“يا الرايح” و”يا المنفي”.. صرختان تخلدان المقاومة والاغتراب الجزائري
يُنظر لأغنيتي “يا الرايح” لدحمان الحراشي، و “يا المنفي” لآكلي يحياتن على أنهما سجل حي، ينطق بحكايات النضال والغربة، ولأنهما ولدتا في ظروف معينة ولأسباب محددة، فإن التعامل معهما يختلف عن بقية الأغاني.
كان يُتوقع أن تتجاوزهما الأجيال والزمن، لكن كتب لهما عمر جديد، وتوج مسار هذه الشخصيات والأغاني بتوثيقها وتدعيمها بشهادات في غاية الأهمية، حاولت الإلمام بمنجز أصحابها، وسرد الأحداث التاريخية التي أسست لقصص متفردة كتبت تاريخ أمة.
فإرث دحمان الحراشي وآكلي يحياتن الذي أعاده رشيد طه للحياة، تبنته بعض إنتاجات الجزيرة الوثائقية، من خلال سلسلة “حكاية أغنية”، ووثائقي “ثورة الحراشي”، وذلك توثيق مهم، من شأنه تعزيز الهوية الثقافية التاريخية، وربط الحاضر بالماضي.
اجتمعت الشخصيات الثلاث في الوطنية والنضال، ولم تختلف في رؤيتها وتعاطيها مع فرنسا، التي سجنت الفنان المجاهد آكلي يحياتن يوما ما، وانتقدها رشيد طه بجرأة، وأشعر دحمان الحراشي العالم بقسوة الغربة فيها، وأخبرنا في أغنيته “يا الرايح” أن مصير كل مهاجر هو العودة للوطن.
عاد منفيو كاليدونيا في حكاية أغنية، واستحق الفنان دحمان الحراشي أن يعرف العالم بالثورة التي أحدثها في الفن الشعبي، في انتظار أن ينال النجم رشيد طه حيزا من التوثيق الذي يستحقه، فقد خاض حروبا دفاعا عن الإنسانية، وقاد ثورات ضد العنصرية.
“يا الرايح”.. انتشار يسلط الضوء على الإرث الموسيقي
حاول وثائقي “ثورة الحراشي” للمخرجة اللبنانية فرح علامة، أن يتعمق في شخصية الفنان الجزائري دحمان الحراشي (1926-1980)، لتمكين الجمهور من فهم هذه الظاهرة الفنية الفريدة، ومعرفة بداية تشكلها، بعد أن استطاعت إحداث تحول جذري في موسيقى الشعبي، وكسر قواعد وضعها العميد الحاج امحمد العنقة.
في البداية، وجب الإقرار بأن نجاح أغنية “يا الرايح” وانتشارها عالميا بفضل رشيد طه، جعل الأنظار تتجه نحو الإرث الموسيقي الغني، الذي خلفه دحمان الحراشي، ويرجح أنه يفوق 500 أغنية.
فما تضمنه هذا الوثائقي جعلنا ندرك أنه لم يكن فنان الهامش مثلما كنا نظن، بل هو أيقونة فنية عالمية، استحقت هذا الاحتفاء والمنجز الذي استند على شهادات قيمة، أضاءت جوانب مهمة من حياته الشخصية والفنية.
فقد أضافت تلك الشهادات للفيلم الكثير، مثل مساهمات أرملته عائشة عمراني، وابنه كمال الحراشي، والشاب خالد، وبعض أصدقائه مثل الفنان كمال حمادي، وعبد القادر لبجاوي.
ولأن الأماكن تعني الكثير لفناني الشعبي، كانت الأحياء العتيقة التي تحملت الميلاد وعبء الذكريات أول ما أثير في هذا الوثائقي، فعبد الرحمن عمراني (الملقب دحمان الحراشي) لم ينس يوما من أين أتى، ولم يتنصل من الأماكن التي ولد فيها ومر بها، كالحراش والأبيار وعين البنيان، التي لفظ بها أنفاسه الأخيرة في 31 آب/ أغسطس 1980.
