“أصوات من الظل”.. حياة المؤدين السوريين في المهجر اللبناني
تحت عنوان “أصوات من الظل”، عرضت الجزيرة الوثائقية فيلما للمخرجة السورية ديمة الجندي، يتحدث عن مجموعة من الفنانين السوريين، يعملون على أداء الأصوات باللهجة السورية في المسلسلات التركية “الدوبلاج”.
وسلطت المخرجة الضوء على معاناة هؤلاء الفنانين في (بلد الاغتراب) لبنان، وعن ذكرياتهم وحنينهم إلى وطنهم الأم سوريا، وعن أحلامهم المستقبلية، بين استكمال رحلة الغربة إلى المنافي البعيدة أو العودة إلى الوطن.
أصوات الظل على الشاشة
لم تكن مخرجة الفيلم ديمة الجندي مهتمة بالمسلسلات التركية المدبلجة بأصوات سورية، ولكن بتأثير من والدتها وصديقاتها، وجدت نفسها مع الوقت متعلقة بمتابعة هذه المسلسلات، لا سيما حين تعرفت على أصحاب هذه الأصوات من الممثلين السوريين؛ عروة كلثوم ورغد المخلوف وخالد عمران.
تقول ديمة عن هذه التجربة: كان هؤلاء أول من فتح لي أبواب الأستوديو وأبواب قلوبهم على السواء، واكتشفت عن طريقهم أسرار مهنة الدوبلاج، وطريقة عيشهم في الغربة أيضا، وتحديات الحياة التي قد تدفعهم إلى الرحيل مرة أخرى في أي لحظة. لقد عشت 3 قصص، عن معاناة الفن وألم الغربة والحنين إلى الوطن، عشتها معهم بتفاصيلها حتى النهاية.
يحرص عروة على التواصل كل يوم تقريبا مع والدته في سوريا، فيحكي لها عن عمله في الصباح في أستوديو الدوبلاج، وبعد الظهر يذهب إلى مقهى دواوين مع الأصدقاء، ثم يذهب إلى عمله الثاني طباخا في مطعمه بأحد أحياء بيروت. حياة رتيبة فيها الملل وبعض المتعة، ولكن الحياة تجري.
ولا ينسى عروة أن يطمئن عن معيشة أهله في الشام، وعن الماء والكهرباء التي يكثر انقطاعها ثم تعود، وهي صورة مشابهة للحال في بيروت كذلك. ثم يسأل والدته هل تشاهد مسلسل “ما وراء الشمس”، فتقول له: أكيد، وأتلهف لسماع صوتك وأصوات أصدقائك.
“خسرتُ هناك كل شيء، وبدأت هنا من الصفر”
ويتحدث عروة كلثوم عن طبيعة عمله فيقول: انقطعت عن العمل في الدوبلاج 3 سنوات لأسباب سياسية، ورجعت حديثا للعمل في مسلسل “بنت الشهبندر”، وأعكف الآن على قراءة عمل آخر، وبشكل مواز أعمل طباخا في مطعم لي. لا أفكر حاليا بالعودة إلى سوريا، لأنني مطلوب للجيش “خدمة احتياط”، وكذلك لأسباب سياسية أخرى.
ثم يتحدث عن تجربته في الطبخ في بيروت قائلا: أحب الطبخ، فهو يمثل لي مزاجا وموسيقى من نوع خاص، وكنت اشتغلت في أكثر من مجال، وقدّمت استشارات لغيري من السوريين في كيفية فتح متاجر وأعمال تناسبهم، وفتحت محلّين لنفسي، فالشغل ليس عيبا مهما كان.
فقد اشتغلت في أحد الأيام في موقف سيارات بالأجرة، فجاءت إحدى الفتيات لتركن سيارتها، وعندما رأتني عرفتني وطلبت مني أن أتصور معها، فرآنا صاحب العمل، وظنّ أنني أشتغل عنده حيلةً لأصور برنامج “كاميرا خفية”، فطلب مني ترك العمل فورا دون أن يسمع مني.
وعن تركه سوريا قال: اضطررت لترك سوريا من أجل موقف سياسي، وخسرت هناك كل شيء، وبدأت هنا من الصفر. ما زالت آخر صورة في مخيلتي، ففي يوم الوداع نادتني أمي من الشرفة لترمي لي عبوات مياه للشرب، فقلت لها: واحدة تكفي يا أمي، خلال ساعة ونصف سأكون في بيروت، ولكنني انتظرت أكثر من 7 ساعات على الحدود بين سوريا ولبنان.
