تاريخ فن الراي.. مخاض عسير ونجاح بلغ عنان السماء
تخطت موسيقى الراي جغرافيا المكان الذي ولدت فيه، فأصبحت تزاحم البوب والجاز، وتتعايش مع الهيب هوب، وتتفاعل مع الروك، وقد وُلدت جريئة وعرّضتها تلك الجرأة لقمع السلطة السياسية والدينية، فمُنعت في البيوت والإذاعة والتلفزيون، وتسببت كلماتها في نفور أغلب الجزائريين منها، فلا السلطة احتضنتها ولا الشعب رحب بها، مع أنها ولدت من رحم قصص البسطاء التي تتجدد ولا تكاد تنتهي.
بدأت تدريجيا مرحلة تهذيب النص، وتحول الرفض إلى تجاوب، وأخذ الراي ينتشر بسرعة، فصارت الناس تلتف حوله، ومع الوقت نال اعتراف السلطة ورضاها، وتجلى ذلك سنة 1985، بالإعلان عن ميلاد مهرجان موسيقى الراي بعاصمة الغرب الجزائري وهران.
ضمن هذا التحول الذي يعد مكسبا لموسيقى الراي ونجومها، لا يمكن استبعاد العامل السياسي، فقد شدد النظام الخناق عليه حينما رأى في مضامينه خطورة مجتمعية، وسمح له بدخول البيوت والقنوات الرسمية حين وجد أن الإجراء بات حتميا، والمرحلة تستدعي هذا الانفتاح، لا سيما في ذروة الصراع بين السلطة الحاكمة وحزب “الفيس” المنحل.
ويمكن الاستشهاد على ذلك بالعودة إلى أرشيف التلفزيون الجزائري الذي يحتفظ بحصة “بلاد موزيك”، وكانت تبث أغاني مصورة وحوارات مع أبرز الفنانين، وكان للراي نصيب في ذلك، وحفلاته التي سهر النظام وقتها على إقامتها ورعايتها في أشد مرحلة مرت بها الجزائر بعد الاستقلال، فثورة الراي رافقت حربا أهلية، اقتتل فيها إخوة الوطن وأصبحوا أعداء.
ومن مظاهر التجديد في الراي أنه أصبح يُقال للمؤدي “الشاب”، بعدما كان يُنادى بـ”الشيخ”.
هذا الانتقال على مستوى التعريفات ومضامينها رافقته ثورة أخرى على مستوى الآلات، فقد بقيت الأغنية البدوية وفية للقصبة (الناي) والقلال، أما الراي فقد انفتح وانسجم أكثر مع الغيتار الكهربائي والأكورديون والساكسوفون وغيرها.
أما الكلمات والألحان، فكانت تزداد أكثر كلما زادت المجتمعات في تحولاتها، وهذه الجزئية شكلت انقساما صريحا بين دعاة التجديد والراي القديم.
شهرة الراي.. ثورة اختارت الإيقاع والتوقيت المناسب
بينما كان العالم يكتشف إيقاع موسيقى الراي من خلال أغنية “دي دي” للشاب خالد (خالد حاج إبراهيم) سنة 1991، كان الجزائريون ينظرون إليها بمنطق الغرابة، فقد بدت بعيدة عنهم، وغريبة في إيقاعها وكلماتها عن “المرسم”، و”طريق الليسي”، و”بختة”، و”وهران وهران”، وكل ما قدم الشاب خالد منذ احترافه الغناء وهو ابن 14، وبعدما عوّدهم الشاب حسني ومامي وفضيلة والصحراوي ونصرو على أسلوب معين في الغناء والكلمات.
تغيرت بعض المعطيات، وتغير التعامل مع الراي محليا ودوليا، والأغاني الجزائرية التي غيرت ثوبها وارتدت الراي، كُتب لها فصل آخر من الشهرة والانتشار، فبعد النجاح الكبير الذي حققته أغنية “يا الرايح وين مسافر” بصوت وتصرف رشيد طه (1958-2018).
