“لندن تجنّد”.. ذكريات بريطانيين تطوعوا لمقارعة نظام الفصل العنصري

في الفيلم الوثائقي البريطاني “لندن تجند” (London Recruits)، يستعيد المخرج “غوردون ماين” صفحة مجهولة من تاريخ الصراع ضد النظام العنصري بجنوب أفريقيا في القرن الماضي.

وذلك عندما راهنت أحزاب يسارية للأفارقة على يقظة الضمير الأوروبي، ودعت أوروبيين للمشاركة في صراعها ضد النظام العرقي الأبيض، وقد استطاعت جذب عشرات منهم للانضمام إليها، وحقن جهودها بدماء جديدة، وكان لذلك تأثير عاطفي ونوعي على الكفاح المشتعل آنذاك.

يفتتح الفيلم بمونتاج حيوي، وشاشة تتقسم لعدة شاشات صغيرة تنقل تفاصيل مختلفة، وتلك مقاربة أسلوبية تملؤها الطاقة وتغطيها السعادة والفخر، وتتأتى من أننا نعرف أن الصراع انتهى بهزيمة النظام العنصري، ولأن معظم من اشترك في تلك العملية السريّة ما زال حيّا، ويتذكر منتشيا الدور الصغير الذي لعبه في ذلك الصراع، وهو ما سيتبين عبر زمن الفيلم.

لا يتغاضى الفيلم عن الأوقات الصعبة التي مرَّ بها أعضاء هذه العملية، والكابوس الذي عاشوه عندما انكشفوا واعتقلوا، ويعيد تمثيل الكابوس الذي عاشوه عن طريق حوارات أجراها الفيلم، وشهادات ممن عملوا في الأجهزة الأمنية، عندما أخذ النظام العنصري المعتقلين إلى حفر ادعى أنهم قبورهم، وأوهمهم أنه سيطلق عليهم النار، ثم يدفنهم هناك بعيدا عن موطنهم بريطانيا.

اعتقال “نيلسون مانديلا”.. نقطة حرجة في تاريخ الصراع

يعيد الفيلم باحترافية كبيرة تمثيل الوقائع التي حصلت، ويختار ممثلين وممثلات متميزين جدا، ليلعبوا أدوار الشخصيات المفصلية. ومنهم “أوليفر تامبو”، وقد كان مشغولا في بداية السبعينيات بإدامة جذوة الصراع، بعد لجوئه إلى دولة مجاورة، وبعدما بدا أن النظام العنصري أثر كثيرا على جهود المعارضة الأفريقية.

في 1962 اعتقل المحامي الأسود “نيلسون مانديلا” بتهمة تشكيل جناح مسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي

فكر “أوليفر تامبو” بطلب المساعدة من الخارج، واستعان برجل أبيض من جنوب أفريقيا، كان من المنضمين للصراع ضد النظام العنصري، ويدعى “روني كاسريلز”. وقد استشعر الرجلان تغيير المناخ الفكري في أوروبا، وانتشار مبادئ الحرية والمساواة في الستينيات.

بمزيج متقن ومؤثر كثيرا من المشاهد الأرشيفية الحقيقية، والمشاهد التي أُعيد تمثيلها، يصل الفيلم إلى ذروة عاطفية مبكرة، فيضعنا في قلب الصراع الذي كان دائرا حينذاك.

تنقل تلك المشاهد أن الصراع وصل إلى نقطة حرجة، باعتقال المناضل الشهير “نيلسون مانديلا”، كما أن عددا من رموز الحركة سُجنوا، وأُجبر كثير منهم على ترك البلد، وكانوا يعيشون آنذاك لاجئين في المهجر.

رسالة استغاثة إلى بريطانيا.. بحث عن حلفاء الحرية

دفع ذلك المشهد القاتم العام بعض أبناء حركة التحرر الأفريقية للبحث عن حلول مبتكرة، لمواصلة الصراع، وعندها بدأ التفكير بأوروبا، ولا سيما بريطانيا التي كانت تشهد يومئذ حركة اجتماعية مهمة.

يُظهر الفيلم أن الوصول برسالة الحركات الأفريقية المعارضة إلى أوروبا كان أمرا معقدا وصعبا، وكان ذلك في زمن ما قبل زمن الإنترنت، وسهولة الاتصالات الذي نشهده اليوم.