ثم يتحدث عن عمله في الدوبلاج قائلا: نتحدث اللهجة السورية البيضاء ذات الحروف الواضحة، وهي الأقرب في الأداء إلى اللهجة التركية، وليست مثل اللهجة الشامية، لهجة أهل دمشق، وفي الدوبلاج نعيش الدور كاملا، ولا نؤدي أصواتا فقط، بل نتقمص الشخصية بكلّيتها.
“أمي لا تستطيع العودة إلى سوريا، ولم أرها منذ عام”
تتحدث رغد مخلوف، وهي ممثلة ومؤدية لأصوات سورية، فتقول: حين كنت في سوريا كان دخلي ودخل زوجي يكفياننا بارتياح، أما هنا في لبنان فقد اختلف الأمر كثيرا، فالناس يعملون ساعات كثيرة، وقد يُضطرون للعمل في أكثر من وظيفة لكسب أقل ما يمكن أن يكفيهم، هذا حال أهل البلد من اللبنانيين، فما بالك بالسوريين الذين هاجروا أو لجؤوا إلى هنا.
ثم تتحدث عن حلم العودة الذي قد تبخر، قائلة: لم أعد أستطيع العودة إلى سوريا، فكثير من العائدين مُنعوا من السفر ثانية، وأنا قد رتبت أمور حياتي وعائلتي هنا. والدتي تعيش في سويسرا، وأتواصل معها بالهاتف، وهي تدعو لنا دائما بالسعادة، والرزق الذي لا يُطغي ولا يفسد.
ثم تبث حنينها إلى أمها، فتقول: أمي مثلي لا تستطيع العودة إلى سوريا، ولم أرها منذ عام تقريبا، لقد اشتقت إليها كثيرا، وهذه أيضا من الصعوبات التي أواجهها، فالهاتف لا يغني عن اللقاء الحقيقي، وأتمنى لقاءها لأبثها همومي، فلا أحد يسمعني مثلها.
“تنفّس عني الضغوطات التي تثقلني”
ترك الموسيقار الساخر خالد عمران سوريا في 2011، لاستكمال عمله في الموسيقى، وما يزال يتذكر آخر لحظة له في سوريا، حين وقف والداه يودعانه من شرفة منزلهما.
يتساءل عمران بسخرية لاذعة: هل يستطيع الإنسان أن يشتغل في الموسيقى بسوريا؟ ويجيب نفسه: لا أظن، فليس كل صوتٍ صاخب عملا موسيقيا.
يقول خالد عن نفسه: أحب الموسيقى، وأتذوق الأصوات وأحس بها، درستُها وتعلمتها، فأنا مخلوق بشري أمارس نشاطات البشر، وأحس بآلامهم وأحلامهم، وأتفاعل مع أناس من كل أصقاع الأرض. أسترخي عندما أعزف أو أسمع الموسيقى، فهي تنفس عني الضغوطات التي تثقلني، وتترجم ما أحس فيه بداخلي، وأرجو أن يسمعه الناس.
ويتحدث عن فرقته قائلا: أسست فرقة “طنجرة ضغط”، وهذا الاسم هو أدقّ تعبير عما يعتمل داخل أنفسنا من مشاعر وهموم، فـ”طنجرة الضغط” اختراع بشري فريد، صنعه الإنسان لطبخ الطعام وإنضاجه بسرعة وكفاءة، وجعل لها صمّام تنفيس حتى لا تنفجر.
ونحن -معشر البشر- رؤوسنا مثل “طنجرة الضغط” إذا لم يكن لها صمام تنفيس فقد تنفجر يوما ما، وهذا التنفيس يمكن أن يتمثل في الموسيقى، أو أي نشاط بشري آخر، يقدمه الإنسان لينفس به عن مشاعره وما يعتمل داخل نفسه من ضغوطات وهموم.
يأسف خالد لحال بعض الأطفال السوريين في شوارع بيروت، فبعض العائلات تضطر لإرسال أولادها إلى الشوارع، من أجل التسوّل، ويقول: لا مبرر لانتهاك هذه الطفولة البريئة في سبيل كسب بعض النقود، فمن حق هذا الطفل أن يلعب ويتعلم ويحقق أحلامه، لا أن تباع طفولته بثمن بخس، فالأطفال لم يخلقوا للحروب والعمل وجني المال.
متاعب المهنة في المهجر اللبناني
يلتقي عروة ورغد وخالد في الأستوديو، وهم يعملون على دوبلاج مسلسل “ما وراء الشمس”، ويتبادلون المزاح والطرائف عن عملهم سابقا في دوبلاج مسلسل هندي، ومدى اختلافه كليا عن الأعمال التركية.
ويدور نقاش بين رغد وعروة عن طبيعة عمل الدوبلاج بعد انتقالهم إلى لبنان، فبعض الشركات استغلت حاجة السوريين للعمل فخفّضت أجورهم، ثم دخل على القطاع من ليسوا بممثلين، ولم يدرسوا مهنة التمثيل كما درسها عروة وأصدقاؤه.