وقد تساءل كثير من الجزائريين عن سر إعجاب العالم، وانجذابهم للأغنية في شكلها وتوزيعها الفني الجديد، ثم اتضح فيما بعد أن الموسيقى التي قُدمت بها هي سبب حالة الانبهار بتراث دحمان الحراشي (1926-1980)، فقد أخرجت تلك الموسيقى أجمل ما كتب وغنى من محليته إلى العالم.
يعود كل الفضل في ذلك إلى رشيد طه، الموسيقي المثقف الذي اختار الإيقاع والتوقيت المناسبين، لإعادة بعث الروح في هذه الأغنية، بموسيقى الراي التي كانت في أوج شهرتها وانتشارها عربيا وعالميا، لا سيما أن شهرة الشاب خالد وجماهيرية الشاب “مامي” فسحت الطريق أمامها، ومهدت لهذه المسيرة.
وعليه ينبغي الإقرار بأن جهود رشيد طه، ومساعي خالد حاج ابراهيم، وفرقة “راينا راي”، والشاب حسني، والشيخة الريميتي، والزهوانية، وفضيلة وصحراوي وآخرين، جعلت للراي مكانا ومكانة.
تقلبات الراي.. حرباء تتلون بتحولات المجتمع
كانت أغنية “الزينة” لفرقة “راينا راي” الشهيرة مدخل الجزيرة الوثائقية للحديث عن الموضوع في وثائقي “الراي من النشأة إلى العالمية”، وقد تتبعت البدايات والمسار، وبحثت في أسباب الانتشار، وحاولت طرح فكرة تشكل هذا الفن بخصوصياته وموضوعاته، وخطوة الشاب خالد الذكية في نقله إلى العالم.
فقد عرف متى يرقصه بموسيقى عصرية في إيقاعها وآلاتها، وكيف يستعرض أمامه قدراته الصوتية النادرة بشعر عبد القادر الخالدي، وتراث بلاوي الهواري، وأحمد وهبي المتمثل في “بختة”، و”حمامة”، و”وهران وهران” وغيرها من الأغاني التي زاد الشاب خالد شهرتها، وعززت جماهيريته أيضا، بعدما طالته والشاب حسني جملة من الانتقادات في بداياتهما، ولكنهما واصلا المسار، وكان لكل منهما خياراته الحياتية والفنية.
وقد ذكر أحد المتحدثين للوثائقي أن أغنية “دي دي” جعلت العالم يهتم أكثر بالراي، بوصفه حركة فنية تستحق الدراسة والاكتشاف، فقد فتحت لصاحبها المجال للعمل مع شركات إنتاج عالمية كبرى مثل شركة “يونيفرسال”، والتعاون مع أسماء فنية بارزة كالفرنسي “جون جاك غولدمان” في أغنية “عايشة”.
كما ورد في شهادات المتدخلين، فإن الراي استطاع أن يتماهى مع كل الألوان الموسيقية العالمية، واخترق ذائقة الشعب، وتجاوز فكرة الحدود في وقت قصير، وخلق امتدادا موسيقيا جميلا بين غرب الجزائر وشرق المغرب، فأعراس المغاربة كان يحييها فنانون من الجزائر وشرق المغرب، كما أن بدايات مؤدي هذا الطابع من الجزائريين والمغاربة كانت من الأفراح.
ومن العناصر التي تغذى منها الراي اندماجه بسهولة مع فنون أخرى، وانفتاحه على كل الآلات الموسيقية من دون أن يخدش أذن المتلقي، وقد جعله ذلك دائم التجدد والانتشار، واستقطب جماهير غربية لا تستوعب مضمون الكلمات، لكنها تتفاعل مع الايقاع.
ولهذا تنقل وثائقي “الراي من النشأة إلى العالمية” بين الجزائر والمغرب وفرنسا، وحاول أن يوازن بين الأسماء القديمة والجديدة التي تبنت الراي، واختارته للتعبير عن أفراح الناس وخيباتهم، والبوح بالحب والعشق والتعلق.
كان تلك المواضيع هي السائدة في “الراي القديم” المحسوب على الشاب حسني مثلا، أما الراي اليوم كما يقول الموزع الموسيقي “هواري سليماني” فيطغى عليه العنف أكثر، فأصبحت الأغلبية تتغنى بالفراق وتغني للطلاق، وهذا شيء طبيعي جدا، لأن المواضيع تعكس طبيعة المجتمعات.
