“العسل المر”.. رحلة من لبنان لزيارة صديق قديم في أعالي الهيمالايا

إذا هممت بإنجاز فيلم عن النحل وعن العسل، فستجد اختياراتك تتزاحم حتما. فهل ستختار منها ما يتعلق بعملها الهندسي المتقن وهي تصمّم بيوتها؟ أم بتنظيم العمل بين أفرادها المذهل لدقته، أم لغة تواصلها العجيبة؟ أم ستختار منها ما له علاقة بالبيئة، إذ ثبت إسهام النّحل في تشكيل دورة الحياة على الأرض، لكونه ناقلا للقاح مساعدا على النمو والتكاثر؟
بعيدا عن المداخل التقليدية تفاجئنا المخرجة يارا دبس بزاوية مختلفة في فيلمها “العسل المرّ” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية. فهي تجعل عمل صيادي العسل تعلة لها لتقتحم عزلة قرية “خوان بوخارا”، وتصوّر مظاهر من حياة أهاليها اليومية، وتجعل تبادل عُلب العسل بين الصديقين اللبناني والنيبالي رمزا للتواصل بين الشعوب المتباعدة الجغرافيا، المختلفة العادات والتقاليد، فتدعونا من هذه الزاوية الطريفة المبتكرة للغوص في حياة مجموعة بشرية منسية على سفوح جبال الهيمالايا النائية.
دعوة الضابط النيبالي.. رحلة لتلبية نداء الصداقة القديمة
يزوّدنا الفيلم في مشاهده الأولى بما نحتاج إليه لنفهم قصّته، فالشابة يارا التي تدرس الإخراج تغادر قريتها أنصار بجنوب لبنان، لتزور النيبال، نيابة عن دعوة تلقّاها جدّها من صديق له، بعد أن ساءت صحته وعجز عن تلبية الدعوة بنفسه.
فقد جمعت صداقة متينة بينه وبين الضابط النيبالي “ديل”، وكان قد عمل مدة في قوات اليونيفيل من بعثة الأمم المتحدة في جنوب لبنان، وكان منطلق صداقتهما ما يجمعهما من شغف بتربية النّحل. وتنتهي مشاهد الفيلم الأخيرة بعودتها لتحدث جدها عن تفاصيل رحلتها، وعن متابعتها لمغامرة جني العسل.

وليس في هذا البناء ما يجعل الأثر السينمائي عملا مميّزا، ولكنّ كل إثارته تكمن في مرحلة الوسط، عندما تحلّ يارا في قرية “خوان بوخارا”، وتشرع عدستها في عرض خصائص الحياة بالقرية المعلّقة في قمّة الجبل.
تكشف مشاهد وصولها التقاليد المحلية لقبيلة “الغروم” في استقبال الضيوف، وتبرز لنا كرمهم وانفتاحهم على الآخر، مع أنهم يعيشون حياة منعزلة في المناطق النائية، فقد اصطفت جميع النساء ليستقبلنها وهنّ يبتسمن ابتسامات لطيفة، تسهّل عليها الاندماج في محيطها الجديد وتكسر عائق اللغة، ثم يوشحن عنقها بعقود من الورود البرتقالية التي ترمز إلى الهندوسية.
موسم جني العسل.. حينما تنهض القرية من رقادها
كانت مشاهد حياة القرويين اليومية عنوانا لقيمة العلاقات الأسرية المتأصلة بينهم ودور المرأة المركزي فيها، فالجميع يتقاسمون أعباء العمل في انسجام بنشاط وتقديس للعمل، والنساء يتولين الأعمال المنزلية من سهر على تربية الأبناء وطبخ وحياكة، ويسهمن في أعمال الفلاحة في عالم بسيط هادئ يعيش على هامش الزّمن.