وتطرق الحديث إلى السوريين في لبنان، وما يعيشون بين مهجر ومهجر، وحياتهم من شتات إلى شتات، فبعضهم ما يلبث حين يفك أحزمة متاعه حتى يربطها مرة أخرى، في انتظار باخرة أو قارب متهالك يمخر به عباب البحر إلى عوالم أخرى.
وفي سياق العمل أيضا تلتقي رغد مع عروة في مقهى، فتخبره بأنها تكتب لموقع صحفي، وتقترح عليه موضوعا للكتابة، لكي يشاركها الأفكار، وعنوانه: “ما الذي تغير علينا نحن كمؤدي أصوات في المسلسلات التركية بين العمل في سوريا أو عملنا الآن من لبنان؟”.
ذكريات الشام وهواجس الهجرة الثانية
يلتقي عروة ورغد وخالد في مطعم، وعلى مائدة الغداء تعود بهم الذكريات إلى معهد التمثيل في دمشق، فيتذكرون تلك الأيام بحلوها ومرّها، ويكتشفون أن وجودهم في لبنان عابر ومؤقت، فيعودون لمناقشة فكرة السفر إلى الخارج.
أما خالد فلا يحب السفر إلى أمريكا أو أوروبا، ولكنه لم يحزم أمره باتجاه آخر معين، وأما عروة فيبدو أنه قد حدد بوصلته باتجاه كوبا، ولكن الحنين يشده دائما للعودة إلى البيت الذي عاش فيه في الشام.
في حين تتخيل رغد نفسها دائما في بيتها بالشام، وتحاول أن تقتطع صورا جميلة وتجمعها معا في شريط واحد، فهي لا تحب العيش ببلد تحس فيه بالقمع والمنع، ومع أنها لم تتعرض للأذى المباشر من النظام في سوريا، فإنها كانت تحس هناك بأنها مقيدة.
يقول عروة: ليس المكان وحده هو المؤثر، بل الناس والذكريات هم الذين يصنعون الفرق، فثلاثتنا درسنا معا وعملنا معا، وها نحن أولاء في بلد الاغتراب معا، هذه هي الصور الجميلة التي أود الاحتفاظ بها.
ويقول خالد: كل واحد منا له قصة واتجاه معين في الحياة، ولكن ما يجمعنا هو أننا نفتقد بعضنا، ويسأل أحدنا عن صاحبيه ونلتقي، في النهاية نحن بشر ونريد الانتماء إلى وطن، ولكن أي وطن؟ هذا الذي يُقتل فيه الناس ويقمعون صباح مساء؟ أم هذا الذي يَقتل أبناءه ويعتقلهم ويخفيهم قسريا؟ أنا لا أنتمي لوطن كهذا.
معاناة في بلد الاغتراب
يشكو خالد من أن وثيقة إقامته في لبنان منتهية، وجواز سفره محجوز لدى الأمن العام، ويقول: فليعطوني إياه وسأسافر في اليوم التالي، إنهم يزعمون أننا “مرحَّب بنا” ثم يلاحقوننا ويضايقوننا، اتركونا نغادر أرجوكم.
وتقول رغد: حصلت لنا مواقف كثيرة هنا، لا نعرف هل هي مواقف طبيعية، أم أننا مستهدفون لأننا سوريون؟ هنالك مواقف عنصرية من بعض اللبنانيين، أحاول أن أتفهمها، وأتمنى مع الزمن أن يدرك اللبنانيون أننا -نحن السوريين العاديين- لم نختر هذا الواقع، ولكننا أجبرنا عليه.
ويستذكر خالد قصص بعض أصدقائه الذين اختاروا الهجرة البعيدة، فقد مكث أحدهم 7 ساعات في تابوت للموتى، ثم اكتُشف أمره، وآخر سافر إلى تركيا ليجد طريقه لبلد أوروبي من هناك.
وتتحدث رغد عن عدد كبير من الأصدقاء هاجروا وتركوا لبنان إلى وجهات كثيرة، معظمهم ركب البحر، إذ لم يجدوا فرصة للعيش في لبنان، وصارت عودتهم لسوريا مستحيلة، ولم يبق أمامهم إلا البحر، وهنا اغرورقت عيناها بالدموع وتهدّج صوتها حزنا.
لقد تغلّب واقع الحياة الثقيل على أحلام هؤلاء النفر الثلاثة، ولكنها الحرب والقهر والغربة هي التي أوصلتهم إلى هذه الحال، وصارت لقاءاتهم المحدودة في بلد الاغتراب لا تذكرهم إلا بقصص الحنين إلى الوطن، ممزوجة بحكايات الرحيل إلى البعيد المجهول.