“مدنياااااو”.. وثائقي عاطفي يستعيد ذكريات الثورة السودانية

يظهر الثلاثيني السوداني محمد عبد الرحمن وهو يكوي ملابسه على الأرض، وأولاده الصغار حوله كمن يستعد لحفلة، فكان سعيدا يتحدث بحماس بلا توقف عن المستقبل.

لم تكن في انتظاره أي حفلات، ذلك أنه كان يتحضر ليوم جديد في الساحة الخضراء بالعاصمة الخرطوم، فقد أصبحت المركز الجغرافي لثورة السودان، والبقعة الرمزية لحركة اجتماعية تفجرت كانتفاضة كبرى في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018.

محمد عبد الرحمن، هو أحد الأبطال الثلاثة في الفيلم الوثائقي “مدنياااااو”، للمخرج السوداني محمد الصباحي، وقد عُرض قبل أشهر في مهرجان شفيلد للأفلام الوثائقية في بريطانيا.

يتشارك محمد عبد الرحمن زمن الفيلم مع مؤمن وإسراء، أما مؤمن فهو فنان منضوٍ تحت نقابات وهيئات فنية وعمالية، وأما إسراء فمهندسة معمارية تركت الهندسة، وتفرغت للرسم حبا له، وغطت رسوماتها جدران قلب العاصمة السودانية.

سودانيون في ساحة الثورة

يذكّر فيلم “مدنياااااو” بالفيلم الوثائقي المعروف “الميدان”، الذي أخرجته جيهان نجيم (2013)، من حيث موضوع الثورات الذي يهيمن على الفيلمين، واهتمامهما الكبير بتسجيل نبض الشارع المنتفض، في أمكنة محددة ستتحول إلى أيقونية.

ملصق الفيلم

بيد ان وجه المقارنة ينتهي هنا، ذلك أن فيلم “الميدان” هو ملحمة سينمائية وثائقية مشحونة بالطاقة، وتسجيل مخلص وصبور للحراك الشعبي الذي كان يدور في الشارع. أما فيلم “مدنياااااو” فيتعثر كثيرا في إيجاد لغته السينمائية الخاصة، واستخدام المادة التي صورها وثرائها.

“لا نريد حكم الإسلاميين أو العسكر”

يبدأ فيلم “مدنياااااو” زمنه من يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أي بعد 30 شهرا من تفجر الثورة السودانية.

كان الوضع في البلد على حاله، وربما ازداد غموضا وتعقيدا، وهذا ما يلخصه المشهد الافتتاحي، حين نرى شابين في الظلام يكتبان على جدارٍ الشعارَ الجديد الذي فرضته الأحداث: “لا نريد حكم الإسلاميين أو العسكر”.

جمعت الثورة أطيافا متنوعة من السودانيين

يأتي بعد ذلك ضجيج المتظاهرين في الشارع، ممزوجا مع صوت الفريق الأول عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس الرئاسي السوداني، الذي أعلن الطوارئ في البلد، وحينها تبدأ مرحلة جديدة من الأحداث.

“قالوا إن أهل الفيسبوك لن يغيروا البلد، لكننا غيرنا”

يمرّ الفيلم في افتتاحيته على أبطاله الثلاثة، وستكون لهم المساحة الزمنية الكبرى في الفيلم. يتحدث محمد عبد الرحمن من منزله المتواضع وأبناؤه حوله، فيقول: قالوا إن أهل الفيسبوك لن يغيروا البلد، لكننا غيرنا.

ويرى محمد أن قرار الطوارئ هو إقرار بأهمية صوت الشارع الذي أطاح بالرئيس السابق عمر البشير، وهو الذي يواجه اليوم قوة الجيش السوداني. كما يرى أن الثورة أنهت الدورة السرطانية التي كان السودان حبيسا لها عقودا، وهو والسودانيون يتطلعون إلى دولة مدنية.

فتاة سودانية ترفع شارة النصر

بدا حلم الدولة المدنية واضحا في المونتاج المؤثر الذي عرضه الفيلم في ربعه الأول، فكانت الكاميرا تمر على سودانيين من خلفيات اجتماعية متنوعة، وهم يهتفون أحيانا بنفَس واحد “مدنية”، أو شعارات مثل: “هذا البلد حقنا.. مدنية حكومتنا”.

