“الغابة”.. لاجئون على عتبات أبواب عائلة هربت من جحيم العالم
لم يعد هناك مكان آمن في العالم، لا يوجد مكان مثالي، هما لم يرغبا حتى بمكان مثاليّ، بل مكان آمن بعيد عن حياة معاصرة شائكة ومضطربة وعالم مأزوم. اليوم لم تعد هناك قدرة على الاحتمال، وحان أوان مراجعة الحسابات.
يسعى الزوجان “آسيا” و”مارك” جاهدين لبناء حياة أفضل لأنفسهما ولأطفالهما الثلاثة، وقد انتقلا إلى أقدم غابة في أوروبا ليعيشوا هناك، وهي على طول الحدود الشرقية لبولندا، وتفصلها عن روسيا البيضاء. لكن هل يستطيعون متابعة العزلة والابتعاد عن مشاكل المحيط، وتجاهل أزمات العالم؟ وهل يستمرون بالعيش في مكان كان جنتهم الموعودة، لكنه بات جحيم آخرين؟
ها قد أصبحت أيام الهدوء محدودة لهذه العائلة مع وجود لاجئين على تلك الأرض غير مرحب بهم من طرفَي الحدود، إنهم مهاجرون غير شرعيون تُحظر مساعدتهم بموجب قوانين بلدهم. لكن كيف يرفض المرء مساعدة المحتاج؟ هل هذا ممكن؟
تتناول المخرجة البولندية “ليديا دودا” هذه المعضلة الأخلاقية في فيلمها الخامس “الغابة” (Forest) الذي عُرض عام 2024 في قسم المسابقة الدولية في مهرجان سالونيك الدولي للسينما الوثائقية (من 7-17 آذار/ مارس). وهي ترصد قضية تناولتها أفلام أخرى عدة في السنوات الماضية، وأهمها فيلم البولندية “أغنيشكا هولاند” الروائي “الحدود الخضراء” (Green Border) الذي عرض عام 2023.
لكنها قضية بدت في هذا الفيلم على نحو مغاير، لما خلّفته من أثر مباشر على حياة آخرين ليسوا بالضرورة مرتبطين بها. بنظرة حميمية تُوازن فيها المخرجة “دودا” بين الشعري الآسر والشخصي والإنساني العميق، وبين ما هو سياسي، وتقدم فيلما يتردد صداه متجاوزا التصريحات الجوفاء.
لاجئو روسيا البيضاء.. أرواح بشرية يتقاذفها حرس الحدود
على مدى سنتين ونصف منذ عام 2021، تابعت المخرجة حياة هذه العائلة، وخلال هذه الفترة نفسها وجد كثير من اللاجئين -معظمهم من الشرق الأوسط- أنفسهم محاصرين في منطقة معزولة لا يجدون خلاصا، بعد أن شجعهم رئيس روسيا البيضاء “ألكسندر لوكاشينكو” على الوصول إلى الحدود، مع وعد بالتوجه إلى الاتحاد الأوروبي، لكن حراس الحدود البولنديين كانوا يصدونهم مرارا وتكرارا، وغالبا ما يكون ذلك عنيفا.
كان هؤلاء الحراس حين يلتقطون أحدا يرمون به إلى روسيا البيضاء، والرمي وصف مخفف للتعبير عن الأمر، وهكذا يفعلون بوحشية في الجهة المقابلة، يتراشقون الأرواح البشرية دون اكتراث بأدنى المشاعر الإنسانية.
وهكذا أصبح اللاجئون عالقين بشكل دائم في منطقة عازلة بين البلدين، حيث لا جمعيات ولا ناشطون ولا مساعدات، وحيث يُحظر على السكان المحليين تقديم المساعدة بموجب القانون. لقد تُرك هؤلاء لوضعهم جائعين عطشين مرضى في ظروف شديدة القسوة.
غابة الضباب.. منزل ثانٍ غني باللهو والاكتشاف
لا يبدي الفيلم شيئا من كل هذا، بل يُشار إليه بكلمات قليلة من قِبل العائلة، ويُعرف بأثره الجليّ على حياتها، فلم يعد المكان جنتهم، وبات العيش كالسابق مستحيلا، وهناك بشر حول يعانون هذه المأساة.
بأسلوب غير مألوف في الأفلام الوثائقية، تختفي المخرجة وراء الكاميرا مع مصورها، تاركةً الحياة تعاش كما اعتادت الأسرة قبل هذا الطارئ وبعده، فيُبرز الفيلم أسلوب عيش وما تعنيه الطبيعة لأسرة تركت كل شيء وراءها، لتحتمي بها من عالم معاصر وتكتشف أسرارها.
ليست الغابة لدى أطفالهم الثلاثة مجرد ملعب واسع، بل هي بمثابة منزل ثانٍ، لذلك تقضي الكاميرا -بتصويرها البديع (روزانا زكارا هاسيري)- وقتاً تتابع المناظر الطبيعية الخلابة لهذه الغابة الشديدة الكثافة، المغطاة بضباب يضفي عليها غموضا إضافيا، من دون أن تغفل المزاوجة بين كثافتها وجمالها وبين أخطار محتملة في أرجائها.
يرى الأطفال السعداء في الغابة محيطا غنياً للهوهم واكتشافاتهم، أمّ محبة تهتم بشؤونهم وتدرسهم وتقرأ لهم الحكايات، وأب يعلّم العمل اليومي الضروري للاكتفاء الذاتي من إطعام الدجاج وجمع العسل من خلايا النحل، ويدرّب بجولاته في الغابة على مراقبة الحيوانات والنباتات، ومتابعة ما التقطته ليلا عدساتهم المثبتة في عمق الغابة. كانت الحياة التي خلقتها الأسرة لنفسها مثالية، ففيها ارتباط بالأرض وتأمل في سحر الطبيعة ومخلوقاتها.
