أعراف الزواج.. خطف العروس وحفل بعد سنوات لاكتمال الرجولة
الزواج هو فطرة الله التي أودعها في البشر والمخلوقات الأخرى، يلتقي فيها الذكر والأنثى لتحقيق سنّة من سنن الله في هذا الكون، وهي التناسل وتكثير النوع، من أجل استمرار الحياة على هذه الأرض، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، ويرث الأرض ومن عليها بعد حين.
والزواج بين البشر يجعلهم يتقبلون أناسا آخرين، قد لا يكونون من عرقهم ولا يحملون دماءهم، فهو إيجاد التوافق من رحم الاختلاف، كما قال الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾. وكل ثقافة تعبر عن هذه العلاقة بوسائل مختلفة، وتضعها ضمن إطارات خاصة.
وفي هذا الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية على شاشتها بعنوان “أعراف الزواج”، تأخذنا الدكتورة “آن سيلفي مالبرانك” عالمة الإنسانيات، في رحلة شائقة في مجاهيل أفريقيا، لتطلعنا على تجربتين من تجارب الزواج، في توغو وجزر القُمر.
تعرّف الدكتورة “آن” الزواج بأنه عقد اجتماعي، قبل أن يكون جملة من المشاعر، وهو تحالف تنظمه طقوس معينة، ومثلما أن الزواج يجمع بين أناس، فهو أيضا يفرق بين آخرين.
خطف العروس.. وسيلة الزواج في قبيلة “باتاماريبا”
تستوطن عشائر “باتاماريبا” شمال شرق جمهورية توغو، وتحديدا في منطقة توكاماكو الواقعة على الحدود مع جمهورية بنين، ويقدر عددهم بنحو 20 ألف نسمة، وهناك تبدأ طقوس الزواج بسرّية مطلقة، فيخطف العريس عروسه من عائلتها.
ومع أن بيوتهم الريفية المتناثرة هي مصدر فخرهم، وهي كالقلاع في ثقافتهم، فإنها هي الثغرة التي ينفذ منها فارس الأحلام لخطف عروسه، فيضع العائلتين أمام أمر واقع جديد.
وفي هذا المجتمع الريفي، تحظى الفتيات بفرص أقل لمتابعة دراستهن بعد المرحلة المتوسطة، ومن هؤلاء “إنكي” ذات الـ16 ربيعا، وهي تضطلع الآن بالمهام المنزلية في بيت والديها، لكنها قد تفارقه قريبا، فقد بلغت سن الزواج.
تحرص الدكتورة “آن” على مرافقة “إنكي” في أعمالها المنزلية، وجَني الفاصولياء الجافة من الحقل من أجل طحنها، وتدور بينهما أحاديث حول الزواج، ويبدو مستغرَبا لدى “إنكي” أن المرأة في الغرب تبلغ سنا متقدمة بدون زواج.
تتساءل “إنكي” باستهجان: وإذا أنجبتِ فكيف تعرفين هوية والده؟ أما نحن ففي ثقافتنا أن لا نؤجل الزواج زمنا طويلا، ونراه الوسيلة الشرعية المثلى للإنجاب واستمرار الحياة البشرية.
فرض الأمر الواقع.. خطة أبرمها العاشقان بليل
تستعرض الدكتورة “آن” بعض صور الزواج في أوروبا، حيث يعد زواج الحب بين الطرفين صورة مستحدثة للزواج، وقد كانت العائلات في الماضي هي التي ينظم العلاقات الزوجية، وتستغرق في ذلك وقتا طويلا ومفاوضات معمقة، ويبدو أن هذه الصورة ما تزال مطبقة في كثير من المجتمعات.
“إنكي” هي آخر بنات “باسيامو”، وهو يتحدث للدكتورة “آن” فيقول إنه سيصحو ذات يوم فيجد ابنته مخطوفة، وهو نفسه قد فعل ذلك مع زوجته، فهذه هي ثقافة مجتمعهم، وكان قد التقاها قبل يوم من الخطف، واتفق معها أنه سينتظرها ليلا خلف منزلهم، بعد أن تعدّ حقيبتها وما يلزمها من أشياء خفيفة.
يدبّر الأمر بسريّة مطلقة، حتى لا يطلع والد العروس على ما يدور من خلفه، فإذا اكتشف خطة الخطف فقد يُفشِل الزواج إذا لم يعجبه الشاب، أما إذا نجحت الخطة فسيجد نفسه أمام أمر واقع، ويضطر للموافقة.
