“حكايات نصراوية”.. مدينة المسيح التي آوت النازحين وحاربت المسخ الثقافي

الناصرة.. مدينة السلام

الناصرة مدينة البشارة، حيث يختلط صوت الأذان بأجراس الكنائس، يرسم العرب الفلسطينيون أروع لوحات التعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين، من سكان تلك المدينة الوادعة.

ما فتئت قوى الظلام والعدوان تحيك المؤامرات لتلك المدينة، وتحاول يائسة أن تشعل نار الفتنة بين أهلها، لكنها بقيت عصية على الكيد والقيد، يتسامى أهلها على جراح النكبة وفقْد الأهل، الذين تشتتوا في أصقاع الأرض، بفعل لصوص الزمان والمكان، وهمج العالم شذاذ الآفاق.

وقد عرضت الجزيرة الوثائقية على شاشتها فيلما من إنتاجها، بعنوان “حكايات نصراوية”، ضمن مبادرة الجزيرة الوثائقية للجميع، سلطت فيه الضوء على صور التعايش المجتمعي بين سكان الناصرة من مسلمين ومسيحيين، وتناولت معاني الصمود التي سطرها أهل المدينة في وجه محاولات الفتنة والتهويد، التي يكيدها لهم الصهاينة المحتلون.

مسيحي يوقظ الناس للسحور في ليالي رمضان

سنترك شخوص الفيلم يحكون بعفوية عن يومياتهم وذكرياتهم. فهذا منصور أشقر، وهو فنان مسيحي من مواليد الناصرة 1942، يعيش في بيته التراثي القديم، ويسمى بالدراجة الفلسطينية “العقد”، وهو بناء من الحجر والطين يرتكز على أقواس حجرية. يقول: لقد ولدت هنا، فكيف يريدون أن أخرج من المكان الذي ولدت فيه؟!

منصور أشقر.. فنان مسيحي من الناصرة يعشق دور المسحراتي في رمضان

ثم يقول: لي مع السوق القديم تاريخ مشترك، إنه يشاطرني حياتي وذكرياتي، درست في مدرسة الفرير، وأخبرت والدتي ذات يوم أنني سأتوجه إلى الدير لأصبح “خوري”، وهو منصب ديني. أحببت التمثيل منذ الصغر، وكانت والدتي تعلمنا المسرحيات الفرنسية؛ “الملك وليام”، و”البخيل” لـ”موليير”، وسكتشات عن عادات الناصرة من تأليف مارون أشقر.

يلبس منصور المسيحي ثوبه العربي ويعتمر الطربوش، ويلقي بالكوفية المرقطة على كتفيه، ويحمل الدف والعصا، ويخرج إلى أزقة السوق في جولته الليلية، ليقوم بدور “مسحراتي” رمضان، ويوقظ الناس للسحور: يا نايم وحد الدايم، قوموا على سحوركم، رمضان جاي يزوركم.

“عيد الفطر عيدنا وعيدهم”

يحدثنا أيضا أمين علي أبو عرب -وهو رئيس جمعية صفورية للتراث والعودة- قائلا: أنا في الناصرة لا أحس بأنني في إسرائيل، ولست في عفن مدنها الحديثة، وعلى مدى 60 عاما من الإتلاف والتدمير ما زلنا بخير، ومع توفر كل عناصر التهميش والتلاشي، فإن شعبنا ما يزال صامدا حيا.

مئذنة المسجد الأبيض في مدينة الناصرة

وتقول جهينة قندلفت، وهي فنانة تشكيلية: أعتز بالانتماء للناصرة، فهي مدينة تاريخية عريقة، أحب أن أرسم حاراتها العتيقة، فهي تذكرني بطفولتي، فلست أحس بالوقت وأنا أرسمها، أقارنها بالبلاد التي زرتها، فلا ترى عيني أجمل منها.

أنا مسيحية، أذكر وأنا صغيرة أنني قلت لأبي “الجمعة القادمة عيد الإسلام”، فرمقني بنظرة غضب وقال: لا تقولي هكذا، هو عيد الفطر، هذا عيدنا وعيدهم، ونحن وإياهم عرب فلسطينيون، كان يريد أن يرسخ هذه العلاقة المتينة في نفوسنا منذ الصغر.