بشر من كل الاعراق ضد العنصرية

وحين وصلت الرسالة إلى بريطانيا كان البعض في انتظارها، ممن كانوا يتابعون بغضبٍ وحشيةَ النظام العنصري في جنوب أفريقيا.

يعود الفيلم -مع شخصياته من البريطانيين الذين شاركوا في الصراع- إلى الأيام الأولى التي سعوا بها لمساعدة الأفارقة، ويغوص في مشاعرهم حينذاك، والقرار المهم والخطر الذي أخذوه بترك حياتهم المستقرة، والسفر إلى قارة بعيدة، للاشتراك في صراع مسلح لا تُعرف وجهته ولا عواقبه.

نشر المنشورات السرية.. تجنيد المتطوعين لمهمة خطيرة

كان الحزب الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا يرغبان بتجنيد متطوعين لمهمات غير عسكرية، ولا سيما مهمة نشر معلومات عن الصراع المتواصل وتعريف أفارقة البلد بما يجري، وكانت المعلومات يومئذ شحيحة.

كانت هذه المهمة مفصّلة على مقاس المتطوعين الغربيين، ممن كانوا في بدايات العشرينيات من العمر، وتنقصهم التجارب المسلحة المعقدة.

متطوعون بيض يساهمون في الحد من نظام الفصل العنصري

يعيد الفيلم تمثيل أحداث مهمة، منها طباعة منشورات في بريطانيا، وقد فعلوا ذلك بسرية، خوفا من ملاحقة الأجهزة الأمنية في بريطانيا. كما يعيد تصوير وصول البريطانيين محملين بالوثائق السرية في حقائب سفرهم الكبيرة.

“كان دخولي في الصراع أمرا مذهلا”

أعاد الفيلم تمثيل تلك المواقف بإثارة كبيرة، مع أننا نعرف ما آلت إليه الأمور، ونسمع في الخلفية أصوات من كانوا في تلك الأحداث، ونقلوا المنشورات المحظورة في حقائبهم. وقد كان التفتيش المعتاد لحقائب المشتركين كفيلا بالعثور على المنشورات، وكشف العملية برمتها.

يروي أحد المشتركين الأمريكيين أنه عندما سمع بحاجة الصراع في جنوب أفريقيا لمتطوعين لم يتردد للحظة. ويقول: كنت شابا أعيش حياة رتيبة في حي عادي بضواحي نيويورك، وكان دخولي في ذلك الصراع أمرا مذهلا.

قنابل صوتية تنثر المنشورات ليلتقطها الناس

وقد ذهب إلى جنوب أفريقيا، وصنع قنبلة صوتية بداخلها آلاف المنشورات السرية، ثم انفجرت في ساحة عامة بالعاصمة السابقة جوهانسبرغ، وتطايرت منها المنشورات على السائرين هناك.

معضلة اللون الأبيض

“لو تيسر لي حكم هذا البلد، فسأقطع رؤوس كل البيض هنا”.

هذه ليست مقولة لزعيم سياسي متطرف، بل عاملة نظافة أفريقية سوداء، في الفندق الذي نزل فيه بعض شخصيات الفيلم، أثناء تحضيرهم لعمليتهم السرية.

وقد جسدت هذه الحادثة إشكاليّة عانى منها المتطوعون البيض، فهم في النهاية يحملون لون الجسد الذي يحمله النظام العنصري، لكنهم يقفون على النقيض الفكري والإنساني منه.

في مركز شرطة النظام العنصري الأبيض

يتذكر أحد البريطانيين تلك الحادثة بدون غضب، ثم يعلق ضاحكا: لم أكن أستطيع يومئذ إخبارها، بأن الأبيض الذي أمامها كان يستعد لعملية ضد النظام العنصري. فهل كانت لتذبحني حينها لو تسلمت السلطة، إذا عرفت أني كنت بجانب شعبها في صراعه؟

تدخل عاملة نظافة أخرى غرفة بريطانيين، كانوا يُعدون قنابلهم الصوتية، لكنها تقرر أن لا تخبر رؤساءها، مع أن هذا قد يعرض وظيفتها وحياتها للخطر.