لم يتضمن الفيلم الوثائقي مادة أرشيفية للثورة السودانية الأولى، ودخل الساحة في ظروف أخرى من تلك الثورة، لكن الساحة السودانية التي عرضها الفيلم لم يكن ينقصها الحماس، بل ربما زاد كثيرا بسبب تعقيدات الوضع العام وتدخل الجيش، فقد بدا أن حلم الدولة المدنية أصبح صعبا وهشا، ويحتاج إلى تضحيات جديدة.

“بهواتفنا نقلنا الثورة”.. انتفاضة شبابية تخلى عنها العالم

ينتقل الفيلم الوثائقي إلى مؤمن، وهو شاب ذو ثقافة عالية، ولا يتوقف عن الحركة، ويأتيه الفيلم وهو في محترفه الفني، يصنع تذكارات ملفتة عن الثورة، فيضع أسماء شهداء الثورة على قطع خشبية جميلة، فهو يرى أن أسماء الشهداء وصورهم يجب أن لا تنسى.

نساء سودانيات يشاركن في الثورة

يدير مؤمن مركزا إعلاميا للثورة، وينظم عبر النقابات المهنية نشاطات عامة، وقد بدا وكأنه نذر حياته بالكامل للثورة، فالتعب واضح على وجهه، ويتعثر بالكلام أحيانا، لكنه من جيل الثورة الذي يريد أن يبقيها حيّة وماثلة في كل تفاصيل الحياة.

يبرز الفيلم الوثائقي طبيعة الثورة السودانية البسيطة والصافية، وابتعادها عن المصالح والغايات والقوى الخارجية، ويبرز أيضا الإحباط الذي مرت به بسبب تخلي العالم عنها، ولا سيما وسائل الإعلام.

يذكّر محمد عبد الرحمن المتظاهرين من حوله بتخلي الإعلام العربي عن الثورة السودانية، فهو يرى أن التغطيات لا تنسجم أبدا مع جسامة الواقع والطموح، ثم يتحدث وهو يشير إلى هاتفه، ويقول مفتخرا: بهواتفنا نقلنا الثورة.

“كان كل همنا -نحن الشباب- أن نترك السودان ونهاجر”

تتحدث إسراء قائلة: قبل الثورة كان كل همنا -نحن الشباب- أن نترك السودان ونهاجر بعيدا، لكن الثورة أرجعتنا الى بلدنا.

هذه الشابة السودانية هي نموذج واضح لما فعلته الثورة بالناس، فقد قررت أن تترك عملها في الهندسة وتتفرغ للرسم، فملأت الجدران برسومها التي تمجد الثورة والهوية السودانية.

وقد كانت أول رسمة لها خريطة السودان القديمة، وكأنها تريد تذكر السودان كما كان، قبل انفصال الشمال عن الجنوب.

كان ذلك الحنين هو ما ميز الكثير من شهادات الفيلم، فقد رأت الشخصيات أن التنوع الذي كان واضحا في ثوار الساحة، إنما هو إشارة على تغلغل حب التغيير في كل شرائح المجتمع.

مشاهد الثورة.. ثقافة جديدة توحد أطياف المجتمع

يربط الفيلم شهادات أبطاله بمونتاج من الساحة وشوارع الثورة، وقد كان بعض تلك المشاهد شديد التأثير، يُظهر سودانيين ربما كانوا يهتفون للمرة الأولى في حياتهم بشعارات ثورية.

كان من تلك المشاهد مشهد لامرأة سودانية تلبس الزي التقليدي، وكانت تضع أحجارا على الطريق، لعمل سد جديد يحمي أبناء الساحة.

المرأة السودانية كانت حاضرة بقوة في ساحات الثورة

يشرح الفيلم بنصوص تظهر على الشاشة تطورات الوضع في السودان، وهذا مهم كثيرا ولا سيما لغير المتابعين الجيدين للوضع هناك.

يمر البلد بأحداث سياسية كبيرة تنعكس سريعا على الشارع، فينفجر العنف بشدة عندما قتلت قوات الجيش أكثر من 150 متظاهرا في ساعات قليلة، ورمت جثث بعضهم في نهر النيل، ثم أفلتت الأمور تماما، بعدما انتقل العنف بين فصائل كبيرة في السودان، وهو الوضع الذي ما زال سائدا حتى اليوم.