الفن ذاكرة الشعوب.. رسّامة فلسطينية تحرص على رسم مباني الناصرة

أحاول بالرسم أن أوصل رسالة وطنية بقدر ما يحمل كتاب كامل، فاللوحة الفنية شكل من أشكال النضال والصمود، وهي تعكس ما بداخلي، أحاول أن أعبر بها عن حبي لوطني وتمسكي بهوية مدينتي.

الناصرة.. بلد البِشارة وموطن السلام

يتحدث بائع القطايف أحمد أبو أحمد، قائلا: الناصرة أجمل البلاد وأقدسها، لا أستبدلها بكل بقاع الأرض، هي بلد السيد المسيح وموطن البِشارة ومستودع السلام. أنا أعمل في هذا المحل منذ عقود وارتباطي به عميق جدا، عمر البناء أكثر من 330 عام، من زمن الأتراك، مثل بقية مباني السوق القديم ومسجده الأبيض.

ارتبطت القطايف برمضان، حيث ينعم الناس بدفء السلام والطمأنينة في هذه الأجواء السمحة الصافية، فالصيام تهذيب للنفس وولادة جديدة، وفيه محبة وألفة وتعاطف وتراحم بين الناس كل الناس.

القطايف.. أشهر الحلويات في رمضان

وهذه أم محمد، التي تسكن منطقة السوق القديم منذ 27 عاما، وتقول: أحب هذا المكان المقدس، رمز السلام والمحبة، وأحب أهله والساكنين فيه، أعلّم أبنائي وأحفادي معاني المحبة والتسامح والاحترام المتبادل مع جيراننا المسيحيين.

ويقول الكاتب وليد الفاهوم: هذا بيت العائلة منذ 200 عام، وجودي فيه يعطيني شعورا بالركون إلى جذوري، شجر الليمون ورائحة الزهور جزء من ذاكرة المكان العطرة، وقد بُني المنزل على 3 مراحل، اشتراه جدي بالأصل من عائلة المزط، ولم يبق اليوم منهم في الناصرة سوى أفراد معدودين.

مباني الناصرة القديمة.. عمر بعضها 300 عام من عهد الأتراك

وتقول نائلة لبس، وهي مهتمة بالتراث الفلسطيني: جاءت عائلتي من حيفا في 1948، وسكنت دير المطران “الريس”، وكان اسمها كنيسة “القِلاي”، وهو اسم مأخوذ من كلمة “كْلِيو” اليونانية، ومعناها الصومعة. كانت أمي حاملا بي عندما نذرت إذا ولدت أن تصعد إلى سطح الكنيسة وتغني، وقد وفت بنذرها واعتلت ظهر الكنيسة وقالت:

“يا ناس صلوا ع النبي.. بنت الكرام جابت صبي”

“ويا مين يبشر أبوه.. تا يعمل مولد للنبي”

مفردات إسلامية تغنيها امرأة مسيحية، مما يدل على أن الناس منصهرون في بوتقة واحدة، لا فرق بين مسيحي ومسلم.

السوق القديم في الناصرة 1948

كان أبي موظفا عاما، ولكنه كان هاويا للتصوير الفوتوغرافي، ولما جاء إلى الناصرة بدأ ممارسة المهنة، وكانت وظيفة أمي آنذاك أن تأخذ المسافة بين عدسة الكاميرا وأنف الشخص الذي يريد أن يتصور، لخلو الكاميرا آنذاك من وسائل الضبط.

ذكريات النكبة الأليمة.. الناصرة تضمد جراحات النازحين

ارتفع عدد سكان الناصرة سنة 1948 من 15 ألفا إلى 120 ألف نسمة دفعة واحدة، وذلك بسبب النزوح الداخلي للفلسطينيين الذين احتل الصهاينة قراهم، جاؤوا من صفورية والمجيدل والمعلول وغيرها من القرى.

بلدة صفورية المحتلة.. قصفها الاحتلال الصهيوني بالطيران في يوليو/تموز 1948 لتهجير أهلها

يتذكر أبو عرب النكبة جيدا، ويقول: حتى 1948، كان يسكن صفورية 7 آلاف نسمة، وهي بلد غنية بأراضيها ومياهها، وفيها معاصر الزيتون اليدوية والآلية، وفيها أكثر من ألفي دونم من البساتين. وقد هاجمتها العصابات الصهيونية بالطيران ليلة 16 يوليو/ تموز 1948، كان الناس قد وضعوا طعام الإفطار، وينتظرون أذان المغرب.