وقد تأثر الراي بتلك التحولات، لا سيما بعدما كانت القصة تبني وتؤثث أغاني شباب وشيوخ الراي، وتقدم للمستمع بشكل فني جميل، يجمع بين التأمل في اللفظ والاستمتاع باللحن، وذلك أمر توقف عنده لطفي عطار، واستشهد بأغاني راينا راي التي تعد مرجعية موسيقية تعود إليها الأجيال في كل مرة، كما تعود إلى إرث فرقة “عمارنة” التي تنحدر من موطن موسيقى الراي سيدي بلعباس.
وما لم يرد عن الراي وفنانيه في هذا العمل التوثيقي جاء في سياقات أخرى، حرصت الجزيرة الوثائقية على تدوينها، وتفكيك مضامينها، كحكاية أغنية “أصحاب البارود والكارابيلا”، و”يا لميمة ما تبكيش”، بصحبة الفنان الراحل محمد بوسماحة، الذي كان ذا ثقافة موسيقية مهمة جدا.
مهرجانات الراي.. سباق بين دول النشأة والمهجر
تسلمت الجزائر في 27 أبريل/ نيسان 2023، شهادة تسجيل الراي في قائمة التراث العالمي غير المادي للإنسانية، من قبل منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة (اليونسكو)، وذلك مكسب مهم لموسيقى رافقها الجدل في أكثر من مناسبة، من الميلاد إلى غاية التصنيف، فبعض الصراعات بين الأشقاء خرجت للعلن، وما عادت خفية على العالم.
وحتى لا يخلق الاختلاف في الرأي خلافا، وجب القول إن عناصر من التراث جزائرية، وأخرى مغربية، وبينهما تراث إنساني مشترك، والتقارب الثقافي حقيقةٌ علينا جميعا التسليم بها، وإن كان الراي جزائري الولادة، فالعيطة مغربية خالصة، كما أن بين الشعبين والثقافتين كثيرا من المسائل المشتركة، تتعدى حدودهما.
فمثلما أسست الجزائر مهرجان الراي، فقد أطلقت المغرب مهرجان وجدة لموسيقى الراي، وقد تألق أكثر في حين تراجع أداء مهرجانات الجزائر، وانقطعت ثم عادت بعد طول غياب. وفعلت الأمر نفسه تونس في طبرقة، وامتد تيار مهرجانات الراي إلى المهجر إلى فرنسا، فهي تضم كثيرا من أبناء الجالية المغاربية.
كما أن انتقاله إلى المهجر عزز فرص انتشاره، وعرّف غير المغاربيين عليه، وفتح له آفاقا جديدة، وخلق سوقا مهمة، ساهم الشاب خالد فيها مساهمة كبيرة، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: لو لم يبادر بهذه الخطوة، فهل كان الراي سيحظى بقاعدة جماهيرية كهذه؟
لا يمكن النظر لتاريخ الراي أو التعامل مع مساره وإكراهاته، كما يُنظر لباقي الفنون، ولا أن يتدارس بعيدا عما مر به من مضايقات ومؤثرات منذ خروجه من عباءة الأغنية البدوية، فلا أحد ينسى أنه فن اعترضته السلطة مرات عدة، لكنها أُجبرت على التعامل معه.
انحطاط الفن وصراعات القضاء.. مطبات قاسية
واجهت أغنية الراي جملة من التناقضات والانقسامات، كدخول البعض في خصومة معه من جهة، وإعجابهم بمضامينه وانتشاره العالمي من جهة أخرى، وبين هذا وذاك وجدت الأغلبية نفسها منسجمة معه، وغير قادرة على إعلان إعجابها بنجومه وأغانيهم، مكتفية بالدعوة علنا إلى تهذيبه حتى يصبح متاحا أكثر في الفضاءات العامة والخاصة.