أسلوب التلفزيون.. جدران تحجب الرؤية السينمائية المبتكرة

يعاني الفيلم كثيرا من انجراره لمحاكاة الأسلوب التلفزيوني التقليدي، وغياب الرؤية السينمائية المبتكرة والمبدعة، التي تتفاعل مع الأمكنة والمناخات التي صورتها.

فقد كان كثير من مشاهد الفيلم صدى لتقارير تلفزيونية، من تلك التي نراها كل يوم على الشاشات، سواء على صعيد تنفيذ هذه المشاهد، أو مكان الكاميرا من الشخصيات التي صورتها.

ولم تبحث الكاميرا عن آفاق جديدة، أو تتجاوب مع طبيعة الشخصيات وحالتها النفسية، لتصور مشاهد خارج المألوف، أو تخرج من روح التلفزيون وقيوده.

إسراء تركت الهندسة وتفرغت للرسم

وعلى صعيد المادة الأرشيفية، فقد بدت محدودة التنوع وأحيانا كسولة، ولم يبد أنها نتيجة لمعايشة طويلة في الميدان، كما فعل الفيلم الوثائقي المصري “الميدان”.

ضعف الجانب السردي.. فيلم دعائي أهمل فرص التميز

تتيح المعايشة الطويلة للحراكات الشعبية فرصا أكثر، لتسجيل ديناميات مختلفة في روحها وطاقتها عن الزيارات العابرة السريعة، التي تبقى أسيرة الزمن المحدود والرفقة القصيرة.

بقيت مشاهد ساحة الميدان السوداني على السطح، ولم تنفذ إلى تلك الروح المتقدة التي كانت بالتأكيد هناك.

كما مرت الكاميرا سريعا في مواضع على أحداث، في حين كان ينبغي أن تتوقف، وتوقفت عندما كان عليها الانتقال.

محمد عبد الرحمن يخاطب المتظاهرين

ولأن الفيلم انحاز على نحو لا جدال فيه للثورة (تعليقات الفيلم المكتوبة كانت تقول ثورتنا مثلا)، بدا الفيلم أحيانا وكأنه فيلم دعائي أو فيلم ناشطين، فالمخرج لم يعرف موقعه من الأحداث الجسيمة في بلده، وكيف يمكن أن يأخذ تلك المسافة النفسية المهمة لوسيط مثل الفيلم الوثائقي.

تصوير الهاتف.. نقطة من نقاط الضعف الفيلمي

شكلت المشاهد التي صورت بالهواتف إحدى مناطق الضعف في الفيلم، لجودتها التقنية السيئة كثيرا، مع أنها أضحت اليوم قادرة على التصوير بجودة عالية أو مقبولة.

وقد غابت كاميرات الفيلم في أحداث معينة، لأسباب لها علاقة بدرجات العنف في الشارع، ثم حلت بدلا منها كاميرات الهواتف.

مؤمن، شاب نذر حياته للثورة

مع ذلك، يساعد فيلم “مدنياااااو” في فهم هذه الثورة السودانية، التي لم تحظ باهتمام وثائقي كافٍ، حالها حال الثورات العربية الأخرى.

“هل من شيء أشد أهمية من استرداد وطن؟”

يعرِّف الفيلم بشخصيات سودانية عالية الثقافة، وتحب بلدها الذي أعادت اكتشافه عبر الثورة، وعندما يصل الفيلم إلى تفجر العنف الكبير، ويعرض تلك الجثة التي نراها على الشاشة لثوان، يبلغ حينها ذروة مأساوية مؤثرة كثيرا.

لا نعرف ماذا حدث للشخصيات التي ظهرت في الفيلم بعد تردي الأوضاع الأمنية وتعكر المشهد برمته، بيد أن كلماتهم المثقفة والواعية تبقى ترن بقوة.

يقول محمد عبد الرحمن ردا على اتهامات إشعال الفوضى التي تلصق بالمتظاهرين في الميدان: يزعمون أن الفوضى والاعتصام يعطلان الأعمال، وهل من شيء أشد أهمية من استرداد وطن؟


إعلان