قُتل عدد من الأهالي، وتفرق البقية في البساتين وبين أشجار الزيتون، وأصبحت صفورية محتلة، كان عمري يومها 13 عاما، وأدركت هذه الأحداث بتفاصيلها، ما زلت حتى هذه اللحظة أتذكر صفورية بشوارعها وحاراتها وأزقتها، بل إنني وبعد أكثر من 70 عاما أشعر أحيانا أن الزمن توقف بي عند تلك الليلة.

فلسطينيون مهجَّرون من قراهم في نكبة 1948

ويتذكر بهجت -وهو صاحب محل حلاقة- مدينة الناصرة في الثلاثينيات قائلا: كنا نتمشى مع الأصدقاء من عين العذراء إلى جبل النمساوي، نأخذ معنا البطيخ، نتسلى ونتسامر ونعود أدراجنا، لا نصادف إلا سيارة أو سيارتين على طول الطريق. اليوم يمر خلال دقيقة أكثر من 20 سيارة.

أعمل في مهنة الحلاقة منذ 1936، لا أعرف تاريخ ولادتي على وجه التحديد، ولكنني “تعمدت” سنة 1921، ابني الأكبر بروفيسور في الفقة الإسلامي وتاريخ الشرق الأوسط في جامعات كندا، يحب قراءة القرآن الكريم كثيرا، يقرؤه أكثر من الإنجيل، وعندما أسأله يقول لي: القرآن أصل اللغة العربية.

“بعد أن شُفيت بقيت تصوم مع المسلمين كل رمضان”

يقول الكاتب وليد الفاهوم: تحاول السردية الصهيونية القول إن الفلسطينيين هاجروا -ولم يهجّروا- من قراهم ومدنهم. فهل يُتخيل أن يترك إنسان وطنه وماضيه ومستقبله طوعا؟ هل يترك أهل صفورية إفطارهم على المائدة طوعا؟ أي منطق هذا؟ الحقيقة أنهم اقتُلعوا من أرضهم اقتلاعا.

عائلات مسلمة ومسيحية تتشارك مائدة الإفطار في رمضان

على مائدة الإفطار في بيت أبو عرب، تجتمع عائلات مسيحية ومسلمة، رجالا ونساء وأطفالا، وتحدثهم نائلة عن أسرار أهمية بدء الصيام وربطه برؤية الهلال، وتقول إن الترقب لشيء مجهول يولد حالة من الاشتياق، وإلا لكان رمضان مثل أي شهر أو حدث آخر، يعرف الناس قدومه من دون أن يترقبوه.

وفي منطقة السوق القديم في الناصرة لا تستطيع التمييز بين بيت المسيحي والمسلم، فجارة أم محمد مسيحية تتشارك معها بيتا واحدا، وبناتها يصمن رمضان محبة مع بنات أم محمد. ثم يأتي رمضان كل عام، فيعمق هذه العلاقات الطيبة بين الجيران على اختلاف أديانهم.

السوق القديم في الناصرة اليوم

كانت الناصرة في الأصل مسيحية، ثم جاءها الإسلام فأمن الناس على أديانهم وصوامعهم، ثم انصهر السكان في بوتقة واحدة، حتى ما تستطيع التفريق بينهم، ثم جاءت نكبة فلسطين فزادت الترابط والتآخي بين العرب الفلسطينيين على اختلاف معتقداتهم.

تقول نائلة: أصاب أختي نبيلة مرض في عينيها، وكانت جارتها المسلمة أم عرب تزورها وتطمئن عليها، وطلبت منها في إحدى الزيارات أن تنذر نذرا أن تصوم مع المسلمين يوما في رمضان من كل سنة، إن شفاها الله من مرضها، وبعد أن شفيت بقيت تصوم مع المسلمين يوما في كل رمضان، وذلك منذ 1976 وحتى الآن.

حفظ التراث.. تعزيز الهوية في وجه مخططات الاحتلال

يزخر “بابور” الناصرة بكثير من الذكريات العطرة، ويأتيه الفلاحون لطحن الحبوب والزعتر، ويصبح المكان سوقا صغيرا تبيع النساء فيه خضارهن وبقولهن ومنتوجاتهن اليدوية، فقد كانت حياتهن فقيرة، لكن فيها بركة وجمالا خفيا لا يدركه إلا من عاشه، ورائحة الزعتر -وهو رمز فلسطين- تفوح في أرجاء المكان.