فهي محطات لم يتحملها جيل واحد بل أجيال، وكان لكل جيل بصمته الخاصة وأسلوبه في التعبير، أما وهران بامتدادها المغاربي، والمتوسطي فقد تحملت مشقة الطريق الطويل الذي اعترضه الأغلبية، ودافعت عنه الأقلية.
وقد تراشقت أجيال الراي الاتهامات فيما بينها، واتُهم الجيل الجديد بأنه يقف وراء تراجع الكلمة والأداء، لا سيما مع موجة أغاني “الواي واي” التي جعلت الجمهور يقارن بين إرث الأب هواري بن شنات ومنجز الابن محمد بن شنات، ويتساءل عن المتسبب في هذا الشرخ بين القديم والجديد، وطغيان الابتذال على الحشمة، وفرض أغاني الملاهي على الجماهير، مما أعاد الجدل لموسيقى الراي، وخلق استياء كبيرا من مغنيها.
يحدث هذا في وقت كان نجوم الراي يبحثون فيه عن سبل تعاون جديدة، تقفز بهذا الفن خطوات أكثر، ومحاولات ومساع أفرزت سابقا “وردة الصحراء” التي جمعت الشاب مامي بالمغني البريطاني “ستينغ”، وجمعته بالإيطالي “زوكيرو فورناشياري” في “هادي هي الدنيا”، ولا نغفل أغنية “الهربة وين” التي أوصلت الراي للهند، وعرفتهم على نجم يدعى الشاب خالد.
والحديث عن منجز الشاب خالد الذي أحاله على العالمية، لا يمنعنا من التوقف عند بعض الاتهامات التي واجهته، فقد أوردت في الصحافة الجزائرية والعالمية أن القضاء الفرنسي حكم عليه سنة 2015 بتهمة السرقة الفنية لأغنية “دي دي”، بعد شكوى تقدم بها الشاب رابح مدعيا أنه صاحب اللحن الأصلي.
وبعد النظر في القضية، قررت المحكمة تغريم ملك الراي بـ200 ألف يورو، منها 100 ألف يورو تعويض عن الأضرار المعنوية، و100 ألف يورو تعويض عن الأضرار التي ألحقها بقانون حقوق المؤلف، ثم عادت محكمة الاستئناف بعد سنة أو أقل، وأبرأته من التهمة المنسوبة إليه، بحجة عدم تقديم أدلة تثبت حقيقة السرقة، ثم أغلقت الملف، وأبطلت القضية، وحكمت على صاحب الدعوى بتعويض الشاب خالد.
الشاب حسني.. حياة أنهاها الإرهاب ومسيرة خالدة
عاش الشاب حسني في حي قمبيطة الوهراني، وأقام الشاب خالد في حي الكميل، وكلاهما حيان شعبيان بعاصمة الغرب الجزائري وهران، وهي لا تبعد كثيرا عن مدينة سيدي بلعباس مهد الراي، ومدينة سعيدة التي وُلد فيها الشاب مامي (محمد خليفاتي).
اختلفت المسافات، وبين خيار البقاء والاغتراب تكلمت الأقدار، فقد عصفت رياح العالمية بخالد ومامي، وأنهت الجماعات الإرهابية مسار الشاب حسني، وكان الأكثر شهرة وشعبية.
ولا يزال حسني شقرون المعروف فنيا بالشاب حسني (1968-1994) ظاهرة فنية وحالة استثنائية لدى الجزائريين وغيرهم، حتى بعد مرور 30 سنة على اغتياله، فلم يستطع أي صوت أن يتجاوزه أو يأتي بأعمال خالدة كالتي قدمها في ظرف 7 سنوات فقط.
ومن ذلك نتأكد أن الأقدمية ليست هي التي تصنع النجاح دائما، فكل الأصوات القوية والثنائيات التي شكلت حالة فنية جميلة ونادرة، لم تستطع التفوق عليه، ولا بلوغ نجاح أغانيه التي وردت في أكثر من 180 ألبوما، أي ما يعادل أو يفوق 500 أغنية.