وفي بعض المجتمعات -في دولة بابوا غينيا وقرغيزستان مثلا- تكون عملية الخطف بمثابة زواج قسريّ، قد لا تكون الفتاة فيه راضية بالخاطف، أما هنا في توغو فالخطف وسيلة يستخدمها العاشقان المتراضيان، لوضع عائلتيهما أمام واقع جديد.
خطف بالتراضي.. بديل عصري عن الزواج القسري
تخرج “إنكي” إلى الحقول أو بئر الماء في كامل أناقتها، ويحاول الشباب في الطرقات مغازلتها وكسب ودها، وهي في هذه المدة تحاول المفاضلة بينهم، واختيار من يصلح أن يكون زوجا لها، فتريد أن تعرف أي هؤلاء يستطيع الاعتناء بها وبأطفالها في المستقبل، ويجلب لهم ما يحتاجونه.
تحاول “آن” أن تستنطق “إنكي” علّها تعرف ما يدور بخلدها، وأي هؤلاء الشباب يستهويها، لكن “إنكي” حذرة في هذا النطاق ولا تفشي أسرارها، ربما خشية أن تفسد عليها “آن” خططها للهروب.
وفي مجلس شيوخ القرية طرحت “آن” أسئلة كثيرة حول موضوع الخطف وتاريخه، فأجابها بعضهم أن هذا التقليد مستحدث، وقديما كان الناس يحتكمون إلى عُرف المهر، فيختار والدا الشاب عروسا له وهي ما تزال طفلة صغيرة، وكان على الصبي أن يعمل لدى والدَيها أعواما، حتى تكبر الفتاة وتصبح في سن الزواج.
هذا الزواج الذي لا اختيار فيه للعروسين، هو ما أدى لنشوء ظاهرة الخطف، فبها تتخلص الفتاة من زواج مفروض عليها لا تريده، ومع مرور الوقت تلاشى تقليد الزواج العتيق، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي صار الخطف هو التقليد السائد للزواج، فأشكال الزواج تتغير بتطور المجتمعات.
“قلبي ينبض لرؤيتها”.. بحث عن الشاب فاز بفؤاد “إنكي”
يتنافس الشباب تنافسا شديدا للفوز بالفتاة، ويبذلون قصارى جهدهم ليفوز أحدهم بقلبها، ويكاد الفضول يقتل الدكتورة “آن” وهي تحاول أن تعرف فارس أحلام “إنكي”، فكلما رأت شابا يحوم حول الديار تسألها هل هو رجلها المنتظر، لكنها بارعة في التملص من الإجابة، وتلاعب بضحكتها الساخرة قلب “آن” وعقلها.
فلما يئست “آن” من “إنكي” اختارت أن تتحدث إلى الشاب “مارك” ذي الـ18 ربيعا، فقد كان يغلب على ظنها أنه الأوفر حظا في قلب “إنكي”، وهو ابن زعيم القبيلة التي تسكن في قرية مجاورة لعائلة “إنكي”.
وقد سأَلتْه “آن”: أتعجبك “إنكي”؟
فقال: إنها تعجبني، قلبي ينبض لرؤيتها، فتاة جميلة ومجدّة في العمل، لكن لا ينبغي أن أتحدث بهذا الآن، لو سمعه أحد الشباب فقد يخطفها مني، ينبغي أن أسعى بجدّ وحكمة لأنال ودّها وأخطبها، ولو استغرق ذلك بعض الوقت.
سترحل الدكتورة “آن” إلى جزر القمر للاطلاع على تجارب وتقاليد أخرى في الزواج، ولكنها وعدت “إنكي” بالعودة لحضور زفافها، مع أنها لا تعلم حتى اللحظة من سيكون الفائز بقلبها.
في جزر القمر.. لا تكتمل رجولة الزوج إلا بالزفاف الكبير
تختلف طقوس الزواج كثيرا في جزر القمر، فالزواج هناك يعني الكثير من الفرح، واجتماع الناس ولمّ الشمل، ويتزوج المرء مرتين، فبعد إعلان زواجه شرعيا بعدة سنوات، تعاد طقوس الزواج اجتماعيا على رؤوس الأشهاد، ويحضرها الآلاف من أبناء الأرخبيل.
