“الشهرة الزائفة”.. تجربة تحمل 3 مغمورين إلى النجومية الوهمية في مواقع التواصل
تحت أشعة شمس لوس أنجلوس الذهبية، وعلى أنغام مقطوعة موسيقية أوبرالية، نرى مجموعة من الشباب، يقفون أمام جدار وردي اللون، يلقون رؤوسهم للخلف في ضحك مصطنع، ويقفزون في الهواء، يلتقطون صورا من كاميرات الهواتف التي يحملها أصدقاؤهم، أو يرفعون وجوههم إلى أجهزتهم ويلتقطون صورا ذاتية، في طقس شائع معاصر.
هذه المشاهد التي تبدو سعيدة، هي المشاهد الافتتاحية، للفيلم الوثائقي “الشهرة الزائفة” (Fake Famous) من إنتاج منصة “أتش بي أو” (HBO) عام 2021، وهو متاح للعرض في منطقة الشرق الأوسط على منصة “أو إس إن” (OSN).
يخبرنا “نيك بيلتون” كاتب الفيلم ومخرجه بصوته، أن هؤلاء الناس جاؤوا إلى لوس أنجلوس، لكن لم يأتوا للاستراحة والاسترخاء من صخب الحياة اليومية، بل لمواصلة الصخب.
فيلم “الشهرة الزائفة” أول تجربة إخراجية للصحفي “نيك بيلتون” المتخصص في المنصات الرقمية والشبكات الاجتماعية، ويغوص الوثائقي خلال 90 دقيقة في عالم المؤثرين، وتحديدا عالم النجومية المخادعة على وسائل التواصل الاجتماعي.
“أكثر الأماكن جاذبية لتصوير إنستغرام في لوس أنجلوس”
لقد أصبح الجدار الوردي في واجهة متجر “بول سميث” للملابس بشارع “ميلروز”، أحد أهم الوجهات السياحية في العالم، بفضل مظهره الخارجي الوردي الجريء، ويتوافد الزوار بكثرة إلى المتجر على أمل التقاط صورة مع الجدار، حتى أصبح “أكثر الأماكن جاذبية لتصوير إنستغرام في لوس أنجلوس”.
يقول “بيلتون” إن هؤلاء الناس ينشرون صورهم لاحقا على إنستغرام، وهم يبحثون عن الإعجابات التي تترجم إلى المزيد من المتابعين، وهي العملة الحالية لأهم شيء على وجه الأرض اليوم، مما يبدو أن الجميع مهوسون به. إنهم يريدون أن يصبحوا مشهورين.
الجدار الوردي
يُقدر أن ما لا يقل عن 100 ألف إنسان يسافرون إلى الحائط الوردي سنويا، لالتقاط صور فخمة ونشرها على إنستغرام، ومع شهرته واعتراف العالم به اليوم، فإن الجدار الوردي يأتي في المرتبة الثانية بعد سور الصين العظيم من حيث التصوير، كما يدعي “بول سميث” صاحب المتجر.
ينفق المتجر نحو 60 ألف دولار سنويا على صيانة الجدار والحفاظ عليه، ويقال إنهم يضطرون لإعادة طلائه كل ثلاثة أشهر، ولأن الجدار يحتاج إلى التنظيف وليس غسله بالخرطوم ممكنا، فإن عامل النظافة في المتجر ينظفه يدويا.
في حين أن الجدار الوردي قد يحظى بكل الاهتمام، فإن المتجر فارغ عمليا، لكن هذا ليس صادما، لأن المصورين هم في الغالب مراهقون وشباب، ولا يستطيعون تحمل تكاليف شراء الملابس الفاخرة.
ومعظم الزوار لا يهتمون بدخول المتجر أساسا، لذا قرر المتجر بيع الهدايا التذكارية المتنوعة، وتوزيع بطاقات بريدية ودبابيس مجانية، وتوفير المياه لمن يلتقطون الصور عنده إذا دخلوا، ويسمحون لهم جميعا باستخدام حماماتهم.
طموح الجيل الجديد
في الدقائق القليلة الأولى من الفيلم، ينقل لنا “بيلتون” بحزن نتيجة دراسة واردة في الوثائقي، وهي الرغبة الساحقة لهذا الجيل في أن يكون مؤثرا.
فمنذ وقت ليس ببعيد، عندما كنت تسأل طفلا عن طموحه عندما يكبر، كان يطمح في أن يصبح طبيبا أو رائد فضاء أو معلما أو رياضيا.
أما الآن، فقد أصبح عدد كبير جدا من جيل الألفية والجيل “زي” (Z) يطمحون إلى أن يكونوا مؤثرين مشهورين. وجيل “زي” (Z) هو مصطلح يقصد به الأفراد الذين ولدوا ما بعد العام 1997، كما وصفه مركز “بيو” للأبحاث (Pew Research Centre).
