أبناء فلسطين الداخل.. غرباء على أرضهم
أن تكون غريبا في بلد ما، فقد تعيش شعورا صعبا، وقد تشعر بالضيق والعزلة، فلا أنت تعرف الناس هناك، ولا أنت تستطيع أن تجاريهم في طريقة عيشهم بسهولة. لكنّ الأدهى والأمرّ أن تكون غريبا في أرضك ووطنك وبين أهلك، وليس لك ذنب إلا أن شرذمة من الناس جاؤوا من آخر الدنيا واحتلوا بلدك، وسرقوا ماضيها وحاضرها، تاريخا وجغرافيّة، ثم قالوا لك: نحن أصحاب الأرض وأنت غريب بيننا.
أنتجت الجزيرة الوثائقية هذا الفيلم، وعرضته على شاشتها بعنوان “غريب في بلادي”، وهو يتناول حال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، ويطلق عليهم فلسطينيو الداخل، وعرب الداخل، وعرب إسرائيل، وعرب 1948، لكنهم -مهما اختلفت تسمياتهم- سيبقون أهل البلاد الأصليين، أما الذين احتلوا البلاد ببنادقهم وعلى ظهور الدبابات، فهم قومٌ طارئون، وسوف يرحلون، طال الزمن أم قصر.
عرب بلا هوية.. سرقة الجغرافيا وتزييف التاريخ
نلتقي مجموعة من الشباب الفلسطينيين من عرب الداخل، أخذوا على عاتقهم القيام بمبادرات ومشاريع بناءة، من شأنها الحفاظ على الهوية العربية الفلسطينية، وإفشال المخططات الصهيونية لطمس هذه الهوية، ومحاولاتهم المحمومة لسرقة التاريخ والحضارة والثقافة، مثلما سرقوا الجغرافيا من قبل.
عبد المجيد محمد توفيق إغبارية، هو فلسطيني عربي مسلم يسكن مدينة أم الفحم، وحنان الصانع من بئر السبع، ومقبولة نصار من عرّابة وتعيش في حيفا، وجميعهم يحملون هوية مدنية إسرائيلية كُتب عليها في مكان الولادة إسرائيل، دون ذكر المدينة أو القرية الفلسطينية التي ولدوا فيها. وتلك محاولة من المؤسسة الإسرائيلية، لطمس هويتهم العربية الفلسطينية. كلهم يتحدثون عن نضالهم للحفاظ على التاريخ والميراث والهوية الوطنية، وحتى لا يصبحوا غرباء في بلادهم.
وهناك 150 ألف إنسان فلسطيني عايشوا النكبة، وصمدوا في أرضهم، حتى أصبحوا اليوم مليون و200 ألف إنسان، يعيشون في هذه البلاد، محاولين حماية ما بقي من تراث وطنهم، مقابل ثمن يدفعونه، وهو حمل الجنسية الإسرائيلية. لكن هويتهم الحقيقية أكبر بكثير من هذه البطاقة، فهي لا تعني شيئا بالنسبة لهم.
يقول إغبارية: أعمل في مؤسسة الأقصى للوقف والتراث، وهي مؤسسة تحافظ على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القرى المهجرة، هناك حوالي 450 قرية مهجرة من قرى 1948، والمقدسات فيها مستهدفة من قبل المؤسسة الإسرائيلية، لما تحويه من معانٍ وتعبير عن الهوية الوطنية الفلسطينية، فالمقابر مثلا تحمل بصمات وآثارا وامتدادا تاريخيا لأجدادنا الفلسطينيين، ويجب الحفاظ عليها.
ويعمل إغبارية حاليا على ترميم مسجد قرية قاقون المهجّرة في قضاء طولكرم، ومقبرة مدينة بيسان المهجرة، وكذلك مسجد قرية عشي المهجرة في قضاء الخليل. وهو يقول: من المحزن جدّا أن أدخل مسجدا، فأجد فيه مخلفات الأبقار وبقايا عظامها، فأنا أجد صعوبة في تقبل رؤية المسجد الذي هو مكان صلاتي وتعبدي، يتحول إلى حظيرة للأبقار.
التعليم والتوثيق.. وسائل مواجهة طمس الهوية
تُعرِّف مقبولة عن نفسها قائلة: أنا أخصائية اجتماعية ومصورة للقرى المهجرة، ومذيعة في إذاعة الشمس، أنادي دوما ألّا نفقد الأمل بحق العودة، وأن يبقى حلما نسعى إلى تحقيقه. أنا الآن في طريقي إلى مخيم العَزَّة في بيت لحم، وسيكون هناك عرضٌ في النادي لصور بعض القرى المهجرة، ولاحقا ستُعرض صور من قرية بيت جبرين المهجرة، التي يسكن أهلها هذا المخيم اليوم.