وبينما كان الجزائري يبحث أيام العشرية السوداء عن فرص للنجاة، كان حسني يعيش الحب، يدعو إليه ويتغنى به، ويغني للغربة والأم واليتيم والوطن، وقد لاحقته الشائعات مرات عدة ولم تنل منه، حتى تمكنت الجماعات الإرهابية من روح الرجل الذي لم يستسلم لتهديداتهم إلا في 29 سبتمبر/ أيلول 1994.
فلم تكن تكهنا ولا تنجيما أغنية “حسني مات” التي كان يصف فيها خبر اغتياله، وفجع والدته عليه، ثم توافد الناس على بيته، بل كانت أغنية طرحها في السوق بعدما طالته الشائعات، وحملات الترهيب والتخويف التي لم تتوقف إلى أن أنهت حياته، ولكنها لم تضع حدا لانتشار أغانيه حتى بعد اغتياله.
يحدث أن يتأثر الانسان بلحن يعجبه، أو كلمات تلامس الأحاسيس، أو أغنية تذكره بحدث سار أو موقف حزين، أما حسني فجمهوره من جيله أو الذي أتى بعده ينسجم انسجاما تاما مع أغانيه، علاقة طيبة شيدها الشاب الخجول مع محيطه ومحبيه.
كانت الجماهير يومئذ ترى في الراي متنفسا وأملا، فكسرت شوكة الجماعات الإرهابية وحظر التجول، وتحملت مشقة التنقل والخطر الذي يهدد حياتها، وتنقلت إلى ملعب 5 جويلية بالجزائر العاصمة، وانتظرت ساعات الليل الطويلة ليطلّ عليها ملك الأغنية العاطفية عند السادسة صباحا، بعدما تعاقب على الحفل نجوم الراي الكبار، ولكن الجماهير أتت لأجل حسني، فأيقضهم بأغنية “مزال الذكريات عندي”.
وقد قالت الشابة الزهوانية -بصريح العبارة- إن الجمهور جاء من أجله، لا من أجلنا نحن.
وقد عاد الشاب حسني إلى الأغاني الغربية، وأعاد بعض الألحان العربية. وهذه الاستعادات لا توحي بأنه كان ينوي سرقة النجاح من أحد، بل هي خيارات تعكس ذائقته الفنية، كما أن خياراته الدقيقة تؤكد هذه الفرضية، وتبرر مدى تأثره بالثقافة الشرقية، فلم يكن سميعا لعبد الحليم وجورج وسّوف وفريد الأطرش فقط، بل امتد إعجابه إلى موسيقى “يشيل المصري، ووقع اختياره على شارة مسلسل ليالي الحلمية، فالألبوم الذي تضمن هذه الإعادة بأغنية “راني خليتهالك أمانة” يشاع أنه بيع منه في ظرف أسبوع أكثر من مليون نسخة.
فحينما يتعلق بفنان القرن العشرين، لا يكون الأمر مبالغا فيه، لأنه ذات يوم دخل الأستوديو في الصباح ليسجل ألبوما، ثم عاد إليه مساء ليطرح شريطا ثانيا في غضون 24 ساعة، بناء على طلب الجماهير.
وقد اقتبس من أغاني عبد الحليم حافظ، وأخذ منه لحن “أهواك”، وطرحه بأسلوب شرقي رايوي في “علاش ديما وحدك علاش”، وفعل الأمر نفسه مع ألحان الفنان العالمي “خوليو اغليسياس” في أغنية “غدار”، ووظف لحن “كلام الناس” لجورج وسوف في أغنيته “علاش يا بنت الناس”، كما عاد لأغاني المحليين أمثال الشاب خالد، ومحمد لمين، ورابح درياسة، وفرقة “بوليفان”.
ويستحق “حسني شقروني” الشاب الحالم العاشق المتمسك بالجزائر أن تسرد قصته وحكاياته التي كانت تملأ الأماكن بهجة وسعادة، في مسلسل أو فيلم أو أكثر من ذلك، مثلما هو معمول به عالميا وعربيا.
فمن باب العرفان والتقدير والتوثيق أنجزت السينما أفلاما ووثائقيات ومسلسلات عن كوكب الشرق أم كلثوم، وعن أسمهان وعبد الحليم، وعن “سيلين ديون” و”مرسيدس سوزا” وغيرهم، ويحق لملك الأغنية العاطفية هذا النصيب من التدوين.
