كلزار العويوي، فقد تركت تنزف حتى الموت، مع أن سيارة الإسعاف و”ملائكة الرحمة” كانت موجودة في المكان، ولكنهم ليسوا كذلك، بل هم “شياطين العذاب”.
يقول محمد جودة دفع الله، الناطق باسم بعثة الأمم المتحدة: شاهدنا سيارات إسعاف فلسطينية تُمنع من الدخول إلى منطقة الحدث، مع أن هنالك أناسا ينزفون، نحن نرى أن هذا الفعل انتهاك لحقوق الإنسان.
“يريدون أن يخرجونا من أرضنا وبيوتنا”
تتكرر مشاهد الموت وانعدام الحياة حتى بين الأحياء المسالِمين، فهذا حازم الفاخوري، وهو عامل بناء، اعتاد يوميا على عبور الحاجز، ويعرفه الحرّاس الصهاينة، ولكن هذا لا يعفيه من التفتيش الدقيق والمُذلّ، كل يوم ذهابا وعودة، ويختصر معاناته بكلمتين: يريدون أن يخرجونا من أرضنا وبيوتنا، ولكننا باقون، هي ليست حياة بمفهوم الآخرين، ولكننا صابرون.

يقول المحافظ كامل حميد: ما يحدث الآن مشابه لما حدث في مجزرة الحرم سابقا، فهي خطة ممنهجة للاستيلاء على كامل الحرم الإبراهيمي الشريف، بعد أن استولوا على جزء منه في 1994، بعد مجزرة الحرم آنذاك.
ويؤيده اللواء محمد الجعبري، رئيس لجنة إحياء البلدة القديمة، إذ يقول: لقد استولوا على شارع السهلة والشهداء بالكامل، والآن يطمحون للاستيلاء على شوارع أخرى.
“يفتشون جميع المنازل في كل عيد”.. تنغيص الحياة
يقول نادر البيطار، وهو ناشط حقوقي وعضو بالمجلس البلدي: الإعدامات الميدانية هي إجراءات لتشكيل حالة من الرعب لدى الفلسطينيين، ومواقعها هي مشاريع مناطق يحظرها جيش الاحتلال على سكان المدينة، تمهيدا لقضمها، فالخليل في نظر الصهاينة هي “منبع الإرهاب”، والخلايلة “يحرضون أبناءهم” على التخريب.
يتتبع جنود الاحتلال المدججون بالأسلحة الفتاكة، فريق التصوير في كل خطوة يخطوها، وحين دخلنا منزل أبو محمد قفيشة، تبعنا الجنود إلى داخل المنزل، وعندما سألنا أبا محمد قال لنا: هذه عادتهم، يخشون أن نقول حقيقة بطشهم وظلمهم لوسائل الإعلام، يفتشون جميع المنازل في كل عيد، يستكثرون علينا الاجتماع والفرحة، في حين أن قطعان المستوطنون تجوب طرقاتنا بحرية ويستهزئون بنا.

وفي حيّ شارع السهلة، تصل حياة الفلسطينيين حدّ الخنق، فهم لا يستطيعون التنقل بين أزقّتهم، إذ ينغص عليهم الجنود أدقّ تفاصيل يومياتهم، حتى إن بعض العائلات تغادر هذا الحيّ من أجل تزويج أبنائهم أو بناتهم؟ فأهل الأحياء الأخرى لا يَأمَنون أن يتزوج أبناؤهم وبناتهم من حيّ السهلة، لكثرة ما يعايشون من بطش الصهاينة وتنكيلهم، ناهيك عن حفلات الصخب التي يقيمها المستوطنون كل ليلة، يسبّون فيها العرب، ويحرقون أعلام فلسطين.

وبين حارات وأزقة البلدة القديمة التي يزيد عمرها على 5500 عام، وعلى مدى أيام من تصوير هذا الفيلم، لم نعرف معنى كلمة “الأمان” وعشنا فقط كلمة واحدة؛ هي الخوف.
“ضربني وبكى، وسبقني واشتكى”.. أطفال المستوطنين
يُحرم أطفال الخليل من اللعب والاستمتاع بطفولتهم في أزقّة مدينتهم المحتلة، في حين يُترك المجال لأبناء المستوطنين ليعيثوا في المدينة تخريبا وفسادا، فهم يستهزئون بالكبار، ويتنمرون على صغار الخلايلة ويعتدون عليهم بالضرب، ثم يستدعون شرطتهم لتحميهم على طريقة: “ضربني وبكى، وسبقني واشتكى”.

