“سمر قبل آخر صورة”.. ماء النار يشوي وجه المرأة ويرسم أنانية الرجل
استطاعت المخرجة المصرية آية الله يوسف، أن تنقل وجع آلاف النساء الموجوعات وآهاتهن، من اللواتي وقعن ضحايا العنف الذكوري في أبشع صوره وأتمها، لكنها ركّزت في فيلمها على اثنتين فقط، لأن وراء الأكمة ما وراءها من عدد لا يحصى منهن، يمتن في اليوم 100 مرة.
ومع أن كثيرا منهن لا ينظرن للمرآة، فإن هناك من يذكرهن دائما بما هن فيه، فيصبح الأمر وجعا مستمرا مع الزمن.
يُعد فيلم “سمر قبل آخر صورة” للمخرجة آية الله يوسف (2024)، من الأعمال الوثائقية المهمة والنادرة، التي نقلت أوجاع نساء ضحايا “ماء النار” في مصر.
وقد شارك في عدد من المهرجانات السينمائية، منها مهرجان طرابلس السينمائي (2024)، ومهرجان الإسماعلية السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، ومهرجان وهران الدولي للفيلم العربي في دورته الـ12.
ماء النار.. عقاب لترويض المارقات على الذكورية
تُعد المرأة الحلقة الأضعف في المجتمعات الذكورية، فتمارس عليها أنواع كثيرة من العنف الجسدي واللفظي والنفسي، انطلاقا من النظرة الدونية الموروثة عنها، كونها “أقل شأنا من الرجل”، حتى أنها غير محمية بقوانين تضمن حقوقها، لا سيما في بعض الدول العربية.
ومع أن بعض هذه الدول قد تقدمت في جوانب معينة من الحقوق، فإنها تبقى بعيدة كل البعد عن المنطلقات الأساسية الرادعة، تلك التي تضع حدا للعنف ضد المرأة، مثل الذي يحدث لهن بشكل ممنهج ومدروس.
ومن أشكال ذلك الإجرام الذي لا ينتهي، عملية تشويه المرأة وحرقها بماء النار، أو ما يطلق عليه “الأسيد”، وهي مادة كيميائية حارقة شديدة التفاعل والأذية.
وقد وصل معدل ضحايا هذه الجرائم في مصر وحدها نحو 80 ألف حالة سنويا، حسب إحصائيات غير رسمية أطلقتها الأستاذة أمل فهمي، وهي المديرة التنفيذية بمركز تدوين لدراسات النوع الاجتماعي.
وقد توصلت لهذا الرقم المفزع بعد احتكاكها معهن، انطلاقا من عملها الميداني والمتخصص، وهو معطى في غاية الخطورة، يُظهر مدى التعنيف الذي وصلت له المرأة.
وذلك بعد ابتكار عقاب إجرامي جديد، يستعمل كلما حاولت التنصل من ذكورية الرجل المفرطة، ومن عنفه وسلطته ومظلته القاتمة، فتُعاقب بأشد أنواع العنف قسوة وتدميرا، وكأنه يقول لها “أنا ومن بعدي الطوفان”.
ظلم ذوي القربى.. جرائم كثيرة لا تصل إلى السلطة
ليّنت مخرجة الفيلم آية الله يوسف الوقائع، وجعلتها قابلة للرؤى والفهم، بعد أن تتبّعت مسار بطلتها سمر، وهي ضحية رش طليقها وجهها بماء النار.
ومن هنا يمكن تصنيف الأمر على أنه جريمة عاطفية، ووضعها في خانة جريمة الدائرة الأقرب، بمعنى أن طليقها كان أقرب إنسان لها، وقد جاءت الأذية منه.
وكذلك شأن أغلب الضحايا، فقد أصابهن أقرب الناس لهن، مثل الأب أو الأخ أو ابن العم أو الزوج وغيرهم من الأقارب، لهذا تُدفن القضية عادة، ولا تبلغ الجهات الأمنية من خلال الشكاوى الرسمية.