رشيد بابا.. صانع النجوم الذي أهمله التاريخ
بعد مقتل الشاب حسني بأقل من ستة أشهر، كتبت الجماعات الإرهابية مرة أخرى نهاية مأساوية للمنتج والموسيقي رشيد بابا أحمد (1946-1995)، وأجهضت مشروعا مهما لأحد أبرز المجددين في موسيقى الراي، وهو فنان استطاع إدخال الراي وفنانيه إلى مدينته تلمسان التي تمتلك نصيبها من الموسيقى الأندلسية.
ومن الأستوديو الذي يحمل اسمه واسم أخيه فتحي، خرجت أجمل الأغاني والأصوات، وكان رشيد بابا أحمد شاهدا على الجزء الأكبر من نجاحاتها، ولم يسعفه القدر أن يرى تتمة الحلم الذي آمن به ذات يوم.
ولم تنصف الشهادات التي تناولت الراي، أو الوثائقيات التي أنجزت عنه الثنائي رشيد وفتحي، فكثيرون يذكرون اليوم جهود خالد ومساعي مامي، والقلة تستذكر من صنع النجوم وكان أحد أسباب تألقهم، الملتحي الذي لا يتخلى عن قبعته ولا تفارقه الابتسامة، فقد كان يضع أستوديو التسجيل والتصوير تحت تصرف خالد وأنور وجلال وحميد وفضيلة وصحراوي وفرقة العمارنة وحميد ونجوم الصف وغيرهم.
اجتمع نجوم جيل كامل في أستديوهات رشيد وفتحي، من بينهم فضيلة وصحراوي، فلم يكونا مجرد ثنائي بقدر ما كانا فصلا من فصول أغنية الراي، فلا يمكن الحديث عن تحولاته ومؤديه ومخلفاته الموسيقية دون المرور بالاستثناء الجميل، الذي قدم نفَسا جديدا للأغنية “الرايوية”، وكان أول من تجول بالراي في أوروبا وأمريكا، حتى قبل وصول الشاب خالد للعالمية.
فالرصيد يومها كان مثقلا بأغانيهما المؤسسة لنجاحات تعدت حدود الوطن، وامتدت لجيل ما بعد العشرية السوداء، فرائعة “تالبوني فيك” ما تزال إلى يومنا هذا مرجعا لأجمل حقبة مرت على موسيقى الراي، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته.
تبقى ثنائية “فضيلة وصحراوي” استثناء لم يتكرر، فصحراوي فضل الاعتزال بعدما اقتنع بأنه قدم كل شيء وليس في جعبته المزيد، أما زوجته فضيلة فقد اختارت الانفصال عنه وواصلت المسار منفردة، وانتهى حديث العشاق الذي تحمّلته أكثر من أغنية، وأدركت أجمل قصص الحب أجلها.
الشيخة الريميتي.. أم الراي التي احتلت بجرأتها مسارح العالم
لم يكن المجتمع الجزائري المحافظ منفتحا ومتقبلا لفكرة غناء النساء موسيقى الراي، إلى أن اصطدم بجرأة سيدة الراي الأولى الشيخة الريميتي، واسمها الحقيقي سعدية بدياف (1923-2006)، وقد عُرفت بتمردها على سلطة المجتمع والنظام والأخلاق، وكانت بداياتها في الأعراس، شأنها شأن أغلب الفنانين.
ويمكن القول إن ارتباطها بالشيخ محمد ولد النمس العازف على آلة الناي، قد شكّل أولى خطواتها في مجال الاحتراف، وقد كتبت ولحنت لنفسها أكثر من 200 أغنية، وسجلت أول ألبوماتها سنة 1952.
سُرقت ألحان كثيرة من إنتاجات الشيخة الريميتي، ولم يذكر أنها صاحبة النسخ الأصلية. وهي تتحدث في تسجيل فيديو قديم عن أغنية “لاكمال” التي لحنها لاحقا صافي بوتلة، وغناها الشاب خالد سنة 1988، وزادت شهرتها أكثر في الحفل الباريسي الكبير “الشموس الثلاث”، حين اجتمع خالد ورشيد طه وفضيل، وتقول إنها هي من كتبتها وأول من أداها. كما كان لها رصيد مثقل بالأغاني، مثل “شرك قطع” و”أنا وغزالي” و”اداتني الحكومة” و”أنت قدامي وأنا موراك”.