فقد شكلت هذه الأحياء التي تشبهه في البساطة جزءا هاما من شخصيته وانتمائه وذاكرته الموسيقية، كما أن رحلة الغوص في فنه وأسلوبه وحتى طباعه، تطلبت العودة في كل مرة إلى خصوصيات موسيقى الشعبي، وإلى محطات مؤثرة في حياته، انعكست فيما بعد على أغانيه التي كتبها ولحنها.
دندنة الكواليس.. بداية عفوية ونجاح غير متوقع
قرر دحمان الحراشي الهجرة إلى فرنسا عام 1949، واختار الاستقرار يومئذ بمدينة ليل، ومنها انتقل إلى باريس، وهناك بدأت مسيرته عازفا على آلة البانجو، ورافق عددا من الفنانين البارزين، ومع الوقت زاد تواصله مع أبناء الجالية الجزائرية، وتوسعت دائرة علاقاته، وبات كثير من الناس يطالبه بتسجيل أغانيه، بعدما اكتشفوا صوته الخشن، وأداءه المختلف المتميز وهو يدندن في غرفة الموسيقيين، وقد لبى طلبهم بعد رفض في البداية.
آمن فنانون -منهم لحبيب حشلاف وصلاح السعداوي- بموهبة الحراشي أداء وتلحينا وكتابة للكلمات، فاقترحوه على أحد المنتجين، وقد تفاعل في البداية مع فكرة تسجيل أول ألبوم له، لكنه رفض طرحه في الأسواق، ظانا أنه يوم التسجيل كان مصابا بالزكام وعليه أن يرتاح أولا.
انتقل الحراشي لاحقا إلى أستوديو “باتي ماركوني”، وسجل أغانيه هناك، فبدأت قصة نجاح فاقت كل التوقعات، معلنة بذلك ميلاد نجم أغنية الشعبي، هذه المرة من المهجر، لا من الأحياء الشعبية التي ظلت تحتكر هذا اللون الغنائي، وهو استثناء آخر في سجل الشعبي والحراشي.
على مدار ساعة وربع، تلاحظ بأن الشخصيات التي عرفت دحمان الحراشي عن قرب تُعامله على أنه نجم، وتراه رمزا، وتناديه بالمدرسة، وتلك صفات تشعرك بحجم الشخصية الفنية التي كونها الرجل، والحكمة التي لديه، وقد جسدها في أكثر من أغنية.
ولهذا يقول مهدي براشد -وهو كاتب صحفي وباحث في أغنية الشعبي- إن الجزائر برحيل دحمان الحراشي لم تفقد موسيقيا شاملا فقط، بل خسرت مدرسة فنية لم تجد حتى الآن من يخلفها، وقد يكون ابنه كمال الاستثناء الوحيد.
ويرى براشد أن الحراشي اشتهر بعد وفاته بسنوات، لكنه لو عاش في وقتنا الحالي لكان أكثر شهرة ونجومية، فأغانيه عموما ومبادرة رشيد طه بإعادة صياغة رائعته “يا الرايح” أكبر دليل على أنه لم يصلح وفكره وأغانيه لذلك الزمان.
وفي سياق ذي صلة، يروي الفنان كمال حمادي قصة هذه الإعادة، التي كانت هدية من رشيد طه إلى والده، وكان من محبي دحمان الحراشي.
استثناء الصوت المبحوح والشخصية العنيدة
تحظى الجزائر بثراء موسيقي كبير، نجده من تبسة إلى تلمسان، ومن تيزي وزو إلى تنمراست، وقد صنع ذلك خيارات كثيرة وألوانا فنية تلبي أغلب الأذواق، ففي الغرب يسطع نجم الراي، وفي الشرق يتألق المالوف، أما الشعبي فقد ظل مرتبطا ببيئته، حتى أخرجه المغترب دحمان الحراشي من بيته الصغير إلى أفق أرحب.
تؤكد شهادة الشاب خالد في الوثائقي أن أغاني الحراشي اخترقت حدود العاصمة ووصلت إلى وهران، فأصبح له ولأغانيه محبون في عاصمة الغرب الجزائري، وكانت تعيش فصلا مهما من نجاحات الراي.
