“عَبَرتنا الحدود”.. آثار الهجرة غير الشرعية على الشرطة الأمريكية
يخالف الفيلم الوثائقي “عَبرتنا الحدود” (The Border Crossed Us) للمخرجة الهولندية “لوريتا فان دير هورست” فيضا من الوثائقيات التي تركز على محن المهاجرين واللاجئين في أمكنة كثيرة من العالم، فهو يحول التركيز إلى الشرطة أو الجهات التي تتعامل مع هؤلاء اللاجئين.
ومن خلال المعايشة لشخصيات تعمل في الشرطة، سنتعرف على الأثمان الروحية التي يدفعها رجال الأمن، في ظروف بدا أن الإنسان هو الخاسر الأكبر فيها.
“ثمانية آلاف لاجئ يعبرون من المكسيك إلى الولايات المتحدة يوميا”. بهذه الإحصائية الصادمة يفتتح الفيلم زمنه، بيد أنه سيقرب عدسته على منطقة صغيرة من ولاية تكساس، يفصلها عن المكسيك نهر متوسط العرض، يعبره يوميا مئات اللاجئين، في طريقهم للوصول إلى أرض الأحلام.
تتضح سريعا مقاربة الفيلم، وستكون عبر التركيز على وحدة خاصة من الشرطة الأمريكية، تتعامل مع قضية اللاجئين الذين يعبرون من المكسيك إلى ولاية تكساس.
في مونولوج بافتتاحية الفيلم، يتحدث شرطي لا نراه على الشاشة، بل نسمع صوته فقط، فيروي إحدى تجربة تبين صعوبة موقعه، وتشتته العاطفي بين واجبات عمله وإنسانيته.
يسرد الشرطي حادثة تقاطعه فجرا مع أبوين يرافقهما طفلان صغيران، وقد عبروا توا إلى الولايات المتحدة، وكان خوفهم وتعبهم واضحا، مما جعله يتركهم في سبيلهم، مخالفا بذلك قوانين عمله في الشرطة.
طريق الهجرة.. مسارات معقدة للوصول إلى الداخل الأمريكي
يشرح أحد الشرطة المراحل التي يقطعها المهاجرون غير الشرعيين، وتحددها في غالب الأحيان عصابات التهريب ذات النفوذ الكبير هناك.
كثير من هؤلاء المهاجرين قادمون من دول أمريكا الجنوبية ودول أبعد من ذلك، ويُنقلون عند دخولهم المكسيك إلى مناطق قريبة من النهر الفاصل بين تكساس والمكسيك، ثم يهرّبون منها إلى الولايات المتحدة، وبعدها تنقلهم تلك العصابات إلى الوجهات التي يرغبون بها في الداخل الأمريكي.
يعد المهاجرون الذين يتعاملون مع العصابات محظوظين، لأنهم قادرون على دفع أجور هذه الرحلات، أما غيرهم ممن لا يملكون ذلك، فيغامرون بالسفر في ظروف شديدة الخطورة أحيانا. وهؤلاء التعساء هم من سيتعثر بهم الفيلم أحيانا أثناء مرافقته لوحدة الشرطة الأمريكية.
تحاول الشرطة أن تقلل زخم هذه الهجرة، لكن نجاحاتها ليست كبيرة، فهي تصطدم بواقع صعب جدا، سواء على صعيد المهاجرين أنفسهم ممن لا يملكون شيئا لخسارته، ويواصلون المحاولة للعبور إلى الولايات المتحدة، أو على صعيد المهربين الذين وجدوا في ويلات المهاجرين فرصة لجني أموال طائلة.
كما أن العصابات تستغل تساهل القانون الأمريكي وعقوباته المخففة لمواصلة نشاطها، وتجنيد جيوش صغيرة من العاطلين، ممن سُدت الآفاق بوجوههم، للعمل في هذه المهنة الخطرة.
شبكة المصالح.. لعبة تستغلها العصابات والحكومات
بدا أن همّ الشرطة في الفيلم هو الوصول إلى عصابات التهريب، على أمل أن يقلل ذلك نسبة الهجرة غير الشرعية. ويسجل الفيلم تحقيقات للشرطة مع مهاجرين وصلوا توا، في محاولة للوصول إلى الجهة التي أوصلتهم.
بدت ثقة المهاجرين في الشرطة الأمريكية ضعيفة، ربما لأنهم آتون من بلدان لا تؤمن كثيرا بدور الشرطة، أو ربما بسبب تهديدات العصابات لهم.
يبرز الفيلم الدينامية بين الشرطة والمهاجرين غير الشرعيين، وهي تتغير وفقا لمعطيات الظرف السياسي العام. لا يقسو رجال الشرطة ونساؤها كثيرا على المهاجرين، لكنهم يهددونهم بعقوبات، إذا ثبت ضلوعهم في عصابات التهريب.
كما بدا أن الأصل اللاتيني لجميع أفراد الشرطة في الفيلم، قد لعب دورا في تعقيد مهماتهم، فهم يتحدثون اللغة الإسبانية، وهي لغة معظم المهاجرين، لكن عليهم من الجهة الأخرى أن يطيعوا القانون، وقد تحدث عن ذلك أحد ضيوف الفيلم في شهادة مؤثرة.
يعترف شرطي في الفيلم بإشكاليات عملهم أحيانا، فهم يكسبون أموالا إضافية في عملهم، مقابل مهام ووقت إضافي يتعلقان بالهجرة، أي أنهم داخل هذه الشبكة الاقتصادية التي بُنيت حول المهاجرين غير الشرعيين، وهم من المنتفعين منها.