ثم تخاطب الحضور قائلة: إنها وسيلة للحفاظ على تاريخنا، فهذه مثلا صورة خربة يَردا من قضاء صفد قرب الجولان، يظهر فيها نهر القرية، وخانٌ كان يستخدمه العمال الذي كانوا يأتون للعمل هنا. وأنتم يا آل العَزَّة، ماذا تقترحون أن أصور من قريتكم بيت جبرين عندما أذهب إليها؟
فيجيبها بعض أهالي المخيم: هنالك مدارس للذكور والإناث، ومسجد ومحكمة وعيادة صحية ومركز للشرطة، وكلها موجودة إلى الآن، في حين تعطيها الحاجّة هندة العزة خريطة رسمتها بيدها، تبين مدخل القرية من جهة الشرق، والأماكن الباقية في القرية.
ويقترح الصحفي سليم أبو جبل تصوير قرية الرمثانية في الجولان، فآثارها موجودة إلى الآن دون تغيير، وهنالك 120 قرية أخرى مهجرة في الجولان، حوّلها الاحتلال إلى منطقة عسكرية مغلقة. أما حنان الصانع، فتعمل في قرية قصر السر في صحراء النقب، ومن خلال جمعية سدرة النسائية، افتتحت صفّا لتعليم اللغة العربية والعبرية والحساب لنساء القرية.
تقول حنان: لا يطبق التعليم الإلزامي الإسرائيلي في كثير من القرى العربية في النقب، وهنالك 90% من نساء النقب عاطلات عن العمل، و70% من النساء فوق الـ30 لم يتلقين تعليما، والسبب الأساسي عدم توفر الخدمات في قرى البدو، وبُعد المدارس عنهم وقلة المواصلات، فبعض الشباب يذهبون للمدارس، بينما تبقى الإناث لرعي الغنم.
بدو النقب.. حفاظ على الأرض وإهدار للحقوق المدنية
معلومٌ أن التاريخ هو عماد الهوية الثقافية لأي أمة، لذا عمدت الحكومات الإسرائيلية لاستعمال كافة الوسائل الإرهابية والجرائم والاعتقالات، لتزييف التاريخ، وتغييب الرواية الفلسطينية، ومنع الفلسطينيين من معرفة تاريخهم، فالنكبة -مثلا- تُدرَّس للأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء بوصفها استقلالا إسرائيليا، وأن الفلسطينيين غادروا بيوتهم عام 1948 طوعا وهربا.
يقول عبد المجيد محمد توفيق إغبارية: كان والدي -رحمه الله- يأخذنا كثيرا لزيارة قرية اللجون التي هجّر منها، فكان يشرح لنا عن ذكرياتها، ويخبرنا بقصة عمي الذي استشهد، لا لذنب إلا لأنه تشبث بأرضه. كان والدي يخاطب في الأرض الحجرَ والشجر كأنها تسمعه، ثم يجهش بالبكاء. واليوم تحولت أرض أبي لمزرعة دواجن وحبش، ومن سخريات القدر أنني لا أستطيع دخولها، في حين تعيش فيها الدواجن والغرباء.
وتقول حنان: مات أجدادي من أبي وأمي في حرب 1948، والذين بقوا بعد النكبة سكنوا في 10% فقط من مساحة النقب، وما زالت الحكومات الإسرائيلية تستكثرها عليهم. فأصبح همّ البدو الأكبر هو المحافظة على ما بقي لهم من الأرض، حتى لو كان ثمن ذلك التنازل عن الخدمات الأساسية من صحة وتعليم واقتصاد، فالأرض تمثل هوية الساكنين عليها.
مدينة صفد.. مساجد حوّلت معارض في عاصمة إسلامية
يزور الفيلم زرنا مدينة صفد برفقة عبد المجيد إغبارية، وكانت عاصمة للدين الإسلامي قبل الاحتلال، ففيها الأئمة والعلماء والأدباء، وكان فيها 14 مسجدا، وأمست اليوم وطنا لقوم جاؤوا بالسلاح من وراء البحار قبل 60 عاما فقط، وصارت محرّمة على أهلها الذين سكنوها آلاف السنين من قبل.