أزمة اللاجئين.. أجساد جديدة ترصدها عدسات العائلة
مع بدء أزمة اللاجئين، دخلت أجسام جديدة عدسات العائلة، أطياف لا تتحرك إلا ليلا، هربا أو بحثا عن طعام، وظهرت معها آثار أخرى مبعثرة على الأرض؛ حقيبة متروكة وأوراق وأغطية… كأن أصحابها رحلوا على عجلة، فلم يسنح لهم الوقت لجمع حوائجهم على ضرورتها.
كانت تلك الجولاتُ في الغابة وتعليقات الأطفال والأب المختصرة وسيلةً ملائمة، لتعبر عن الأساسيات في الفيلم دون شرح كثير. لقد أدرك الأطفال أن هؤلاء الذين ظهروا فجأة في محيطهم يعيشون حياة قاسية، فكيف ينامون في هذا البرد تحت أغطية قليلة، وكيف يؤمّنون طعامهم، ومن أين يأتون بمياه الشرب؟ لقد فجع الأب حين علم أن وسيلتهم الوحيدة للشرب هي ماء النهر غير الصالحة.
ترصد المخرجة -في متابعتها لشخصياتها- أحوالها العاطفية، ومشاعرها المتراوحة بين هدوء ماض وقلق حاضر، وتلتقط بنظرة متعاطفة يشوبها إعجاب يوميات الأسرة، وتتابع تطورات مشاعرهم وأفعالهم بعد وصول اللاجئين، ومحنتهم أمام ما يجري لآخرين أمامهم. فبعد أن كان هذا المكان ملجأهم الأمين السعيد، كيف يمكنهما أن يحتسيا القهوة بهدوء مع كل ما يجري حولهما؟
“إذا لم أساعد هؤلاء، فلا أستطيع متابعة الحياة”
قررت الأسرة أن تقوم بواجبها الإنساني، ولم تتساءل طويلا عن النتائج التي ستنعكس عليها نتيجة مساعدتها للاجئين، تصور “المخرجة” الأم “آسيا” والأب “مارك” وهما يناقشان مخاوفهما ويبحثان عن الأفضل لأطفالهما. مع هذا الموقف “كان علينا فقط أن نفعل ذلك”، ففي هذه الحالة “لا نفكر في الوضع، بل نذهب ونساعد”، وقد فعلاه في الواقع، ثم أعلناه أمام جمهور سالونيك بعد العرض.
الأطفال أنفسهم يرون أن القواعد المتعلقة بعدم مساعدة اللاجئين قواعد غبية غير إنسانية، وقد أعلنوا عن هذا أيضا أمام الجمهور، حين طلب الصبي الصغير مكبر الصوت ليقول كلمته، ومما قال فيها: إذا لم أساعد هؤلاء، فلا أستطيع متابعة الحياة.
إنه فيلم مليء بالحنان والشاعرية والحبّ، على ما فيه من خلفية مؤثرة مظلمة، وهو يبين أسرة في أوقاتها السعيدة والعصيبة، في مرحلة على المرء أن يعيد النظر فيها بكل الخيارات الماضية نتيجةً للحاضر المفروض، وفي هذا تكمن جاذبية الفيلم، فمع أنه لم يبرز وجها واحدا للاجئين، ولم يخصص لهم إلا مشاهد نادرة يبدون فيها عبر عدسة الأب الليلية، فإن ظلالهم فرضت نفسها بقوة على الفيلم وعلى أبطاله.
نال الفيلم جائزة الإسكندر الفضية لإعطائه “صورة رصدية لعائلة تعيش خارج الزمان، ولكنها تواجه تحديات عالمية، نتيجة القوى التي تجلب الظلم والمعاناة إلى عتبة بابهم، وبدلا من الابتعاد وإدارة الظهر لما يجري، يُظهر الفيلم ارتقاء أبطاله فعليا إلى مستوى المناسبة، مؤكدا بذلك قوة الإنسانية البسيطة”.
غناء باسم فلسطين.. وقفات وتضامن وصرخات ضد العدوان
يذكر هذا الفيلم بأهمية التضامن ومسؤولية كل فرد أمام ما تفرضه القوى الكبرى الظالمة على الشعوب، وقد كانت أجواؤه متلائمة مع ما ساد من تضامن مع الشعب الفلسطيني في بعض أوقات المهرجان، من تظاهرة بسيطة مؤيدة أمام قاعة الأولمبيون الشهيرة التي تعرض أفلام المسابقة، للتنبيه لما يتعرض له الشعب الفلسطيني، إلى رفع لافتات خلال توزيع جوائز المهرجان.
ثم خلال حفل الاختتام الأخير (يجري الحدثان في نفس اليوم ولكن في وقتين مختلفين)، تردد اسم فلسطين مع ناشطين قطعوا سير الاحتفال، ليغنوا اسم فلسطين، ويرفعوا لافتات تطالب بوقف فوري لإطلاق النار، ووقف الإبادة في غزة.
كما لم تخلُ أيضا كلمات بعض الفنانين الفائزين من السير في نفس الاتجاه، وبذلك تبقى المهرجانات منصة هامة للتعبير عن إدانة الظلم والعدوان.