ففي جزيرة القُمُر الكبرى لا يكتمل الزواج حتى يُعقد الزفاف الكبير، وهو أسبوع من الاحتفالات البهيجة، تنعقد بعد سنوات من عقد القران، فالزفاف الكبير هو الطقس الأكبر الذي يقوم عليه المجتمع القُمري بأسره.
يبدو العريس عليّ متوترا، لأنه سيقيم زفافه الكبير بعد 15 عاما من الحياة الزوجية، وقد وجّه الدعوة إلى 1000 إنسان من أنحاء الأرخبيل، وهو يشرف بنفسه على كافة التجهيزات لهذا الاحتفال المهيب.
في حفل قرانه الأول كان عدد الضيوف محدودا جدا، ولم يكلفه ذلك إلا ما يعادل 5 آلاف يورو، وقلادة صغيرة قدمها لعروسه. أما في الزفاف الكبير فقد تصل التكاليف إلى أكثر من 20 ألف يورو، بحسب قدرة العريس.
طقوس العبور.. الزفاف الكبير ودخول مجلس الأعيان
في ثقافة القمريين، ليس الزواج بدون الزفاف الكبير ذا قيمة اجتماعية تذكر، ولا ينال الرجل مركزا اجتماعيا مرموقا في قريته إلا بعد أن يقيم حفل زفافه الكبير. وفي ليالي الاحتفالات تؤدى رقصة “الجاليكو” بحضور قريبات العريس وأعيان القرية، الذين سيصبح عليّ واحدا منهم عمّا قليل.
وفي جزر القمر تختلط الثقافة الإسلامية بموروثات الأرخبيل الاجتماعية، فهناك طبقة من عِلية القوم يعرفون بالأعيان، وهم أولئك الرجال الذين أقاموا زفافهم الكبير، ويعرفون بملابسهم المتميزة، فيلبسون وشاحا مطرزا وثوبا طويلا، وهم الذين يشكلون مجلس القرية، فيتشاورون في أمور قريتهم، ويتخذون القرارات المناسبة، أما الرجال الذين لم يتموا زفافهم الكبير بعد فلا يجوز لهم ذلك.
تقول الدكتورة “آن”: يعد الزواج في علم الإنسانيات طقسا من “طقوس العبور”، فهو يعطي للزوجين مكانة خاصة لا يحظيان بها قبل الزواج، أما هنا عند القمريين فهو طقس العبور الأكبر الذي يعطي للزوج مكانة سياسية واجتماعية متميزة.
أما حليمة زوجة علي، فتلزِمها التقاليد بالانفصال عن زوجها في فترة الاحتفال، وتبقى محاطة بقريباتها وبناتها حتى ينضم إليهم عليّ في اليوم الثالث، وخلال الاحتفالات تزينها والدتها بطلاء الجمال للوجه، وهو مستخرج من خشب الصندل.
ترث حليمة من والدتها بيت الزوجية الجديد، وتجتهد والدتها وأخوالها في ترميم البيت، ليظهر في أجمل صورة، ويعطي انطباعا عن المكانة الجديدة التي ستحتلها ساكنته، ثم يلحق بها زوجها بعد انتهاء مراسم الزفاف. أما إذا حدثت خلافات بين الزوجين ووصلت حدّ الطلاق، فإن الزوج هو الذي يحزم أمتعته ويغادر بيت زوجته.
يوم “إنكي”.. راية خطف بيضاء ووفد إلى منزل العائلة
نعود إلى توغو للقاء “إنكي”، ويبدو أنها قد اختارت شريكها، وأنهما قد أعدّا الخطة للهروب، وأحاطاها بسرّية تامة لئلا يعرف أبوها.
وذات صباح، كانت الاحتفالات صاخبة في منزل زعيم القبيلة والد “مارك”، وارتفعت راية بيضاء فوق إحدى الأشجار، لقد حدث شيء في الليلة الماضية، وهذه الراية تدل على ظهور امرأة جديدة في القرية، لقد خطف “مارك” حبيبته “إنكي”، وجلبها إلى بيت والده.
يتعين على “إنكي” أن تبقى مع أخوات “مارك” وقريباته حتى إخبار والديها، وهذه ستكون مهمة الوفد الذي انطلق من بيت والد “مارك” باتجاه قرية “إنكي”، ليخبروا والدها أنها بخير في منزل زعيم القبيلة.