وقد أعرب ابنه كمال عمراني عن دهشته من فكرة أن يقطع الناس مسافة تزيد عن 1200 كيلومتر، لرؤية والده وحضور إحدى حفلاته، مما يثبت أن الحراشي بأسلوبه الفريد وأغانيه المؤثرة، قد استطاع تكوين جمهور واسع في كل مدن الجزائر.
سعى دحمان الحراشي لتجديد موسيقى الشعبي من دون مساس بجوهرها، وبعد عودته من الغربة، أصبح استثناء بصوته المبحوح وشخصيته العنيدة، وأغانيه التي تناولت مواضيع اجتماعية متنوعة، وبفضل تميزه استطاع أن يفرض وجوده، ويتفوق على فنانين بارزين، منهم الكاردينال الحاج امحمد العنقة، الذي تسيد المشهد سنوات.
توقف الباحث مهدي براشد عند النصوص التي أحدث بها الراحل دحمان الحراشي انقلابا، فعلى مستوى الكلمات يمكن القول إن القصائد المطولة التي كان يؤديها الحاج امحمد العنقة، وأعلن فنانو الشعبي ولاءهم ووفاءهم لها، لم تستهوِ ذائقة دحمان الحراشي ولم تجذبه، فراح يكتب ويلحن أغانيه بنفسه.
شاعر حكيم يعبر عن قضايا مجتمعه
في الحقيقة، لا تحتاج أن يصف لك أحد شخصية دحمان الحراشي وقدراته الفنية، فاختياراته للمواضيع والكلمات وأغانيه التي تشبه الأمثال والحكم تكشف عن شخصيته، فقد كان يميل إلى التأمل والعزلة التي كانت تلهمه في التأليف، فيكتب ويلحن في الليلة الواحدة أكثر من أغنية، كما فعل في أغنيتي “لازم السماح يكون بيناتنا”، و”راح الليل وبان الفجر”، وشرع في تسجيلهما في اليوم الموالي.
يقول صديقه عبد القادر لبجاوي: كتب في مواضيع متنوعة مثل الاغتراب والوطن والمعاناة والحب والخيانة والصبر والعلاقات الإنسانية، مما جعله شاعرا حكيما، يعبر عن قضايا مجتمعه بأسلوب فريد ومؤثر.
من هنا ندرك أن موسيقى الحراشي بكلماتها العميقة وثقل معانيها، اختلفت عما كان سائدا آنذاك، من قصائد ومدائح تعود للقرن الـ18 وبدايات القرن العشرين، فقد أخذ الشعبي يتحول ليتماشى مع تغيرات المجتمع، وينفتح على مواضيع وأصوات جديدة مثل عمر الزاهي، وبوجمعة العنقيس، والهاشمي قروابي.
وعندما نتحدث عن تحولات أغنية الشعبي، لا يمكننا إغفال الظاهرة الموسيقية الفذة المتمثلة في الموسيقار سفر محبوب باتي (1919-2000)، وهو صانع النجوم الذي أسس هوية جديدة، وأحدث ثورة في فن الشعبي، وترك بصمة لا تُنسى في تاريخ هذا الطابع الموسيقي.
وقد نال كل هذا التجديد استحسان الجزائريين من شتى مناطق البلاد، وهكذا انطلقت موسيقى الشعبي من العاصمة، لتصل إلى محبيها في جميع ولايات الوطن، وكذلك في تونس وفرنسا وعدة بلدان أخرى، وتلك محطات مهمة رصدها بامتياز وثائقي “ثورة الحراشي”.
فن بين جرأة الاستعارات ومنع الرقيب
عندما نتحدث عن الجرأة والمنع في الفن، تتجه الأنظار مباشرة إلى موسيقى الراي، هذا هو السائد والشائع، لكن الرقابة طالت أيضا أنماطا موسيقية أخرى منها الشعبي، بسبب المعاني التي تتضمنها بعض الأغاني، والكلمات التي قد ترد في لفظ مباشر أو تُفهم من السياق.