هل تريد أن تصبح مشهورا؟
إذا كنت تحلم يوما بأن تصبح إنسانا مؤثرا، أو أن تجمع مئات الآلاف من الإعجابات، أو أن يتعرف عليك ملايين المتابعين، أو أن تكون لديك علامة تجارية تمولك لقضاء عطلة فاخرة، فإن هذا الفيلم الوثائقي قد يجعلك تعيد التفكير، لأن معظم ما تراه على الإنترنت زائف، ولا أحسب أننا نفاجئك بهذا، بل سيكون الأمر مثل إخبارك أنه في نهاية فيلم “تيتانيك” ستغرق السفينة.
يبين لنا المخرج “نيك بيلتون” الحقيقة وراء الحسابات الأكثر متابعة على إنستغرام، ففيها صور لا نهاية لها متلاعب بها، ومتابعون غير حقيقيين، وحياة مزيفة، ورفاهية خادعة، إنها باختصار شهرة مصطنعة.
يدور مضمون الفيلم حول دعوة يطلقها “بيلتون”، يطرح فيها سؤالا واحدا على المشاركين المحتملين “هل تريد أن تصبح مشهورا؟” ومن يريد أن يكون كذلك سيشارك في تجربة اجتماعية كانت نتائجها المادة الخام لهذا الفيلم الوثائقي، لإثبات إمكانية شراء طريقك إلى الشهرة، وتزييف حياة الرفاهية لتحقيق مكانة في الشبكات الاجتماعية.
متابعون مزيفون وجيش من الروبوتات.. طريق الشهرة
من بين آلاف المرشحين الذين يريدون الشهرة، يختار المخرج 3 أفراد مجهولين، بهدف جعلهم مؤثرين ناجحين على إنستغرام، ويساعده فريق من الخبراء، منهم مديرو اختيار الممثلين، ومصممو أزياء، ومصورون، ومستشارون في وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد اختير 3 أفراد تختلف مساراتهم تماما، وكان انتقاؤهم بمعايير أساسية، منها أن يكونوا مؤثرين طموحين، ولديهم صفحات على إنستغرام بها عدد مخيب للآمال من المتابعين، وليست لديهم موهبة واحدة يمكن أن تكسبهم التقدير في ظروف أخرى.
ومن خلال التدريب والحيل، وشراء متابعين مزيفين وجيش من الروبوتات “للتفاعل” مع حساباتهم، يكشف لنا “المؤثرون” الجدد عجائب وتكاليف هذا النمط غير المتوقع والغامر من الحياة، وما يحدث حقا وراء كواليس شهرة المؤثرين، ويسلط الفيلم الضوء على الهوس بأعداد الإعجابات والمتابعين.
فهل يستطيع صانع أفلام أن يجعل 3 شباب أمريكيين مجهولين مؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي؟ الإجابة المحبطة هي نعم.. لكن كيف؟
أبطال الفيلم.. مهاجرون إلى مدينة النجوم في طلب للنجاح
اختار المخرج “بيلتون” ثلاثيا من لوس أنجلوس، وهم فريق مكون من الممثلة المغمورة “دومينيك دراكمان”، ومصمم الأزياء “كريس بيلي”، ومساعد وكيل عقاري يدعى “ويلي هاينر”، وقد صُور الفيلم في مدينة النجوم لوس أنجلوس.
تكافح “دومينيك” من ميامي بيتش لحجز أي تجارب أداء، وقد عملت في أفلام قصيرة تقدمها في مشاريع أفلام الطلاب، وتدعم حياتها بوظيفة يومية في بيع الملابس الرياضية، في حين تنتظر انطلاقتها الكبيرة في عالم التمثيل.
أما مصمم الأزياء الناشئ “كريس”، فهو أمريكي أفريقي، انتقل من أريزونا إلى لوس أنجلوس، على أمل تنمية علامته التجارية للطباعة على القمصان. ويرى أنه “يستحق الشهرة” لذاته.
وأما “ويلي” فهو مساعد متذمر لوكيل عقارات، وقد انتقل من أتلانتا سعيا وراء مجتمع أكثر راحة وقبولا لميوله الجنسي الشاذ. يقول وهو يقود سيارته، ويؤدي مهمات مزعجة لرئيسه المتطلب، إن الشهرة تبدو شيئا جيدا، والجميع يريدها، لذا فهو يريدها.
يبدو الثلاثة مختلفين تماما، ومع ذلك فإن الشيء المشترك بينهم جميعا هو تصورهم أن التحول إلى مؤثر سيغير حياتهم للأفضل، سواء في حياتهم المهنية أو مكانتهم الاجتماعية.
شراء المتابعين.. خوارزميات وهمية تتقمص دور الإنسان
يتصفح المخرج “بيلتون” موقع “فيمويد”، لشراء آلاف المتابعين المزيفين، أو الروبوتات للمشاركة في الفيلم، ويعد هذا الموقع من أشهر المواقع التي تبيع المتابعين المزيفين على وسائل التواصل الاجتماعي بأعداد كبيرة.
يقول “بيلتون”: إن المتابعين الروبوتات هم خوارزمية تتظاهر بأنها إنسان حقيقي على الإنترنت، وهذه الروبوتات أنشأها قراصنة ومبرمجون يكتبون برمجيات تجوب الإنترنت، لسرقة هويات عشوائية لا حصر لها، من خلال سرقة صور الناس وأسمائهم وسيرهم الذاتية.