أما تلاميذ المدارس فلهم حكاية أخرى، فهم يجتمعون في الصفوف على صوت الرصاص ويتفرقون على صوت قنابل الغاز، والسعيد منهم من يستطيع والده احتضانه في البيت، سالما من رصاصة مطاطية أو من استنشاق الغاز السامّ.

فتلاميذ المدارس وأطفال الخليل هؤلاء، هم في نظر المحتلِّ مشاريع “متطرفين”، والتنكيل بهم يوميا هي الوجبة الغنية التي يتلذذ بها جنود الاحتلال. يقول التلميذ إبراهيم قفيشة: يمنعني الجيش من العبور، فأنتظر لحظة تبديل الجنود مدة ساعة، وأصل متأخرا إلى المدرسة.
نهب العقارات.. ادعاءات كاذبة واقتحام تحت حماية الجيش
بعد مغادرة منزل أبو علاء قفيشة، وصَلَنا- نحن فريق التصوير- ما يشبه نداء الاستغاثة، فقد تحول فناء البيت إلى ثكنة عسكرية، وتجمع المستوطنون أمام البيت لأداء طقوس دينية تلمودية، ليتحول المكان إلى ما أشبه بالكنيس اليهودي واقتحموا -تحت حماية الجيش- المنزل والعقار المجاور، ورفعوا عليه علم إسرائيل، بزعم شرائه من أحد ورثة العائلة المالكة للعقار.

حاولنا في الجزيرة مقابلة أحد الورثة للعقار بعد اتهامه بتسريب العقار، وقد سلّم نفسه للأجهزة الأمنية الفلسطينية للتأكيد على أنه لم يقم بذلك، ولكن الأجهزة الأمنية الفلسطينية رفضت طلبنا لأسباب قالوا أنها أمنية وقانونية، وبحجةِ عدم إعطاء المستوطنين معلومات من الممكن أن يزوِّروها من خلال المقابلة.
يقول محافظ الخليل: كل المناطق التي يزعم المستوطنون شراءها تُغلق وتحوّل إلى بؤر استيطانية ذات حماية عسكرية، وهم يتحايلون للاستيلاء عليها من خلال عقود تحرّر في بلدان مجاورة، أو داخل الخط الأخضر، أو في المستوطنات ذاتها.
مدينة الخليل.. متحف يروي تاريخ آلاف من السنين
يقول الكاتب والمؤرخ محمد أبو صالح: مدينة الخليل مدينة عربية قديمة، بُنيت في عهد العائلة الفرعونية السادسة، ولم يكن لليهود أي وجود فيها، وهي متحف للتراث والحضارة العربية والإسلامية، كان لصلاح الدين الأيوبي شرف تثبيت عشر عائلات ما زالت في الخليل حتى الآن، تتشرف بخدمة هذه المدينة الأصيلة، ومسجدها الإبراهيمي لا يقل أهمية بالنسبة للمسلمين عن المسجد الأقصى.

وتزداد أهمية مدينة الخليل بكونها تحتضن قبر سيدنا إبراهيم عليه السلام والنبيين يعقوب وإسحاق وزوجاتهم، وقد بُني مسجدها الإبراهيمي باتجاه قبلة المسلمين في مكة قبل ظهور الإسلام بآلاف السنين.
ويقول عارف جابر من اللجنة الأهلية في البلدة القديمة: من قرارات محكمة “شنجار” الظالمة أن يعطى المسلمون عشرة أيام من كل سنة لاستخدام ساحات المسجد الإبراهيمي، مقابل عشرة أيام لليهود. والمفارقة أن المسجد وساحاته تبقى مفتوحة لعبث المستوطنين في أعياد المسلمين، لكن يغلق بالكامل عند إحياء الأعياد اليهودية.
ترويج المخدرات.. زيادة التمزيق في مدينة مقطعة الأوصال
يعيث الاحتلال فسادا في أرض الفلسطينيين وممتلكاتهم، ولكن الذي هو أخطر من هدم البنيان والحجارة هو هدم الإنسان الفلسطيني ذاته، فقد طوّر الموساد الإسرائيلي مادة مخدرة وروّج لها في أماكن الفلسطينيين، وهو يحارب كل مظهر فلسطيني إلا المروّجين لهذه المادة المخدرة والمتعاطين لها، ويحرص محافظ الخليل والأجهزة الفلسطينية في المدينة على تقديم قوائم بأسماء هؤلاء المروِّجين إلى السلطات الإسرائيلية لمحاكمتهم، ولكن لا مجيب.