يشمل ذلك بعض أغاني دحمان الحراشي، مثل “يا كاسي علاش راك زايدني فالدمار”، التي قال الفنان المغترب رشيد مصباحي إنها منعت في الجزائر عند صدورها، وهي تتحدث عما تفعله الخمر بشاربها.
لم تكن موسيقى الشعبي تسمى الأشياء بمسمياتها، بل كانت تعتمد الترميز، مثل تشبيه المرأة بالحمامة أو الحجلة، والرجل بالصياد، كما في أغنية الحراشي “يا الحجلة جاك الصياد من بعيد”، ففي مجتمع محافظ مثل المجتمع الجزائري لم يكن يستطيع الرجل أن يتغزل بالنساء بلفظ مكشوف، فكان يلجأ إلى الاستعارة والتشبيه.
“صحا يا دحمان”.. وثائقي أعاد فيه الحراشي قصته
في وثائقي “ثورة الحراشي”، الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية، سلطت المخرجة فرح علامة الضوء على جوانب متعددة من حياة الفنان دحمان الحراشي، وحاولت الإلمام بمساراته المتنوعة، بداية من البيئة التي احتضنته، وصولا إلى الثورة التي أحدثها في مجال الإيقاع والآلات والكلمات، مرورا بفيلم “صحا يا دحمان” للمخرج سليم بلقاضي.
“صحا يا دحمان” فيلم تمثيلي واقعي، أعاد فيه دحمان الحراشي تصوير جزء من حياته وتفاصيل عودته إلى الجزائر، وعلاقته بالبحر والمقاهي والعاصمة، وكان محاطا في الفيلم بشخصيات حقيقية، منهم صديقه الفنان محمد الباجي (1933-2003)، وسائقه والباعة والصيادون، وآخرون ساهموا في توثيق تلك المرحلة المهمة من حياته.
ولم يتوقف الوثائقي عند أغانيه التي أعيد تقديمها بأكثر من لغة، منها أغنية “خليوني” التي أعادتها الفنانة التونسية لطيفة العرفاوي، و”بهجة بيضا ما تحول” التي غنتها فرقة زبدة الفرنسية بأسلوبها.
وجدير بالذكر أن عائلته تتابع قضائيا كل من يحاول استغلال إرثه، من دون العودة إلى الورثة الشرعيين وأصحاب الملكية الفكرية لاستئذانهم على الأقل، وذلك مع تزايد حملات السطو على أغانيه.
رشيد طه.. فنان حمل فن الشعبي إلى العالم
لم يلتق دحمان الحراشي ورشيد طه إلا في غربة وأغنية، وكان الفارق الزمني بين النسخة الأصلية والمعادة من أغنية “يا الرايح” يتجاوز 20 سنة.
أما النسخة الأولى فقد كتبها وغناها سنة 1973، بموسيقى شعبية محلية، نشأت وتطورت بين الأحياء العتيقة، واحتكرها الرجال، وكانت قبل أن تعتلي المسارح تؤدى في المقاهي والأفراح.
فمن جزئية المحلية استثمر رشيد طه في تراث بلاده للتعريف به، والترويج له خارج الحدود، معلنا بذلك ميلاد ثانيا وبداية عهد جديد لأغنية “يا الرايح”، بتوزيع موسيقي للإنجليزي “ستيف هيلاج”، ولكن هذه المرة بإيقاع مختلف يفاجئ العالم ويرقصه سنوات، كما أن مبادراته الفنية عرّفت العالم على فن الشعبي الجزائري، الذي يختلف مفهومه وتصوره للأغنية الشعبية في الوطن العربي.
رحل دحمان الحراشي و رشيد طه، وبقيت “يا الرايح” تذهب وتعود، وتملأ الأماكن، وتتنقل بين عواصم العالم وقاراته، وتغنى بأصوات وطبقات ولغات مختلفة، أحيانا تنسب لصاحبها الأصلي، ومرات يُظن أن رشيد طه هو كاتبها وملحنها، ولا يزال بعض الناس يظن ذلك إلى غاية كتابة هذه السطور.