صحيح أنهم يقفون على جانب القانون في هذا الصراع، لكنهم يكتسبون ماديا من بقاء أزمة المهاجرين، فقد أصبح هؤلاء منتجا يُستغل بأبشع الطرق من قِبل عصابات التهريب، وتُتاجر به أحيانا حكومات وقوى سياسية، لمصالحها الصرفة.
خائنون لبلدهم الأول أوفياء لجنسيتهم
تتذكر إحدى شرطيات الفيلم -وهي تقود سيارتها- حادثةً وقعت لها، حين كانت تطارد سيارة مهربين، وكادت الأمر ينتهي بكارثة، وتقول: فكرت وأنا في ذلك الموقف الخطير بموتي، وكيف يمكن أن يشاهد أطفالي جثتي.
وقد عرض الفيلم مطاردة تقطع الأنفاس، وكانت الكاميرا مثبتة في مقدمة سيارة الشرطة، ثم تنتهي المطاردة بانقلاب سيارة المهربين أمام أعيننا، في مشهد مرعب حقا، ثم تتجمع الشرطة حول السيارة المقلوبة.
خيّم التشاؤم والحزن على أفراد الشرطة الذين ظهروا في الفيلم، فقد بدا أن معركتهم مع الهجرة الشرعية خاسرة، وليست فيها نتائج مهمة على الإطلاق.
يعاني هؤلاء أيضا من نظرة مجتمعهم المكسيكي في الولايات المتحدة لهم، فهم يرونهم خائنين لأبناء بلدهم، في حين أنهم يخدمون البلد الذين يحملون جنسيته.
كيف تخبر أُما بمقتل ابنتها في بلد بعيد؟
يسجل الفيلم أن شخصياته تواجه النقد العام، أحيانا عبر الإعلام، كما بينت المقابلة الإذاعية التي سجلها الفيلم لشرطي مع محطة إذاعة محلية.
فقد هاجمت المذيعة القانون الأمريكي الذي صعّب الهجرة الشرعية كثيرا، وذكرت أن طلبات هجرة بعض الأمريكيين الجنوبيين قُبلت بعد عقود من تقديمها، وأحيانا بعد موت بعض طالبيها.
يتحدث بعض الشرطة في الفيلم بغضب كبير عن عصابات التهريب، وهم يرون أفرادها يستمتعون بالثراء المتأتي من ويلات بشر أبرياء.
ويعدد أحد ضيوف الفيلم السيارات الحديثة التي يملكها المهربون، فقد أصبح ثراؤهم حلما لكثير من الشباب الذين يحلمون بالمال، ولا يمانعون في الانضمام لهذه العصابات.
عمل الشرطة اليومي يضعها بمواجهة أسئلة إنسانية صعبة جدا، ويروي أحد ضيوف الفيلم أنه كان عليه أن يخبر أُما تعيش في بلد أمريكي جنوبي، بأن ابنتها قُتلت في مطاردة للشرطة. ثم يقول للمخرجة وكأنه يخاطب نفسه: كيف يمكن أن تخبر أُما بمقتل ابنتها في بلد بعيد؟
عالم الشرطة.. رؤية إنسانية غيّبها الإعلام والسينما طويلا
يبحث الفيلم بحميمية عما وراء الأخبار والعناوين الكبيرة، ويحاول أن ينفذ إلى عالم الشرطة، وهو عالم بقي إلى حد كبير خارج التغطيات الإعلامية والوثائقية.
لا يكتفي الفيلم بتلك الحوارات مع الشرطة، فهي تتحول سريعا إلى العاطفية والشخصية بمقدار ما تكشفه، لكنه يجرب على صعيد اللغة السينمائية، فيظهر شخصيات الفيلم وحيدة، تعاني من فداحة ما تواجه يوميا.
هناك كثير من المشاهد السينمائية الجميلة التي صورت شخصيات الفيلم، وهي وحيدة في المطاعم الأمريكية المعروفة بـ”داينر” (Diner).
ولعل الأصل الأجنبي لمخرجة الفيلم، وأيقونة هذه المطاعم -بوصفها أحد رموز الحياة الأمريكية كما نعرفها- جعل تلك المشاهد تكثف “الحلم الأمريكي”، الذي يخاطر من أجله المهاجرين بحياتهم. كما أن هذه المشاهد تعكس وحدة الفرد في مجتمع تحكمه سياسات عليا قاسية، وغير مبررة أحيانا.
“أحبك يا أمي، أنا آسف”.. أوجاع على جدار السجن
حفظت المخرجة خصوصية المهاجرين غير الشرعيين، ولم تظهر وجوه كثير منهم، بيد أنهم كانوا القوة التي حركت المأساة في الفيلم، ويمكن تتبع خطواتهم وآثارهم في سلوك شخصيات الفيلم، فهم قادمون من بلدان أمريكا الجنوبية، لكنهم اليوم يحرسون بلدهم الجديد من أبناء بلدانهم السابقة.
تبرز المخرجة بحساسية كبيرة تفاصيل موجعة من أزمة المهاجرين، فتركز الكاميرا مثلا أثناء تجولها في سجن المهاجرين على عبارة: “أحبك يا أمي.. أنا آسف..”، وقد كُتبت على أحد جدران السجن.
كما تراقب الكاميرا بتفانٍ تعابير وجوه عائلة وصلت توا إلى الولايات المتحدة، وبدت تائهة في البلد الجديد.
وقد كان هذا التيه واضحا على جميع من ظهر في الفيلم، ومنهم أفراد الشرطة، فهم يخوضون حربا طويلة بدا أن أطرافها جميعا مهزومون.