كانت الشيخة الريميتي تضع الحشمة جانبا عندما تغني، وقد اضطرت للإقامة بفرنسا والتردد على الجزائر بين الفينة والأخرى، وظلت صورتها وسيرتها مرتبطة بتلك الجرأة التي تقترب من الابتذال، ولم يشفع لها التزامها الوطني وغناؤها للمجاهدين خلال حرب التحرير الجزائرية، وملاحقتها بكلماتها وأغانيها للحركيين الذين خانوا ثورة الشعب.
قدم المجاهد محمد عياشي شهادة في حقها بقوله إنها أدت دورا بطوليا بأغانيها، فتقول في مطلع أغنية سجلتها عام 1959 “الرقبة يروح يجاهد، والهانة يبيع خوه”، وقد أثرت في بعض الخونة، وحركت عملاء المحتل الفرنسي، ودفعتهم للانضمام إلى صفوف المجاهدين في الجبال، متأثرين بثورة الريميتي، وقسوة كلماتها عليهم، وقد فهمها أبناء الوطن ولم يكن العدو يدرك وقعها، ولا يستوعب مضمونها وقوة تأثيرها.
كانت الشيخة الريميتي بسيطة في مظهرها، وكانت فقيرة عاشت اليتم في سن مبكرة، ومتمردة لم تضع حدودا يوما لجرأتها، وقد تعاطف معها كثير من الناس لا سيما بعد رحيلها. ففكرة غنائها في بلدها لم يكن مرحبا بها، حتى لا نؤكد فكرة المنع، فالكثير كان يخشى الحديث عنها في إطار رسمي، ويتجنبها ويتفادى ذكرها حتى بعد وفاتها.
غنت الريميتي طويلا لجموع المهاجرين في أكبر مسارح العالم، ولا سيما في فرنسا التي كرمتها عام 2019، وسمى مجلس مدينة باريس إحدى ساحات الدائرة 18 باسمها، وقد رثتها جريدة “لوموند” الفرنسية يوم رحيلها، فكتبت “رحلت أم الراي”.
ولم يعرف الراي جرأة كالتي اشتهرت بها الريميتي، وإن وُجد فقد كانت بدرجة أقل من نساء جيلها، أمثال الشيخة الجنية، والشيخة زلاميت، أو من اخترن هذا الفن من جيل فضيلة والزهوانية، وصولا إلى الشابة خيرة وجنات ودليلة وسميرة وغيرهن.
تغيرت الأجيال وبعض الذهنيات، وبات المجتمع أكثر تقبلا للمغنيات، وأصبحت لديهن اليوم حرية أكبر، كما أن الراي أصبحت تغنيه نساء الغرب والوسط، وامتد تياره إلى العاصمة التي احتكرت مركزية الفعل الثقافي، لكنها كانت تمثل الهامش حين يتعلق الأمر بالراي، فقد استوطن الولايات الغربية من الوطن.
كتابة التاريخ.. فن أهملت قصته السينما والحكومات
لم تهتم الجزائر كثيرا بكتابة تاريخ أغنية الراي كما يليق بهذا الفن العريق المثقل بالمواقف والأزمات والصدمات أيضا، وما وجد لا يكاد يتعدى بعض المؤلفات على قلتها، أو التقارير المتلفزة.
أما الجدل الدائر حول أصوله، فهذا هو الواقع. صحيح أن جزءا بسيطا من سيرة الشاب حسني ورد في شكل فيلم، ولكنه لا يرقى فنيا لحجم الشخصية ومنجزها. كما أن أرملته لجأت للقضاء واعترضت على بعض ما تضمنه، ومن المتوقع أيضا أن ترد حياة الأب الروحي لموسيقى الراي أحمد زرقي في فيلم سينمائي يعدّ حاليا، فهو لم يأخذ حقه من الظهور والسرد.