ومع ذلك فإن اختزال مسار طه وتاريخه وجهوده في “يا الرايح” أو “يا المنفي”، بعيدا عن ألبوماته وأغانيه وكل ما قدم، هو إجحاف كبير في حقه، فهو صحفي وكاتب ملتزم وفنان مناضل، كان يرى دائما أن الأغاني يجب أن تحمل مواقف، وإلا فقدت جزءا كبيرا من روحها.
مزج الفنون المحلية والعالمية.. خطوة جريئة
ربما لم يجد رشيد طه نصا جيدا يؤنس غربته ويعبر عن شعوره في الغربة ويثمن نضالاته، ولكنه وجد ذلك وأكثر في نصوص الجيل الذي سبقه للفن وللحياة بسنوات، وفي طبوع فنية لا تتقاطع مع موسيقاه التي لا يرى في قربها من الشعبي أو الراي خيانة للروك، وهو الأسلوب الفني الذي اشتهر به.
لقد كان موهوبا مثقلا بالتجارب والنضج الفني، وما كان ليغامر بتاريخه الموسيقي ولا إرث دحمان الحراشي ولا اسم آكلي يحياتن وقصة المنفيين، لولا دراسته الجيدة للخطوة التي سيقدم عليها.
لم يكن أحد يومئذ يجرؤ على مزج الموسيقى الإلكترونية بالشعبي، أو الروك والبوب بالراي، ولكنه فعل ونجح، لا سيما والراي نمط موسيقي قابل للتزاوج والتعايش مع الألوان الأخرى، لهذا يصعب حصر رشيد طه في الراي أو اختزاله في الروك، لأنه محسوب على الموسيقى بكل طبوعها وجمالياتها.
لم يكن رشيد ينتظر أن تزيده أغاني الشعبي والراي شهرة، أو تجعله فنانا عالميا، لأنه كان عالميا حتى قبل الحفل الكبير الذي جمعه بالشاب خالد وفضيل سنة 1998 بباريس.
لكن إعادة تقديمه لأغنيتي “يا الرايح” و “المنفي” زادت شهرته عربيا، ونجوميته عالميا، وظل سعيه قائما لإخراج كل الطبوع الجزائرية من محليتها، سواء موسيقى الراي والديوان والشعبي، وما ساعده على ذلك هو اطلاعه من غربته على مستجدات الساحة الفنية، وبحثه الدائم في التراث المحلي عن مقاطع قابلة للتجديد.
كما عُرف أيضا بسعيه المستمر لمزج الموسيقى الغربية واللسان العربي، مما يؤكد ثقافته الموسيقية الواسعة، وإدراكه الجيد لمواطن قوة الموسيقى الجزائرية، التي تجمع بين الانتماء الأمازيغي الأفريقي، والبعد المتوسطي.
فكل من عرفه عن قرب أو تعرف عليه بعد رحيله، من خلال اللقاءات الصحفية القليلة التي أجراها، سوف يقر حتما بأن الموسيقى العالمية خسرت اسما فنيا مهما، وقيمة إنسانية كبيرة.
“إذا أردت أن تهاجر لا تختر فرنسا”
استحق النجم رشيد طه أن تنجز عنه وثائقيات، وتنتج له أفلام تخلد جزءا من موسيقاه ونضاله ومواقفه، وهي كثيرة، فحديثه عن الهجرة وفرنسا والتطرف والعنصرية يشعرك أنه لم يكن مغتربا بل منفيا، وأنه كان سياسيا لا مغنيا.
ربما يجهل كثير من الناس أنه رفض الجنسية الفرنسية، لكي لا يعامل مواطنا من الدرجة الثانية، وأنه وقف أيضا ذات يوم في وجه الرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتران” الذي وعد المتظاهرين سنة 1983 بحل مشاكلهم، وكان في مقدمة المناهضين للعنصرية من أبناء الجالية العربية في باريس.
لقد كانت مواقفه وموسيقاه صوت المهمشين العرب في الغرب، فقد عرف بدفاعه المستمر، ونضاله الشرس عن أولئك الذين أصابتهم أشكال العنصرية والاستغلال والتهميش، فانتقد اليمين المتطرف وفرنسا باستمرار في عقر دارها ومن منابرها الإعلامية.