ولئن بدت أدوار النساء في القرية مماثلة لأدوار المرأة في أغلب المجتمعات القروية، فإن تضاريس البلاد الوعرة التي تشكّل محمية طبيعية يعيش فيها النّحل بكثافة، ستمنح الرّجال أدوارا غير معهودة لدينا، فتجعل جنيهم لأقراص العسل بين تجاويف الصّخور المنيعة مغامرة حقيقية.
فقد حل موسم ذلك النشاط الذي توارثته القبيلة، وجعلته مصدرا من مصادر عيشها، فارضا إيقاعا جديدا كسر روتين الحياة الرتيبة. ولا بدّ للرّجال من إعداد العدّة جيدا لهذا الحدث المهمّ.

ويمثّل خشب البامبو أساس كل آلة وإناء، فمنه تقدّ السلال التي تجمع فيها أقراص الشهد، ومنه تشكّل السلالم الطويلة، حتى تجمع بين المرونة والقوّة، وتضمن سلامة الصيّادين، فهم يتعلقون بها وهي تتدلّى بين الصخور الشاهقة ساعات كثيرة، وكل خطأ في تصميمها يعني نهاية حياة الصياد.
مقارعة الموت.. مغامرة ذات ذكرى سيئة بين السفوح
ترافق المخرجة الصياد “بوهو” وهو يستعدّ للمغامرة، ومع أنّ والده قد هلك في مهمّة مماثلة، فإنه يرى اختيار القبيلة له ليكون صيّادها شرفا لا يمكن رفضه، فيجلس مع مساعديه للتزود من خبرات الشيوخ، ولنيل مباركتهم، ثم يشد الرّحال إلى قمم الجبل بعد أن يودّع صغيريه.
يتحدّث الشاب عن مشاعره قبل بدء المهمة وعن الخطر الذي يتربّص به ببساطة تفاجئ المخرجة، فهو لا يكترث بالخطر ولا يريد أن يتذكر مآل والده، فثمة نداء داخلي يدعوه إلى خوض المغامرة، وإلى منازلة الموت، ليعيش نشوة النّصر في نهاية الرّحلة.

وأثناء الرّحلة وما يتخلّلها من مشاهد بديعة للصيادين المعلقين على سفوح الجبال، وهم يصارعون النّحل ويواجهون شراسته بصبر، أو يقطفون أقراص العسل، يشتدّ توتر النساء وقلقهن وهن يترقبن العودة المظفرة.
وليس لهنّ إلاّ التضرّع وإقامة الصلاة طلبا لسلامة أبنائهن. وقد كانت النهاية سعيدة هذه المرّة، فمع أن الحصاد لم يكن وفيرا، فإن الجميع يشعرون بالبهجة، ويُعلن الاحتفال الجماعي، وتنحر الذّبائح احتراما للطقوس وامتنانا للسماء.
فلسفة العدسة.. معانٍ عميقة تنتزع المتفرج من حياده
لقد كان الفيلم رحلة في المكان، أخذت المخرجة إلى عوالم بعيدة في شرق آسيا، وفي الآن نفسه كان رحلة في الفن السينمائي، وتمرينا موفقا لبناء قصّة عميقة الدّلالات.
فعلى مستوى صناعة المؤثر الدرامي، استطاعت يارا أن تلتقط تفاصيل حكاية قرية يواجه أهلها عدائية المكان بشجاعة، وأن تنتزع المتفرّج من حياده، فتحرك فيه مشاعر التعاطف مع المغامرين المعلّقين بين السماء والأرض والقلق على مصيرهم. وحوّلت حدث جني العسل من مورد للرزق إلى مكوّن من مكوّنات ثقافة الأهالي، وشكل من أشكال صراعهم مع الطبيعة القاسية لضمان البقاء.