صمدت الناصرة، وحافظت على هويتها الفلسطينية في وجه كل المخططات التي سعت إلى تهويدها، وسلخها عن واقعها الفلسطيني العربي الأصيل.

موقع عين العذراء في مدينة الناصرة

وتستمر المؤامرة، ليس على فلسطينيي الداخل فقط، بل على أهل الضفة والقطاع وفلسطينيي الشتات، فمطلوب منهم أن ينسوا وطنهم الذي اقتلعوا منه، ولكن هيهات، فالفلسطيني لا ينسى، لقد راهن المحتلون على أن يموت الكبار وأن ينسى الصغار، ولكن خاب رهانهم، والأقلية التي بقيت في ديارها بعد النكبة -وعددهم 150 ألفا- أصبحوا اليوم أكثر من مليون و200 ألف إنسان.

في السنوات التي تلت النكبة، وبعد حرب 1967، حاولت سلطات الاحتلال طمس المعالم الفلسطينية، ليس على الأرض فقط، بل في قلوب الناس، فكان ذكر اسم فلسطين أو حمل علمها من الكبائر التي يعاقب عليها الاحتلال بشراسة، بل كانو يجبرون الطلاب العرب على حمل علم إسرائيل وترديد نشيدها. واليوم يحمل التلاميذ العرب علم فلسطين ويتغنون بأناشيد حق العودة.

يقول أبو عرب: عندما أطلق “هيرتزل” مقولته الكاذبة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” ناقشه أحد اليهود قائلا: لقد كنت هناك في الناصرة، ومررت بقرى كفر كنا والرينة ومشهد، كانت كلها عامرة بالناس، يزرعون ويحتطبون ويخبزون، فقال له “هيرتزل” صدقت، ولكنهم بلا تراث.

متحف جمعية صفورية في الناصرة.. ذاكرة الإنسان والمكان

من أجل ذلك -والكلام لأبي عرب- فقد أنشأت قاعة الجمعية متحفا لكل الأدوات التراثية التي استخدمها آباؤنا في الزراعة والحياة اليومية، مثل عود الحراثة، ولوح “الدراس”، وقدور الطبخ، وفوانيس الإنارة، والأوعية الفخارية لحفظ الزيت ومواد التموين، لقد جمعت 600 قطعة بمجهودات شخصية، وضعتها تحت تصرف الجمعية.

حق العودة المقدس.. ترنيمة الفلسطيني الخالدة

تقول نائلة لبس، وهي مهتمة بالتراث الفلسطيني: تحافظ الأغنية على الموروث الشعبي، ويختزن الناس فيها ذكرياتهم وأنماط عيشهم، وهي تؤرخ لأحداث مهمة مرت بها المنطقة، فأغنية “الروزنا” مثلا ظهرت في سوريا ولبنان في القرن الـ19، تحكي عن مجاعة حصلت هناك، وبما أن الحدود السياسية لم تكن موجودة يومئذ، فقد تغنى بهذه الأغاني أهل فلسطين أيضا:

عالروزنا عالروزنا كل الهنا فيها
شو عملت الروزنا الله يجازيها

حلفتكم بالنبي ومنين ميتكم
ميتنا عين العذرا شرْب النصراوية

الناصرة مدينة البشارة والنور والسلام، والبشارة هي البعث من الضيق والظلمة إلى السعة والنور، وهي بلد الأنبياء، عيسى وآل عمران وتلك الشجرة الطيبة، وما يزال أهلها يتوارثون معاني المحبة والسلام إلى يومنا هذا.

الناصرة.. مدينة السلام

يجمعهم رمضان موسم الفرح والأعياد، تلتقي فيه العائلات المسلمة والمسيحية، يتشاركون الإفطار والأسمار، وهم على يقين تام أن الدين عنصر مهم من عناصر تكوين الهوية، ولكنه لن يكون عنصر تفرقة واختلاف.

وهم يصلون دائما أن يعم الخير والسلام جميع بلاد أشقائهم العرب، وأن يعود الفلسطينيون -وهم أهل البلاد- المشردون عن وطنهم، والمشتتون في أصقاع الأرض، ليعمروا بلدهم ويلتم شملهم مع أهلهم وأحبائهم.


إعلان