ففي احدى اللقاءات الصحفية، وصف فرنسا بالبلد العنصري، الذي لا يتحدث عن العرب إلا إذا تعلق الأمر بالإرهاب أو كرة القدم، وهو القائل “إذا أردت أن تهاجر لا تختر فرنسا”، مع أنه هاجر إليها عام 1968، وتوفي بها عام 2018.
فوراء ذلك الصحفي الكاتب والفنان المناضل، يختبئ المثقف والمسيّس الذي يقرأ الأحداث جيدا، الملم بالثقافة الشرقية، السميع لأم كلثوم، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، والمستشهد في حديثه بقصائد الشعراء العرب القدامى.
فقد كان من أبرز المدافعين عن الموسيقى العربية، ولم يكتف بالدعوة إلى التجديد فيها، بل كان يقود المبادرة ويكسب الرهان، وتاريخه الفني شاهد على ذلك، ولنا في إعادته لأغنية “غنيلي شوي شوي” لكوكب الشرق خير دليل.
محطات استحقت أن تلتقطها السينما
رحل رشيد طه قبل أن يُتم عامه الستين بأيام قليلة، متأثرا بمضاعفات مرضه النادر (متلازمة أرنولد كياري)، ولم يكن يحب الحديث عنه، وهو عبارة عن تشوه خلقي يصيب المخيخ المسؤول عن التوازن، ويسبب اضطرابات عصبية، ولم يعرف كثير من الجماهير حقيقة ذلك إلا بعد رحيله.
لم يحرك خبر وفاة رشيد طه مشاعر محبيه فحسب، بل أثار اهتماما واسعا في الإعلام الغربي والعربي، مما زاد رغبة الناس في معرفة المزيد عن هذا الفنان الذي رثاه كبار الفنانين والموسيقيين، وتقصي سبب التأثر الكبير الذي ظهر على المعجبين به وبفكره وأغانيه، فتنحت “يا الرايح” و “يا المنفي” جانبا، تاركة المجال لاكتشاف جوانب أخرى من شخصيته وحياته التي ظلت مجهولة عند العامة.
فحياته لم تكن مثالية لمجرد أنه عاش في أوروبا، وحظي بفرصة رؤية العالم، بل كانت مليئة بالتحديات والنجاحات أيضا، وقد حصد ثمارها في نهاية التسعينيات، وتوجت تراكم جهود فنان متمرس، يدرك تماما مع من يتعاون فنيا، ويحسب خطواته جيدا، مما جعل أعماله تحقق صدى واسعا، وترسم ملامح جديدة لمساره وأعماله، وتخلد تلك الروائع الفنية.
من الجدير بالذكر أن رشيد طه من مواليد 18 سبتمبر/ أيلول 1958، ببلدة سيق (معسكر) غرب الجزائر، وانتقل مع عائلته للعيش في فرنسا وعمره لم يتجاوز 10 سنوات. وقد بدأت علاقته بالفن بتأسيس فرقة “بطاقة إقامة” سنة 1981، وبعد ثلاث سنوات توج هذا التعاون بإصدار أول ألبوم لهم.
ثم واصل مسيرته الفنية منفردا، وأصدر عدة ألبومات، منها “ديوان” و”صنع في المدينة” و”زوم”، وكان ألبوم “الشموس الثلاث” الأبرز والأنجح والأكثر مبيعا، لكن القدر لم يمهله بعض الوقت لإصدار أخر ألبوماته “أنا إفريقي”، وكان يستعد لطرحه قبل وفاته.
أما الحفل الأسطوري الذي أحياه مع الشاب خالد وفضيل، فسيبقى لحظة فنية فريدة قلما تتكرر، وستظل راسخة في سجل ورصيد رشيد طه، فقد تألق من جديد وهو يبعث “يا المنفي”، فأبهرت العالم مرة أخرى، وفتحت جراح التاريخ.