لم يكن هؤلاء البيض -كما بينت شهاداتهم في الفيلم- محملين أو مشغولين بالأعراق أو الألوان، فهم أبناء جيل جديد كانت بدأت تؤثر به المبادئ الإنسانية الكونية، التي نشرتها الموسيقى والكتب منذ بداية عقد الستينيات.

نضوب الحظ.. بداية فصل أسود من تاريخ الصراع

يعود الفيلم مع شخصياته من البريطانيين والفرنسيين إلى حياتهم في بلدانهم، قبل أن ينضموا إلى الصراع في جنوب أفريقيا.

حالف الحظ مجموعة المتطوعين وقتا طويلا، مع أنهم كانوا قريبا جدا من خطر الاعتقال، بيد أن الحظ الذي رافقهم سينضب ويبدأ فصل أسود، عندما كثف النظام العنصري جهوده وتحرياته، واعتقل مجموعة منهم، ثم عرضهم لتعذيب جسدي وحشي، وتعذيب آخر نفسي لا يقل إيلاما.

ملصق فيلم “لندن تجنّد”

يعتّم الفيلم المَشاهد، ويسحب الألوان منها في مشاهد التعذيب، لتبدو قريبة من الصور التي نعرفها من حقبة الستينيات والسبعينيات.

وقد رافق تعليق المعتقلين صوتيا تلك المَشاهد التي أعاد الفيلم تمثيلها، فكان التعليق يشرح ويقدم بُعدا نفسيا صادقا للمشاهد المتقنة فنيا.

شح المادة الأرشيفية.. صور نادرة من حقبة الظلام

يُعرّف الفيلم بشخصيات عدة، منها صحفية جنوب أفريقية كانت شاهدة على الأحداث، وهي أيضا ضحية من ضحايا النظام العنصري، فقد اعتقلها وحبسها زمنا طويلا، وحين تتحدث للفيلم نجد أنها لم تتخلّ عن مرحها وتفاؤلها، فتشكل ما يمكن أن يطلق عليه روح الفيلم الإنسانية.

استعادة متقنة لأجواء الستينات

يتميز الفيلم بطاقة متدفقة لا تنضب، وسيناريو يوازن بين المشاهد التي أعيد تمثيلها والحوارات التي أُجريت مع الشخصيات.

مادة الفيلم الأرشيفية محدودة، وربما كان ذلك عائدا إلى شح الصور في حقبة سيطرة النظام العنصري الأبيض على الحكم، وعلى إنتاج الصورة في جنوب أفريقيا. ومع ذلك فقد وُظفت تلك المادة المحدودة بجودة في النسيج الصوري، وفي السيناريو.

المشاهد التمثيلية.. احترافية ترفع مستوى السينما الوثائقية

يرفع الفيلم مستوى المشاهد التي يعاد تمثيلها في السينما الوثائقية إلى مستوى غير مسبوق من الاحترافية، فكثيرا ما عانت هذه المشاهد من ضعف التمثيل وجموده، ومن المقاربة التقليدية للتفاصيل الشكلية، ولا سيما تلك التي تتناول حقبا تاريخية.

فقد بدا التمثيل في مشاهد الفيلم محكما وواعيا، وكان استعادة الحقبة التاريخية لافتا بمستواه العالي، فتفوق الفيلم على كثير من الوثائقيات التي تعيد تمثيل حوادث الماضي، بجودة المَشاهد التي يقدمها.

إعادة تمثيل مبدعة للأحداث التي وقعت

فهناك مشاهد مبدعة حقا، منها ذاك الذي يصور القبض الأول على أحد المتطوعين في إحدى محطات القطارات الصغيرة بجنوب أفريقيا. فقد كان هناك احتراف واهتمام كبير بكل التفاصيل الفنية، ومنها الأداء التمثيلي، فكان حساسا بالحقبة التاريخية وحالة الشخصيات النفسية.

وقد اختار المخرج أن يصور في الأماكن الأصلية، ويضيف ذلك حقنة من الحقيقة على فيلم وثائقي يستعيد حدثا تاريخيا بفخر كبير، ويحتفل بتعاون أناس كانوا يعيشون على طرفي العالم، في العمل معا ضد الظلم والعنصرية.


إعلان