لكن سمر لم ترض بهذا الأمر، وقدمت شكاوى ضد الجاني، مع أن هذا الإجراء غير مجد عمليا مقارنة بالجريمة، لأن الجاني سينفذ عقوبته المحدودة ببضع سنوات، ثم يعود لحياته الطبيعية، ويجدد تحرشه بالضحية وتهديدها مرة أخرى.
من هنا توسعت المخرجة أكثر، وحاصرت المتلقّي والسلطات والمجتمع المدني بمسببات تلك الجرائم، بمعنى أنها جعلتهم يعرفون أسباب البلاء، وأظهرت حجم الضرر الذي يصيب الضحية، في ظل تراخي التشريعات والقوانين والأحكام، وعدم تخصيص نيابة خاصة بجرائم العنف ضد المرأة، لحمايتها من عنف أقاربها من الدرجة الأولى، وبعدها يأتي المجتمع، لأنه لا توجد قوانين حماية تنطلق من هذه النقطة.
قطيعة الضحية وتبرئة الجاني.. جريمة المجتمع
أظهر فيلم “سمر قبل آخر صورة” مدى معاناة المرأة الضحية، بعد تشويه وجهها بماء النار، وتبيان حقيقة أن الألم لا ينتهي بشفاء الجراح الظاهرة على الجسد، بل يستمر عبر الزمن.
ذلك لأنه يتغذى من أحكام المجتمع، ومعاملته القاسية لهؤلاء النسوة المعنّفات، فيراهن ناقصات مشوهات مخيفات، ويحدث معهن قطيعة تامة، فلا يوظفهن ولا يتواصل معهن بدون خلفية، ولا يقترب منهن إلا نادرا، وكأن هؤلاء النسوة قد أصبن بأمراض خطيرة.
وليست تلك الحالات تشوها مظهريا قام به رجل مكبوت ذو نزعة إجرامية فحسب، بل أصبح المجتمع جزءا من تلك الجراح الغائرة، لأنه يساهم في إنتاج تلك المعاناة، ويجعلها مستمرة مع الوقت، ولا يتعامل مع الأمر بإنسانية وبمسؤولية، وكأن الضحية هي من سببت لنفسها تلك المآسي.
وبطريقة غير مباشرة يبرأ الرجل ويشجع على العيش بشكل عادي، بتطهير ضميره من التأنيب، وإفهامه بأن ما فعله هو عين الصواب، ثم يكافئه المجتمع ويزوجه امرأة أخرى.
من هنا يذاب الفعل الإجرامي لدى الفاعل، في حين تبقى الضحية عاجزة ومجروحة، جرحها الجاني والمجتمع والنظام الحكومي، لأنه لم يوفر لها ولأمثالها الرعاية والأمن والحيز الذي تطمئن فيه.
ترميم داخلي وتجميل خارجي.. جسور التجاوز والنجاة
عكست الشخصية الأساسية لفيلم “سمر قبل آخر صورة” مدى وعيها وتقبلها لحياتها الجديدة، لأن السبيل الوحيد التي تسير عليه سمر إنما هو لإنقاذ نفسها من الانتحار، وذلك هو الخيار الأقرب الذي سارت عليه عدة نساء من ضحايا ماء النار.
كانت سمر مختلفة، واستطاعت أن تنجو، بعد مرحلة نكسة وعدم تقبل، وقد وقفت على قدميها حين وجدت أن طليقها سينتصر عليها مرة أخرى، وستنهزم خلفها آلاف النساء إن هي تراجعت، لذا قررت أن تكون صلبة، وتبحث عن بدائل عملية حتى تخرج من دائرة الإنكار والحزن.
أصبحت سمر مناضلة نسوية، تساهم في خلق نفَس جديد للضحايا، وهذا ما فعلته مع صديقتها هيبة، التي حُرق وجهها بماء النار، وشُوه كله تقريبا، فوجدت نفسها وحيدة بلا وظيفة، تعيش على مساعدات الناس.