“يا المنفي”.. رواية الشاهد المجهول عن منفيي كاليدونيا
كثيرة هي الأغاني التي يجهل الناس مصدرها ومؤلفها، وقد تسبب ذلك بضياع جزء كبير من التاريخ الحقيقي لبعض الوقائع والأحداث والتراث الشفوي وحتى المدون، فلا يعرف اليوم لمن تعود ملكيته وأحقيته.
وفي هذا السياق، وجبت الإشادة بدور الفن في حفظ التاريخ، وإعادة كتابته بأمانة وبأشكال مختلفة، تماما كما حدث مع أغنية “يا المنفي”، التي عجزت المراجع عن تحديد هوية صاحبها، وما هو مؤكد أن وراء هذه الأغنية تاريخ واحدة من أهم الثورات الشعبية (ثورة المقراني).
تتواتر الروايات على أن صاحب الأغنية أحد الجزائريين الذين أسرتهم فرنسا في ثورة الشيخ المقراني، وقد نقل من قسنطينة إلى سجون الاحتلال الفرنسي، ثم نُفي إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة، وهي مستعمرة فرنسية، تبعد عن الجزائر نحو 22 ألف كيلومتر، وتقع جنوب المحيط الهادئ في قارة أوقيانوسيا، فكتب عام 1871 رسالة مؤثرة بعث بها من منفاه إلى والدته، ولكنها وصلت للعالم ولكل الأجيال، وعُرفت القصة واشتهرت الأغنية وظل صاحبها مجهولا.
ثورة الكلمة في قلب أغنية كتب لها الخلود
لا يمكن الحديث عن القصة والرسالة والأغنية بمعزل عن ثورة المقراني والحداد، التي تؤكد المراجع التاريخية أنها خاضت أكثر من 300 معركة ضد العدو الفرنسي.
قصة “يا المنفي” توقفت عندها سلسلة “حكاية أغنية” على الجزيرة الوثائقية، وكان سبق لها أن اهتمت بقصص منفيي كاليدونيا في أكثر من مناسبة، بمجموعة من الوثائقيات المهمة، منها “كاليدونيا مظلمة النفي” للمخرج الجزائري عبد القادر مام.
وفي هذه الحلقة من “حكاية أغنية” التي أخرجها التونسي بلال المازني، حاولت الجمع بين الألم والصمود الموجود في الأغنية، وبين تاريخ واحدة من أكبر حركات المقاومة.
فثورة المقراني هي واحدة من المقاومات الشعبية التي أصابت فرنسا بالجنون وخلطت أوراقها، مما دفعها لتطبيق سياسة التهجير والترحيل القسري إلى كاليدونيا الجديدة، وهي سياسة صدرت ونفذت بحق شخصيات مهمة وبعض قادة المقاومة، لا بحق الجزائريين من عامة الشعب فحسب.
إن المتمعن في كلمات الأغنية يلاحظ أنها لا تصف رحلة النفي فحسب، بل تتضمن وصفا دقيقا ومؤلما لحال المُعتقل، ووضع المعتقلين المنفيين قسرا، والمسجونين ظلما، والمكبلين بسلاسل تزن قنطارا، الذين يُجبرون على أكل بقايا طعام تسبح فيه الصراصير.
كما تصف الأغنية حجم الدهشة والذهول الذي أصاب المنفيين مما وجدوه في تلك السجون، بعدما حُلقت رؤوسهم، ومُنحوا فراشا لا يقيهم برد الزنزانة والأرضية التي يفترشونها.
إنه ألم كبير يمكن استشعاره بمجرد الاستماع للأغنية والتمعن في كلماتها، التي تصف إيمانهم بالله وثقتهم الكبيرة به، وتعظيم صاحبها لمكانة الأم، فهو مع بعده وما يناله من ظلم وقسوة، يفكر في بث الطمأنينة في قلب الوالدة.
“يا المنفي”.. سلاح المجاهدين إبان ثورة التحرير
لحن المجاهد الفنان آكلي يحياتن أغنية “يا المنفي” وهو في سجن الاحتلال، وكان قد وُلد سنة 1933 بقرية آيت منداس في بوغني بولاية تيزي وزو، وقد اعتقلته السلطات الفرنسية مرات عدة، بتهمة جمع التبرعات لجبهة التحرير الوطني في فرنسا.