يعدّ الباحث والأكاديمي الراحل الحاج ملياني (1951-2021) أكثر من اشتغل على التراث الشعبي غير المادي من منظور علمي معرفي، وكان الراي ضمن هذا الاهتمام، وهو صاحب كتاب “مغامرة الراي.. موسيقى ومجتمع” (1996)، وقد أنجز دراسات ومؤلفات تعد مرجعية يمكن العودة إليها، لفهم السياق الذي جاءت ضمنه موسيقى الراي، بقوتها وتحولاتها وتجاذباتها.
فحين بدأ مطلع الثمانينات دراسة هذا الطابع جديا، قيل له ما الجدوى من التعمق في فن سيزول بظهور موجة جديدة. ولكن الواقع أثبت العكس، بل ذهب ملياني إلى أبعد من ذلك بدفاعه المستمر عن ضرورة امتزاج الراي بأنماط موسيقية أخرى، وهو القائل “الموسيقى عندما تنغلق على نفسها تموت حتما”.
ما خلّفه الحاج ملياني من أبحاث قيمة وعميقة، وما كتبه الإعلامي حميدة العياشي، وما جاء به كتاب “أعراس النار” للروائي الصحفي سعيد خطيبي، يؤسس لمادة توثيقية مهمة وحقائق نادرة، وهي خطوة كان لا بد أن ترافق هذا المسار لموسيقى شقت طريقها من الجزائر نحو المغرب وتونس وباريس وأوروبا، ثم وصلت إلى المشرق العربي متأخرة قليلا.
وقد توقف سعيد خطيبي في “أعراس النار” عند إسهامات أبرز فناني الراي، وشيوخ الأغنية البدوية أمثال الشيخ حمادة والشاعر مصطفى بن إبراهيم، ورموز الأغنية الوهرانية مثل بلاوي الهواري ذو الـ500 لحن، والشيخة الريميتي الظاهرة التي كتبت مئات الأغاني وهي لا تجيد القراءة والكتابة، وحاولت التعبير في أغلبها عن مسائل لا تقوى المرأة على التصريح بها في مجتمع ذكوري، ولا حتى البوح بها بينها وبين نفسها، فما كان يُغنى ليس مجرد أشعار تنساق وراء الكلمة المعبرة التي يمتزج فيها الألم بالأمل، بل كانت تتضمن مواقف أصحابها أيضا.
ولا يتسع المجال لذكر كل الأسماء التي تبنت هذه الموسيقى، واتخذتها توجها فنيا، فقد تذكر اسما فيسقط منك منجز آخر. ويبقى الأكيد أن الراي الذي أفرزه الجيل الذهبي في الثمانينيات والتسعينيات هو انعكاس لذوق من يتابعهم، والتزامهم تجاه هذا الفن، وارتباطهم الكبير به في سن مبكرة.
والمؤكد أن الراي لا يزال يبحث عن روح ونفَس وتجديد، ويحاول أن يصنع مجدا قد ضاع منه، أو يُخيل لنا وله ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الموسيقي عموما -سواء كان مغنيا أو منتجا أو ملحنا- كان يقيس نجاح ألبوم أو أغنية بعدد الأشرطة التي بيعت، واليوم يترقب كم وصلت نسب المشاهدة.
وبين هذا وذاك حقيقة يجب التسليم بها، وهي أنه لا يمكن النظر لهذا المسار بعين البساطة، بل هو تراكم سنوات، بدأ بأغنية سافر بها مهاجر إلى الضفة الأخرى من المتوسط (فرنسا)، وأمتع بها مجموعة من المغتربين، ثم أصبح الراي استثمارا مهما لبعض المنتجين في الغرب.
حتى أن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في زيارته للجزائر منذ سنتين، حرص على زيارة “ديسكو مغرب”، وهو محل بيع الأشرطة والأستوديو التي سجلت به أشهر الأغاني، ويقع وسط مدينة وهران، وقد أصبح اليوم متحفا أو مزارا. وقال “ماكرون” إن زيارته هذه جاءت للتعبير عن احترامه وإعجابه بموسيقى الراي.