لكن بفضل سمر وقوة شخصيتها وإيجابية مسارها، فقد استطاعت أن تخرجها من تلك الدائرة، وقررت البحث عن سبيل طبي لمعالجة جزء من تلك التشوهات.
وقد بدأت معها رحلة من عمليات التجميل في الشارقة ودبي، للتخفيف عليها، لا سيما أن سمر خاضت تجارب التجميل من قبل، واستطاعت إزاحة بعض التشوهات، لذا قررت دفع هيبة لتسير على ذلك الطريق، لوضعها في دائرة التقبل والرضا، كي تعيش حياتها وتتتأقلم مع وضعها الطارئ.
تتبع على مدى 8 سنوات.. محاصرة الجريمة بالفن
اقتنصت مخرجة الفيلم آية الله يوسف، لحظات مهمة وفاصلة في مسار الضحية سمر، وقد انعكس هذا الاقتناص من خلال الإحاطة الشاملة بالموضوع، لهذا خلقت تنوعا في السلم الدرامي.
كما أن هذا المعطى أفرز منطلقات تشويقية، ساهمت في تقبل الزمن الدرامي في الفيلم (83 دقيقة)، نظرا لتراتبية الأحداث، فكان لدينا تنوع واضح ساهم في خلقه المسار الزمني، أو التتبع التسجيلي من طرف المخرجة لشخصيتها الأساسية.
وقد استمر هذا التتبع أكثر من 8 سنوات، وهي مدة كافية لتغيير المعطيات وإغنائها في نفس الوقت، وذلك ما خدم الفيلم بشكل ما، فوجد المتلقي متنفسا له، قصم به ظهر الملل، وأوجد فرصة لخلق مسارات تلقٍّ متعددة.
يعود هذا إلى نفَس المخرجة وأسلوبها في الطرح والمعالجة الإخراجية، لا سيما أنها تجاوزت منطلق الإخراج، وتفاعلت مباشرة مع شخصيات الفيلم، فأصبحت جزءا من الموضوع، ومُقرّبة من الضحية، بحكم أنها هي أيضا امرأة، تحس وتتفاعل مع الموضوع أكثر من الرجل، لذا أفرغت فيه كل طاقتها.
وبذلك تكون قد نوّعت الأساليب الفنية في فيلمها، فكان عملها مثقلا جماليا بموضوعه، وخياراته الإخراجية والسينمائية.
مغامرة سينمائية ترفع صوت المرأة عاليا
فيلم “سمر قبل آخر صورة” صرخة مدوية في وجه الذكورية المفرطة، ينتقد القوالب الجاهزة التي تحكم على المرأة لكونها امرأة، وتعاملها على أساس أنها شيء ناقص، مثل مزهرية في البيت، ولا تعطيها حقها الإنساني وحيزها المتساوي مع الرجل.
ولقد جاء الفيلم ليقول “لا” بصوت مرتفع، وهي كلمة تخرج من فم كل ضحية من ضحايا العنف وماء النار، من اللواتي شُوّهن ومسحت ملامحهن، بحجة أنهن لم يرتضين أن يكن خاضعات ذليلات للرجل.
فكان مصيرهن الأسود هو الحرق والقتل ببطء، أما من اقترفوا تلك الجرائم المروعة، فلم ينعكس عليهم حجم ذلك الضرر.
فيلم “سمر قبل آخر صورة” مغامرة سينمائية مهمة، جاءت لتسد فراغا رهيبا في سجلات الدفاع عن المرأة، وهو معطى مهم يعود الفضل فيه للمخرجة والمركبة والمصورة والمنتجة آية الله يوسف، وهي شابة موهوبة تعكس أفكارها النضالية عن طريق السينما المستقلة، لتقول “لا” بطريقتها الفنية.