كان يحياتي أول من أدى الأغنية وسجلها بعد استقلال الجزائر عام 1962، فلم يكن يُسمح للفنانين خلال حرب التحرير بتسجيل الأغاني الوطنية والسياسية والثورية.
يقول الباحث والمؤلف الموسيقي سليم دادة إن آكلي يحياتن اشتغل على بعض النصوص والدواوين في سجنه ولحّنها هناك، وقد أدى أغنية “يا المنفي” بروح المجاهد، فهو يعرف جيدا الظروف الصعبة والمعاملة الوحشية التي تمارس على المساجين في المعتقلات، وما ينالهم من أشكال التعذيب وسلب حريتهم، ناهيك عن مصادرة أراضيهم وتخريب أملاكهم وإتلاف المحاصيل.
لم تبقَ هذه الأغنية حبيسة المنفى، بل غادرت جزيرة كاليدونيا الجديدة وحقول المزارعين والزمن أيضا، وشكّلت شكلا من أشكال المقاومة للشعب خلال المظاهرات، وكانت سلاح المجاهدين الثوار في الجبال إبان ثورة التحرير (1954-1962)، كما يقول علي الشريف المقراني، وهو أحد أحفاد الشيخ المقراني.
وقد كُتب لها فصل جديد من فصول الانتشار والنجاح مع رشيد طه والشاب خالد وفضيل، والكل يتذكر الحماسة التي قدمت بها “الشموس الثلاث” قصة أحد ثوار مقاومة المقراني، وأجمل ما قدم آكلي يحياتن، وكيف استقبلتها وتفاعلت معها الجماهير.
منفيو كاليدونيا.. قصة مأساوية لم تكتمل بعد
لن تكتمل قصة منفيي كاليدونيا إلا بحصول الأحفاد على الجنسية الجزائرية، وذلك مطلب تنظر فيه السلطات الجزائرية بجدية، ومع الوقت تتكشف وتظهر حقائق وقصص كثيرة.
ومن أحدث ما تُوصّل إليه رسالة من أحد المنفيين الجزائريين إلى جزيرة كاليدونيا، وهو من أبطال المقاومة الشعبية في ثورة الشيخ الحداد والشيخ المقراني، وقد عثر عليها حديثا مركز البحث في العلوم الإسلامية والحضارة، وهي وثيقة تاريخية أصلية ونادرة، يشرح فيها صاحبها الظروف القاسية والمعاملة الوحشية التي لقيها المنفيون.
وقد صرح مسؤول بمركز البحث أن كاتب الوثيقة كان قد فر من منفاه إلى البقاع المقدسة عام 1298 الهجري (1881م) وبقي هناك، ففي الرسالة يقول إن عناية الله قادته إلى مكة المكرمة، التي جاءها من أرض لم يذكر فيها اسم الله.
ظل مصير هذا الرجل مجهولا لدى المؤرخين، فالكتابات التاريخية تشير إلى استفهام كبير حول نهايته، ويتعلق الأمر بأحد أبناء الشيخ الحداد، وهي وثيقة أخرى تكشف محاولات الجزائريين الهروب من الجحيم الذي وجدوه في منفاهم، وتعكس رغبتهم الشديدة في العودة إلى الوطن تحت أي ظرف.
ويتطرق بعض المراجع التاريخية إلى المصير الصعب الذي واجه هؤلاء المنفيين خلال رحلتهم التي مرت بعدة مسالك، فمنهم من أُلقي في عرض البحر والمحيط، ومنهم من تُوفي متأثرا بالجوع والبرد، وتلك مواقف لم ترصدها الأغاني، بل تكفلت بها كتب التاريخ واكتفت بعض الوثائقيات بسردها.
وظلت “يا المنفي” أغنية خالدة في الذاكرة والوجدان، ومرجعا واستثناء وحقيقة تاريخية تربط الأجيال ببعضها.