قصر وطائرة مزيفة.. جلسات تصوير الرفاهية الكاذبة
بعد اختيار المتسابقين، شرع “بيلتون” في مهمة جعلهم مشهورين، فيجلب لهم مصففي شعر ومصورين محترفين لمساعدتهم في رحلة الشهرة.
ومن أكثر الأجزاء لفتا للانتباه وإثارة في الفيلم استئجارهم منزلا فخما لالتقاط صور فيه، حتى يتظاهروا بأنهم في عطلات فاخرة، وهدف ذلك جعل كل شيء يبدو حقيقيا، فهم يريدون أن يظن الناس أن هذه هي الطريقة التي يعيش بها المؤثرون (المزيفون).
ولزيادة عدد متابعي المؤثرين المزيفين، وجذب عروض من العلامات التجارية، تضمنت جلسات التصوير أيضا استئجار قصر بحوالي 600 دولار، وأستوديو طائرة خاصة وهمية مقابل 49.99 دولارا في الساعة.
مواقع تزييف العطلات الممتعة.. حيل المشاهير المضللة
يقول المخرج “بيلتون” إن عددا لا يحصى من المؤثرين الآخرين الذين يتابعهم كثير من الناس، يستخدمون حيلا مضللة لإنشاء محتوى اجتماعي يستحق المتابعة.
“إنهم يزيفون رحلات تخييم، حتى يستطيعوا لاحقا أن يربحوا رحلة تخييم مجانية مدفوعة التكاليف”.
“إنهم يتظاهرون بالمشي مسافات طوالا في “ريدوودز” حتى يحصلوا على معدات المشي.
يقول “بيلتون”: في الحقيقة، هناك آلاف من البرامج التعليمية على الإنترنت، للتظاهر بأنك في إجازة متقنة، في حين أنك في الحقيقة في غرفة نومك، وهناك أيضا تطبيقات ومواقع مخصصة لتعديل صور العطلات المزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي.
عصير تفاح وزبدة بالكاكاو وحوض أطفال.. تصوير الوهم
ننتقل إلى كواليس جلسة تصوير أخرى يظهر فيها “دومينيك” و”ويلي” وهما يشاركان في أنشطة عادية مثل احتساء المشروبات، وتناول الشوكولاتة بجانب حمام السباحة، متظاهرين أنهم في فندق “فور سيزونز”، والاسترخاء بسعادة على متن رحلة طيران دولية.
لكن كل هذا مجرد دخان ومرايا في الصور، التُقطت في تتابع سريع بمكان واحد، فالمشروب إنما هو عصير تفاح، والشوكولاتة قطع من الزبدة مغموسة في مسحوق الكاكاو، وحوض الاسترخاء الساخن المنقوع ببتلات الورد ليس إلا حوض استحمام بلاستيكيا للأطفال، ورحلة الطيران إنما هي مقعد مرحاض مرفوع عاليا أمام شاشة تلفزيون كأنه نافذة الطائرة.
وفي مشهد آخر، نرى “دومينيك” وهي تقود سيارتها، ويتطاير شعرها الناتج عن مجفف الشعر الموجه ناحيتها وهي تقف على جانب الطريق، كأنها تقود سيارتها وتجوب بها أمريكا.
ما بعد عرض الفيلم.. هل يستمر النجاح المزيف؟
بسبب تلك الصور الخادعة، انتقل الأبطال الثلاثة من 2500 متابع على إنستغرام، إلى عشرات الآلاف من المتابعين، وفي الوقت نفسه، بدؤوا أيضا يتلقون امتيازات من العلامات التجارية التي تتطلع إلى الظهور في منشوراتهم على إنستغرام، من النظارات الشمسية المجانية والمجوهرات، إلى حصص التدريب المجانية في صالة ألعاب رياضية خاصة في “بيفرلي هيلز”.
والسؤال هنا، هل استطاعوا أن يصبحوا مؤثرين حقا؟ وهل تغيرت حياتهم ومكانتهم الاجتماعية للأفضل؟ هذا يقودنا إلى نهاية الفيلم، دون إفساد الكثير مما حدث لهم بعد زيادة متابعيهم.
لم يشرح الفيلم كيف أكمل المشاركون في التجربة حياتهم، ولا نعرف ماذا حدث لهم بعد نهاية التجربة، وبعد عرض الفيلم ومعرفة أنهم كانوا مؤثرين مزيفين، نتساءل: هل أصبح المستقبل مشرقا، أم كان مخيبا للآمال، أم كان كارثيا. فهل نجاح التزييف يبقى نجاحا؟
فيلم “الشهرة الزائفة” هو بمثابة تذكير رائع بعدم مقارنة حياتنا بما نراه على منصات التواصل الاجتماعي، لأنها ببساطة ربما لا تكون حقيقية، وتذكيرنا أننا يجب أن نكون يقظين لذلك، وأن الماء في الواقع ليس أزرق، وأن قهوة الحليب لا تحتوي مثل هذه الرغوة الجميلة، وأن الجو ليس ساخنا دائما في الصحراء.