كما زرنا أحد مساجدها، فوجدنها أصبح معرض لوحات فنية، وحين حاول إغبارية مجادلة العمّال هناك متسائلا: كيف يتحول مكان العبادة إلى معرض لوحات؟ كان ردّهم أن السلطات سمحت بتحويله منذ 50 عاما، وعليك أن تخاطب البلدية إذا كان لديك اعتراض.
ثم واجهه بعض اليهود في المكان قائلين إن هذه بلادنا، ونحن أحرار في التصرف بها، ولا حقّ لكم أيها المسلمون، فأجابه إغبارية: من السهل على الذين سرقوا الأرض أن يسرقوا التاريخ كذلك.
“وجودنا هنا أكبر رد على مزاعم الصهيونية”.. محورية النكبة
وفي حيفا تجتمع مقبولة نصّار مع عدد من الزملاء يحملون هَمّا واحد، وهو الحفاظ على الهوية الفلسطينية من الضياع ومحاولات المحو المتعمد، فيقول الصحفي هشام نفّاع: مجرّد وجودنا هنا هو أكبر رد على مزاعم الصهيونية. ونحن هنا تجمعنا القضايا المتعلقة بالنكبة، كالاحتلال واللجوء والشتات والتمييز العنصري الذي يتحول بسرعة إلى نظام فصل عنصري، فالنكبة حدثٌ تتبلور عليه جميع أحداثنا واهتماماتنا.
وتقول لورا حوا، وهي منتجة أفلام: كل ذكرياتي وأفراحي وأحزاني مرتبطة بمنطقة “كفر برعم”، القرية التي هُجِّر منها أهلي، وكنا نزورها في كل المناسبات. فالنكبة والتهجير سردية متأصلة في تفاصيل حياتي وتصرفاتي اليومية. وبالإضافة لتغييب الرواية الفلسطينية وحقيقة النكبة، هناك الكثير من المغالطات بالنسبة لهويتنا الفلسطينية، وهو ما يواجهنا منذ بداية تعليمنا المدرسي.
وتقول مقبولة نصّار: لم أتعلم أي شيء عن القضية الفلسطينية ورموزها، ولا عن النكبة في المدرسة، أما اليهود فيتعلمون أشياء عن النكبة والثورات الفلسطينية أكثر مما تعلمت أنا، ويرسخون في أذهانهم السردية الصهيونية عن هذه الأحداث.
وحين تقدمت حنان لامتحان الدين الإسلامي، فوجئت أنها حصلت على علامة 30% فقط، وعندما سألت المعلمَ أجابها أن المعلومات التي كتبتْها تغاير المناهجَ التي وضعتها الدولة. وفي الخلاصة، فسياسة التجهيل بتاريخ فلسطين وسكانها العرب الأصليين، وثقافتها العربية الإسلامية، ومحاولة طمس كل ما يربط الناس بجذورهم التاريخية، هي ديدن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
“هذا المحتل لا يريد تعايشا ولا سلاما”.. هبّة أكتوبر
في هبَّة أكتوبر، أو انتفاضة الأقصى عام 2000، قتلت القوات الإسرائيلية 13 شابا فلسطينيا من عرب الداخل، خلال مظاهرات منددة بالعدوان الصهيوني في الضفة الغربية المحتلة والقدس، وهو ما كان بمثابة تصريح رسمي على أن فلسطينيي الـ48 هم مواطنون يعيشون على أرضهم دون أدنى حقوق المواطَنة.
وتتذكر مقبولة تلك الأيام، فتقول: كنت في عرابة أثناء هَبّة أكتوبر، يومها قُتِل شابّان من أبناء حارتي، وكانت هناك مواجهات فلم أستطع المغادرة، وفي تلك اللحظة التي رأيت فيها جثامين الشهداء تلاشت لديَّ كل الأفكار التي كان يروج لها الإسرائيليون عن التعايش والاندماج بين العرب واليهود.
وقال عبد المجيد إغبارية: جاءت هذه الأحداث لترسخ قناعاتي أن هذا المحتل لا يريد تعايشا ولا سلاما، بل تتمحور سياساته حول طرد كل الفلسطينيين من أرض فلسطين التاريخية.
وقالت حنان إنها عندما اعتُقل خطيبها أثناء الانتفاضة، وبعدما لوحق بالقضايا حتى قُيدت حركته في المنزل، أدركت أنهم سيبقون مطارَدين من أجهزة دولة اليهود، لا لشيء إلا لكونهم عربا.