ففي عام 1997 أصبح هنالك فصل حقيقي على الأرض بين الخليل القديمة والحديثة، فمن خلال ما يسمى “بروتوكول الخليل” بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، الذي كان برعاية أمريكية، قُسمت الخليل إلى منطقتين، إحداهما تحت السيطرة الفلسطينية تسمى “إتش ون”، والأخرى هي “إتش تو” الإسرائيلية التي تمثل 18% من الخليل، وتضم البلدة القديمة وشارعي الشهداء والسهلة والأسواق المركزية وتل الرميدة، وعشرات الحارات وآلاف الدونمات الزراعية، يضاف إليها المجمع الاستيطاني (كريات أربع)، والحرم الإبراهيمي الشريف.

ففي منطقة “إتش تو”، يمنع الفلسطينيين من استخدام أي وسيلة نقل، وقد استُولي فيها على العشرات أو المئات من العقارات بالقوة أو التزوير أو الاحتيال، وطُوقت بنقاط عسكرية. وقد امتد الاستيطان من مستوطنة كريات أربع إلى ساحة الحرم الإبراهيمي، حيث بنيت مدرسة يهودية، ثم سوق الخضار التي يسميه اليهود “أفراهام أفينو”، وبُنيت مدرسة أخرى مكان مدرسة أسامة بن المنقذ، كما بنيت أيضا بؤرة استيطانية تسمى “بيت هداسا”.

يقول اللواء محمد الجعبري رئيس لجنة إحياء البلدة القديمة: هناك 1450 دكانا أغلق بأمر عسكري في قصبة السوق وشارع السهلة، بينما يتذرع “أفيخاي أدرعي” بالحفاظ على الأمن، فإجراءات الإغلاق في نظره هي للحفاظ على الأمن في المنطقة، وليست إجراءات عقابية ضد الخلايلة.
“هم فقط يريدون إذلال الفلسطينيين”.. سياسة الفصل العنصري
تقول متضامنة أجنبية، آثرت أن لا يظهر وجهها خوفا على حياتها: لا يستطيع الأطفال العبور عبر الحواجز العسكرية، فيضطرون لسلوك طرق وعرة إلى مدارسهم، وينتابهم الخوف والرعب عندما يرون الجنود المدججين بالسلاح، وعندما يسمعون صوت إطلاق الرصاص أو يتعرضون للغاز، أما تذرُّعُ الاحتلال بالأمن فمجرد كذب، هم فقط يريدون إذلال الفلسطينيين.

وعن معاناة رجال الإسعاف يقول ضابط فلسطيني: تحتاج الطريق في البلدة القديمة إلى 3 دقائق فقط، لكننا نضطر لسلوك طريق بديل عنها يستغرق أكثر من نصف ساعة، لنتجنب الوقوف على الحواجز التي تغلق في وجوهنا.

وتقول هناء أبو هيكل، وهي مواطنة مريضة ومهددة بمصادرة منزلها: لا أستطيع زيارة الطبيب في مرضي، وتركت عملي لأبقى في منزلي، فقد اعتقل الاحتلال أخي وأخذ يساومني على ترك المنزل، وعرضوا عليّ شراءه بمبلغ عشرين مليون دولار، ولكنني رفضت. وعندما سألوني في المستشفى عن مرضي قلت: أخطر من السرطان، إنهم اليهود، والعالم المتواطئ معهم على ظلمنا، وتحويل حياتنا إلى جحيم.

أما شارع الشهداء في البلدة القديمة فله قصة أخرى، عنوانها الموت الحقيقي لكل ما هو فلسطيني، فمنذ مجزرة الحرم الإبراهيمي يحرّم على أهل هذا الشارع أن يعيشوا حياة آدمية طبيعية، فرصاص الجنود وقطعان المستوطنين تلاحقهم حتى في نومهم القلق، وقد قالت ناشطة حقوقية أجنبية: تريدون رؤية الفصل العنصري على حقيقته؟ تعالوا إلى الخليل.