يبدو والد العروس في قمة الحزن والقلق، حتى يأتيه خبر وجود ابنته في منزل زعيم القبيلة بالقرية المجاورة، فتنفرج أساريره ويتبدد قلقه، ثم يشكرهم على هذه الأخبار المريحة، لكن عمة العروس تبدي استياءها من طريقة الخطف، وتخبر أقارب العريس وقريباته أنهم لا يجوز لهم ذلك.
تبدو تمثيلية عمة العروس جزءا من الطقوس المتفق عليها، ولها دلالة رمزية بأن العروس ذات قيمة وشأن في بيت أهلها، والمطلوب من العريس أن يعمل على راحتها ورعايتها وإرضائها فيما تطلب. وبعد شرب الشراب المقدم لهم، تعلن العائلتان قبول هذا الزواج ويتحول التوتر إلى رضا ورقص وغناء.
وفي اليوم التالي، تبدأ في منزل والد “إنكي” فصول طقس آخر من طقوس هذا الزواج، وهو “التطهير”، ويعد إيذانا ببدء مراسيم الزفاف، ويكون بتقديم ماء ودجاجة تذبح قربانا، تكفيرا عن ذنب الخطف، وبهذا تمتزج العائلتان ويُعلن “مارك” و”إنكي” زوجين شرعيين.
يوم “المجلس”.. ثمن باهظ لاكتساب منصب رفيع
نعود إلى جزر القمر، حيث تنطلق مراسم “المجلس”، وهو حفل تنصيب عليّ ليكون أحد الأعيان بعد أن عقد زفافه الكبير، وقد جاء إلى الجزيرة وفود من 40 قرية متناثرة في أنحاء جزيرة القمر الكبرى، يقوم فيهم أحد أقاربه خطيبا، ويشكرهم على قدومهم بالنيابة عن عليّ.
ثم يوزع المساهمات التي تبرع بها عليّ لجميع القرى الحاضرة، وهي عبارة عن مغلفات تحتوي نقودا، تعبيرا منه عن دعم تلك القرى، ورفع مستوى البنية التحتية، ومشاريع الصحة والتعليم، وبهذه النقود سيشهد أعيان القرى على سخاء عليّ، وأهليته ليكون أحد الأعيان.
إنه طقس مكلف للغاية، ولولا شبكة العلاقات الاجتماعية التي لدى عليّ لما استطاع جمع كل تلك الأموال، فآخرون غيره قد يضطرون لبيع أراضيهم وأملاكهم في سبيل جمع المال اللازم للمجلس. وهذه المساعدات ستُبقيه مدينا لأهله وأصهاره وأصدقائه، ويتعين عليه ردها لهم في مناسبات مشابهة.
الزفاف الكبير.. وسيلة لإعادة توزيع الثروة وتنمية القرى ولمّ الشمل
في حفل يجمع النساء، يتعين على أقارب حليمة أن يجمعوا مبالغ كبيرة من المال، وسوف تساهم هذه الأموال في رفع مستوى قريتهم، وتعود بالنفع على المشاريع المختلفة فيها.
جمعت حليمة أكثر من 5 آلاف يورو، وهذا مبلغ كبير يثقل كاهل المتبرعين، لا سيما أن متوسط الدخل الشهري للعاملين لا يتجاوز 100 يورو، وهذا التقليد الثقيل يستنزف كل ما يملكه المقربون، ولذلك يكرهه معظمهم ويتمنون إلغاءه، لكن العادات والتقاليد في المجتمعات يصعب تغييرها في وقت قصير.
وفي يوم الزفاف الكبير يقدم عليّ لعروسه كميات كبيرة من الزينة، كلها من الذهب الخالص، تقدر قيمتها بعشرات الآلاف من اليورو. ثم يلبس وشاح الرجولة أول مرة، ويتقدم في موكب مهيب لينضم إلى حليمة وعائلتها في بيت الزوجة.
في الخلاصة، فالزواج قيمة اجتماعية رفيعة، تنتقل بكلا الزوجين إلى مكانة لم يكونا ليصلا إليها بغير الزواج، ومثلما يفرّق بين طرفين، فهو في المقابل يجمع شمل عائلتين.
ثم إن الزواج هو الضمانة الشرعية الوحيدة لنسل مثالي يعرف والديه، وهو المتنفس الوحيد لعلاقة طاهرة عفيفة تحفظ الأنساب وتصون المجتمعات.