وعلى مستوى التعبير عن الفكرة بصريّا كان الاختبار موفقا جدّا، فقد كانت تصور الطبيعة البكر والتضاريس الوعرة في مشاهد عامة، فإذا الكاميرا تتأمل العالم بدهشة، وتدفعنا إلى أن نفكر في كل ذلك البهاء، وكل تلك البساطة، وكل تلك العزلة.
فكل ذلك يعكس النبض الإنساني العميق، على خلاف الحياة المصطنعة في المدن، التي أفسدتها الحضارة بالصخب والتشنج والرّكض وراء إشباع حاجاتنا المادية. وعبر اللقطات المتوسطة كانت تركّز على الصيّادين، وهم يعملون على ترويض هذه الطبيعة الجامحة.
وحاصل هذا التقطيع الفنّي صورة للإنسان -وهو يعمل على تحدّي الصعاب- تُعْلمنا بأن الحياة الكريمة جديرة بأن تعاش، وأنّ تقسيم العالم إلى شطر متحضر وغني، وآخر متخلف وفقير، إنما هو تقسيم زائف، فلا مركزية للإنسانية، وحيث يوجد الإنسان توجد الحياة الحية بكل توهجها بصرف النظر عن حظّه من التقدّم التقني.
“العسل المر”.. أسلوب يتزين بأيقونات السينما العتيقة
ربّما ذكّرنا فيلم “العسل المر” بأكثر من عمل فني، فمن ذلك المسلسل المصري “العسل المر” الذي أخرجه عبد المنعم شكري (1966)، والفيلم اللبناني الذي أخرجه رضا ميسر بالعنوان نفسه (1964)، وأقصوصة “العسل المر” للجزائري بختي ضيف الله. والجامع بين هذه الأعمال جميعا هو المفارقة بين حلاوة الطموح ومرارة الواقع.

وفضلا عن ذلك، نجد تأثرا كبيرا بفيلم “رجل من آران” (Man of Aran) للسينمائي “روبرت فلاهرتي” (1934)، وهو رائد السينما الوثائقية. وتدور أحداث هذا العمل الرّائد في أرخبيل آران، قبالة سواحل أيرلندا، فيخوض الأب معركة شرسة ضد سمكة قرش في يوم عاصف، ومع أن العاصفة تدمّر زورقه، فإنه يتمكن من مغالبة الأمواج ويصل إلى السّواحل ويلتقي بعائلته.
يشترك الفيلمان في الحدث الرئيسي المتمثّل في الطبيعة القاسية مع سحرها الظاهر، وفي الرهان ضد الموت، وفي قلق النساء بالمنزل، وفي العودة المظفرة للصيادين بعد المغارات العاتية.

وأما القانون المشكّل للفضاء فيهما، فهو لطف وحنو يسودان الحياة العائلية، وعنف وشدة يحكمان المحيط الخارجي، والقانون المشكّل للصورة يماثل هنا وهناك، فيعمل على النّفاذ إلى أعماق الإنسان وكشف ما يحدوه من أمل وتحدّ وصبر وتصميم وتآزر مع الآخر.
أصدقاء الداخل.. جسر الكاميرا للتغلغل في حياة الشعوب
ما يحسب لكاميرا يارا أنها تأخذنا لنطل على مشارف زمن آخر، حيث الطبيعة الساحرة والطقوس المشتركة، وحيث الوجود البكر الذي يفرض على أهالي قبيلة “الغروم” التعاضد والعمل بقلب رجل واحد، لجني العسل الجبلي في جبال الهيمالايا.
وهذا ما يجعل الفيلم تبادلا للمجاملات بين صديقين قديمين في طبقته السطحية والمباشرة، لكنه في دلالته العميقة أكثر من ذلك بكثير، فقد جعلت المخرجة زيارتها تعلة لالتقاط تفاصيل حياة مجتمع آخر، تختلف ثقافته وتصوّره للحياة عن ثقافة مجتمعها.