المباني الأثرية.. قرى مسيّجة ودور عبادة مهملة
من مظاهر طمس الهوية والتهميش، ترك المباني الأثرية وأماكن العبادة دون صيانة أو ترميم حتى تؤول إلى السقوط، ويعاقَب في المقابل من يحاول إصلاحها. ومن المظاهر أيضا إلغاء خانة “القومية” في بطاقة الهوية الإسرائيلية الجديدة، بحيث يصبح المواطنون العرب بلا هوية عربية، كما يشترط على البدو أن يتنازلوا عن كامل أرضهم، مقابل السماح لهم ببناء منزل على جزء بسيط منها.
وصلت مقبولة إلى قرية جبرين، فوجدتها كما وصفتها أم يونس في خريطتها، وقد حوّلتها سلطات الاحتلال إلى “حديقة وطنية” مسيّجة، وكان أفراد الشرطة يمنعون مقبولة من الدخول كلما حاولت تخطّي السياج، لكنها استطاعت بعد لأي الدخول والتقطت بعض الصور، لتعرضها فيما بعد في نادي مخيم العَزّة.
تقول مقبولة: أسير في الشوارع والطرقات الوعرة في كل مدن وقرى الداخل الفلسطيني، أحدثها وتحدثني أمشي بها كفلسطينية على أرضها، أحاول أن أبقى قريبة منها، لأنني في اللحظة التي أحس أنني غريبة عنها أو أنها غريبة عني، فحينئذ تنجح مخططات الاحتلال الصهيوني في محو هويتي.
وتقول والدتها سمية توفيق حوراني، وهي من قرية حطين من قضاء طبريا: أتذكر جيش الغزاة الصهاينة واقفا في تلك الناحية، يستهدف بالنار أي شخص يحاول دخول المنطقة. كانت حطين من أخصب مناطق فلسطين، فيها المياه والخُضرة والطقس اللطيف. وهم اليوم يجرفون الأراضي ويزيلون البيوت، ويمحون كل أثر للقرية، ويحولونها إلى مراعٍ للأبقار والأغنام.
“نحن ننتمي لهذه الأرض مهما غيروا شكلها أو هويتها”
ويقول عبد المجيد إغبارية: نحن -معشر العاملين في مؤسسة الأقصى لترميم المقدسات- مستهدفون، فلقد اعتُقلت أكثر من مرة بسبب طبيعة عملي هذه، وبسبب تعاملهم الهمجي معنا أزداد تمسكا بقضيتي والدفاع عنها، والآن اعتُقل العاملون في مشروع مسجد قرية عشيش، ومع ذلك فنحن مستمرون في عملنا للدفاع عن هويتنا، وحتى لو اعتُقل أحدنا فهناك آخرون سيحملون الراية من بعده.
ويضطر كثير من السكان العرب لإرسال أطفالهم إلى رياض ومدارس يهودية، لعدم توفر البدائل العربية في مناطقهم، ولا سيما في مناطق البدو، وهذا يخلق تحديا ثقافيا كبيرا على الأهل من أجل أن يغطوا نقص التوعية لأبنائهم. لكن مبادرات الشباب -على قلّتها- تحاول أن توجد مناخا ثقافيا في المجتمعات العربية، لتقويتها أمام الهجمة الثقافية الصهيونية الشرسة.
أثمرت جهود حنان صانع، وحان موسم القطاف، وفي حفل تكريم خريجات فوج 2009 من مشروع تعليم الكبار، تحدثت حنين زعبي، وهي نائبة في الكنيست عن المجتمع العربي: نحن ندفع ضرائب كما يدفع اليهود تماما، فليس من حق الحكومة الإسرائيلية أن تنفق ضرائبنا لتطوير المشاريع اليهودية فقط، فالدولة تنفق 1% فقط من ميزانية الاستثمار في تطوير المناطق الصناعية للعرب.
ونجحت مقبولة نصّار في إقامة معرض لصور قرية بيت جبرين المهجرة في نادي مخيم العزة، حيث يسكن المهجّرون من القرية، فرأى الأهالي أطلال قريتهم التي طردوا منها قبل أكثر من 60 عاما، واختلطت لديهم مشاعر الفرح ودموع الحزن وهم ينظرون إلى صور قريتهم.
هذه المعارض تحيي في الحاضرين الأمل، وتمنحهم قوة للدفاع عن حق العودة، وتنعش أحلامهم بالعودة إلى القرى والمدن التي هُجّروا منها، “فنحن ننتمي لهذه الأرض مهما غيروا شكلها أو هويتها، وهي باقية في ملكنا وعهدتنا ما حيينا” كما ختمت مقبولة نصّار حديثها في نهاية المعرض.