ولا شك أنّ علاقة جدها بصديقه الضابط النيبالي قد أسهمت في تذليل العقبات التي تواجه السينمائيين في مثل هذه المواضيع، فالمجموعات الصغيرة المغلقة لا تقبل عادة بيُسر أن تُصوّر خصائص حياتها بحريّة، ووجود الشركاء المتعاونين الذين يسهّلون النفاذ إلى التفاصيل المميّزة ليس أكيدا، شأن الجد “ديل” وحفيدته والجدّة التسعينية المجدّة الباسمة دائما.
فقد تفاعلت هذه العناصر لتجعل الكاميرا تخترق بيسر هذا المكان المعزول عن العالم، وتعرّف بثقافة مختلفة، من غير أن تفاضل بينها وبين غيرها من الثقافات، وتعرض وجها من وجوه التنوع في هذا العالم متعدّد الثقافات، بعيدا عن مؤثرات العولمة، وعن فرض الأسلوب الغربي المادي تصورا أوحد للإقامة في الوجود، فكانت تنسج قصّة عميقة، تختزل قانون الحياة الإنسانية عامّة، فإدراك حلاوة العسل يقتضي أوّلا تجرّع مرارة عسر الطريق إليه.
أفلام الشعوب.. ثقافات وأعراق ترصدها السينما الإثنوغرافية
تكشف هذه المقاربة التي اعتمدتها المخرجة ما يمكن أن نسميه نزعة إثنوغرافية للفيلم، فالإثنوغرافيا (أو وصف الأعراق البشرية) مبحث يدرس المجتمعات الصغيرة أو الجماعات العرقية دراسة علمية ميدانية مباشرة، يكون فيها الباحث ملزما بالعيش مع المجتمع المدروس وقتا كافيا لملاحظة سلوك أفراده، بطريقة دقيقة موثقة ومعاينة مباشرة، حتى يفهم ثقافته.

وهذه الدراسات مناهضة للعنصرية، ترى أنّ ما هو ثقافي هو تاريخي بالضرورة، وأنه أُنتج ضمن شروط ما وأنساق ثقافية معيّنة، ولذلك لا تفاضل بين الثقافات، ولا تجعل بعضها أرقى من بعض.
وتأثّرا بهذه الدراسات نشأت السينما الإثنوغرافية لتقوم بهذا الدّور، لما للكاميرا من قدرة على التوثيق الذي ينوب عن الوصف في الدراسات الإثنوغرافية الأكاديمية.
من هذا المنطلق، تصنّف بعض الأفلام بالإثنوغرافية، مع أنّ مخرجيها لم يكونوا على وعي بنزعتهم تلك، ومنهم “روبرت فلاهرتي” الذي أتينا على ذكر فيلمه “رجل من آران”. وفي فيلمنا “العسل المر” تظهر هذه النزعة بجلاء.
ومع ذلك فقد كانت الكاميرا مترددة أحيانا، بين دهشة السائحة التي تبحث عن المشاهد البديعة، والتزام السينمائي الإثنوغرافي ذي الخلفية النضالية.
مأساة النحل.. القصة الأخرى التي نسيها الفيلم
تناولت المخرجة العسل بوصفه جسرا يقرّب بين الشعوب، فقد مثّل الرّابط الذي وثّق العلاقة بين جدها وبين الضابط النيبالي، وبعد غياب وتباعد كان العسل هو الهدية التي تبادلاها، فأعادا الصلة بينهما.
ولكن مع طرافة الزاوية التي انطلقت منها المخرجة، فإن زاوية أخرى كانت جديرة بأن تطرح، فالنّحل يواجه اليوم خطر الانقراض، بسبب كثافة استعمال المبيدات الحشرية، وهو كما نعلم من الملقحات التي تساعد النباتات على النمو والتكاثر، بما في ذلك المحاصيل الغذائية.

فقد ورد في تبرير منظمة الأمم المتحدة احتفالها باليوم العالمي للنحل أنّ “التلقيح عملية أساسية لبقاء أنظمتنا البيئية، فما يقرب من 90% من أنواع النباتات المزهرة البرية في العالم، تعتمد اعتمادا كليا أو جزئيا على تلقيح حيواني، فضلا عن اعتماد أكثر من 75% من المحاصيل الغذائية في العالم و35% من الأراضي الزراعية العالمية عليه، ولذلك فإن الملقحات تساهم بشكل مباشر في الأمن الغذائي، فضلا عن أنها هي مفتاح الحفاظ على التنوع البيولوجي كذلك”.
فخلف ملحمة الإنسان في صراعه من أجل البقاء، تكمن تراجيديا النّحل الذي يواجه الفناء.